بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنبني الشيطان

          179-قوله صلعم : (لَوْ أنَّ أَحَدَكُمْ(1) إِذَا أَتَى أَهْلَهُ...) الحديث. [خ¦3283]
          ظاهر الحديث الإخبار بأنَّ المرء إذا أتى أهله وقال:(2) جَنِّبْنِي الشَّيطان وجنِّب الشَّيطان ما رزقتَنِي فإن / كان بينهما ولد لم يضرَّه الشَّيطان ولم يسلَّط عليه، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّه قد جاء في الحديث قبله بزيادة التسمية وقوله: (اللهُمَّ) وهنا ليس فيه التسمية المذكورة(3)، ولا قوله: (اللهُمَّ)، فيحتمل أنْ يكون سكت عن التسمية(4) لكونها قد تقرَّر الأمر بها مطلقَا ومقيدًا، ويحتمل أنْ يكون جاء هذا بلا تسمية ولا قوله: (اللهُمَّ) تحقيقًا لغفلة بعض النَّاس عند ذلك الحال لغلبة(5) الشهوة عليهم، فيكون ذلك الحديث أكمل في الفعل ويكون هذا المجزىءَ ولا أقلَّ مِن ذلك.
          ويحتمل أنْ يكون هذا الحديث لمن نسي(6) التسمية حتى أولج فيكون هذا اللفظ مجزئًا عنه ويحصل به المقصود مِن بركة الاتباع، كما قال علماؤنا رحمة الله عليهم فيمن(7) نسي التعوُّذ عند قضاء الحاجة حتى شرع في الفعل أنَّه يتعوَّذ إذ ذاك بقوله: (أعوذُ مِن الخُبْثِ والخَبائِث)، تنزيهًا لاسم الله تعالى أنْ يذكر في ذلك المحلِّ، وتحفُّظًا على الأتباع أنْ يتركوه حين استيقظوا(8) إليه، فهذا مثله والله أعلم.
          وفيه دليل: على أنَّ مِن حسن(9) أدب الشريعة الكناية عن الأشياء التي يستحيا منها وإن كانت ممَّا أُبِيحت يؤخذ ذلك مِن قوله ╕ (أَتَى) لأنَّه كناية(10) عن ذلك الأمر المتفاحش ذكره(11) بالإتيان. /
          وفيه دليل: على أنَّ لفظ (الولد) يقع(12) على الذَّكر والأنثى وقد اختلف العلماء فيمن حبس شيئًا على ولدِه وولدِ ولدِه، هل يدخل في الحبس أولاد البنات أم لا؟ على قولين، وفي هذا الحديث(13) حُجَّة للذين قالوا بدخولهم في الحبس(14)، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ).
          وأمَّا قوله: (جَنِّبْنِي الشَّيطَان) فمعناه(15) أنَّه لا ينكح معه، فإنَّه قد جاء أنَّ المرء إذا نكح ولم يذكر الله تعالى عند ذلك أنَّ الشَّيطان ينكح معه، كما أنَّه إذا أكل أو شرب ولم(16) يسمِّ الله(17) أكل الشَّيطان معه وشرب.
          وأمَّا قوله ╕: (مَا رَزَقْتَنِي) فيه دليل على أنَّ الأولاد مِن جملة ما يُنْعِم الله تبارك وتعالى به على بني آدم، لأنَّه ╕ جعلهم مِن جملة ما يرزقون بقوله (رَزَقْتَنِي(18)).
          وفيه دليل: على أنَّ حقيقة تأثير الأسباب إنَّما هو بالقدرة لا بذواتها، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕ (فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ) وقد لا يكون، والسبب واقع الذي هو النكاح فلم يكن السبب يؤثر إلا عند إرادة القادر وإلَّا لم يكن شيء، وهذا مشاهَد في عالم الحس، لأنَّ المرء يجامع أهله مرارًا ولا يُرْزَق مولودًا، وقد يكون ذلك الفعل مرة واحدة / ويوجد معه الولد، فحقيقة التأثير(19) هو بالقدرة(20)، وهذا حكم متعدٍّ في الأشياء كلها لا يقصر(21) على هذا الموضع وحده، فالأسباب أثر الحكمة والتأثير بها أثر حقيقة القدرة، فإخفاء القدرة في أثر الحكمة مِن عظيم القدرة، يضل(22) مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، حكمة بالغة.
          وهنا بحث، وهو أنْ يقال: لِمَ قال: (بَيْنَهُما) ولم يقل: كان لهما أو غير ذلك؟ فيه وجوه:
          منها: أنْ يكون المعنى بينهما ممَّا خرج منهما مِنَ الماءَيْن، فإنه قد جاء أنَّ العظام والعصب مِن ماء(23) الرجل وأن اللحم والشعر والجلد مِن ماء المرأة.
          ووجه(24) آخر وهو تنبيه لطيف، وهو أنَّ حقيقة الخلق الذي فيه، وتنويع خلقه مِن كبد وقلبٍ ومُصْرانٍ وجوارح على ما هي عليه هذه الصورة الآدمية(25) مِن الترتيب البديع ليس ذلك(26) مِن الماء الذي خرج، أين الشبه الذي بينهما؟ وإنَّما هو بقدرة القادر الذي جعل مِن تلك النطفة البشرية(27) أنواعًا مختلفة كما قال تعالى في ثمَر الشجرة: {انْظُرُوا إِلَى ثمَرِهِ إِذَا أَثمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99] معناه: حين ينتهي طيبه، أين النسبة التي بين(28) عود الثمَّرة مِن الحلاوة التي في ثمَرها أو(29) الحموضة أو الحمرة أو الصفرة أو السَّواد أو الخضرة أو غير ذلك مِن الألوان، والعودُ(30) كلُّه على حدٍّ واحد في / اللون والطعم(31) والثمَر مختلف {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ(32) لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4].
          ويحتمل أنْ يكون ذلك إشارة إلى الروح(33) والحياة اللذَينِ(34) هما حقيقة الإنسان أنَّ ذلك ليس منها لا مِنْ طريق(35) أصل ولا فرع، وإنَّما هو ممَّا جعله القادر فيما خلق ممَّا كان بينهما، ولذلك(36) قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ...}[المؤمنون:12 - 14] يعني: عند(37) نفخ الروح جاء خلْقًا آخر ليس مِن جملة تلك التطويرات التي كان بعضها أصلًا لبعض بل هذا خلق آخر بقدرة قادر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11].
          يؤيِّده قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ(38) عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي هي مِن أمر الله تعالى لا عن سبب، وإن كان الغالب في الأشياء أنَّها موجودة عن الأسباب فكل ذلك إنَّما هو صادر عن قدرة الله تعالى كما تقدَّم البحث قبل، لكن هذا بالقدرة الظاهرة دون سائر(39) الحكمة، ولا يحيط بعلمها إلا مخترعها جلَّ جلاله(40).
          واحتمل أنْ تكون هنا الإشارة إلى خلق النفس على(41) قول مِن يقول: إنَّ النفس شيء والروح شيء آخر، لأنَّه قد ذكر العلماء / القائلون بهذا: أنَّ النفس خَلْق مجسَّد(42) مثل خلق بني آدم، لها يدان ورجلان وعينان وجوارح مثل بني آدم سواء بسواء، وأنَّها مِن العالم اللطيف، وأنَّها نزلت(43) في جسد بني آدم فتكون جسدًا لطيفًا أُلْبِسَ عليها جسد كثيف، وهي الفخارة التي خلقت مِن ذلك الماء(44) المهين، وهي أعني النفس التي أعطيت المَيْزَ والفَهمَ وهي التي تتنعم وتتألم(45) وتفرح وتحزن إلى غير ذلك ممَّا يشبه هذه المعاني، وإنَّما الروح لحياة الجسد ليس إلا، ولا تفهم ولا تتنعم ولا تفرح ولا تحزن، وأمَّا النفس فإنَّها مِن العالم الذي لا يفنى، وأنَّها تبقى في القبر مع الجسد وقد يفنى الجسد إلا عَجْبَ الذَّنَب وهي لا تفنى، ولم يذكر أحد أنَّها مخلوقة مِن الماء المذكور، وإنَّما هي بقدرة الله تعالى كما ذكر مِن العالم الروحاني، فسبحان مَن هذه بعض آثار قدرته التي قد حارت فيها العقول.
          واحتمل مجموع ما ذكر، وفي(46) هذه العبارة أكبر دليل على ما خص به سيِّدنا مُحمدٌ(47) صلعم مِن الفصاحة والإعجاز في كلامه، لكونه أتى بلفظة تحتوي على جميع ما ذكرنا وزيادة على ذلك إذا أَمْعَنَ فيها النظر.
          وفيه دليل: أعني في هذه اللفظة وما تحتوي(48) أنَّ العلم الذي هو الفهم لحديثه صلعم وما فيه مِن الفوائد / أنه مِن جملة مواهب الله تعالى لمن يشاء(49)، يشهد لذلك قوله ╡ : {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] قال العلماء: إنَّه(50) الفهم في كتاب الله تعالى وكذلك حديثه صلعم لأنَّه كله مِن الله وعن الله، إمَّا بالواسطة أو بالإلهام، وقد تقدَّم الكلام على هذا في أوَّل الكتاب.
          وقوله ╕: (لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيطان وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ) هل هاتان اللفظتان لمعنى واحد أو هما لمعنيين؟
          احتمل، لكن الذي استقرئ مِن(51) الشريعة أنهما لمعنيين:
          (أحدهما): أنَّه قد أخبر الصادق صلعم بما معناه: «ما مِن مولود إلا والشَّيطانُ يَطعُنُه(52) في خاصرته» فذلك هو الضرر المشار إليه هنا والله أعلم.
          وأمَّا (التسليط) فهو ما ذكره الله ╡ في كتابه حيث يقول: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ(53) وَرَجِلِكَ}[الإسراء:64] وما جعل ╡ له(54) مِن التسويل والإغواء لبني آدم لقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } [الأعراف:17] فهذا هو معنى الإشارة إلى قوله ╕: (وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ) أي: لم يكن يقدر على ضرره عند الولادة بأن يطعن في خاصرته، ولا يقدر على ضرره بالإغواء والتسويل كما ذكرنا، ويكون / ممَّن يدخل تحت قوله تعالى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}[الحجر:42].
          وفيه دليل: للأخذ(55) بسدِّ الذريعة، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (وَجَنِّب(56) الشَّيطانَ مَا رَزَقْتَنِي) ذريعة أنْ يكون لهما ولد وقد لا يكون، فما بقي القول إلا احتياطًا مِن أجل(57) توقُّع الولد، فهذا هو سدُّ الذريعة بعينه.
          وفيه دليل: على أنَّ الحكم في الشرع يعطى للغالب، يؤخذ ذلك مِن أمره صلعم بهذا عمومًا، ومِن النَّاس مَن يكون عقيمًا لا يلد(58)، فلمَّا كان العقيم نادرًا لم يُجعل له حُكم.
          وفيه مِن الفقه: أنَّ الأصل إذا كان طيبًا جاء الفرع طيبًا، يؤخذ ذلك مِن أنه إذا كان الأب طيِّبًا باتِّباعه السنَّة وفعل في هذا الموضع ما أحكمته السُّنَّة وامتثل الأمر جاء الفرع وهو الابن مِن أهل(59) الخصوص كما أبديناه آنفًا.
          وفيه دليل: على أنَّ(60) الخير كله إنَّما هو في كتاب الله تعالى وسُنَّةِ رسوله(61) صلعم، يؤخذ ذلك مِن أنه مَن لم يعرف الكتاب والسُّنَّة لم يعرف مثل هذا الخير وما فيه وكان نكاحه بهيميًا شَهوةً(62) ليس إلا وكذلك في جميع أمره.
          وفيه مِن الفقه: أنَّ فضيلة العِلم إنَّما تكمل بالعمل لأنَّه ╕ قال: / (إِذَا أَتَى أَهْلَهُ(63)) ولم يقل: عَلَّم(64).
          رزقنا الله فهمَ كتابه وسنة(65) نبيه صلعم والعمل بذلك بمنِّه، لا ربَّ سواه(66).


[1] قوله: ((لو أن أحدكم)) ليس في (ج).
[2] في (ج): ((قال: اللهم)).
[3] في (ج): ((مذكورة)) وفي (م): ((تسمية مذكورة)).
[4] قوله: ((فيحتمل أن يكون سكت عن التسمية)) ليس في (ج).
[5] في (ج) صورتها: ((لقلة)).
[6] في (ج): ((سمى)).
[7] في (ج): ((رحمة الله عليهم ورضي عنهم فمن)).
[8] في (ج) تحتمل: ((استبطؤوا)).
[9] في (ج): ((أحسن)).
[10] في (م): ((كنا)).
[11] قوله: ((الأمر المتفاحش ذكره)) ليس في (ج) و (م).
[12] في (ج): ((تقع)).
[13] زاد في (م): ((على ولده وولد ولده هل يدخل في الحبس أولاد البنات أم لا على قولين وفي هذا الحديث)).
[14] في (ج): ((الجنس)).
[15] في (ج): ((فمعنا)).
[16] في (ج): ((لم)).
[17] في (م): ((أو شرب ولم يذكر اسم الله)).
[18] في (ج): ((رزقني)).
[19] زاد في (م): ((هنا)).
[20] في (ج): ((القدرة)).
[21] في (ج): ((يقصد)).
[22] في (ج): ((ليضل)).
[23] في (ج): ((الماء)).
[24] في (ج): ((وجه)).
[25] قوله: ((هذه الصورة الآدمية)) ليس في (ج).
[26] في (ج): ((كذلك)).
[27] في (ج): ((النقطة اليسيرة)).
[28] في (م): ((الشبه الذي بين)). في (ج): ((أي النسبية التي بين)).
[29] قوله: ((أو)) ليس في (ج).
[30] في (ج) و (م): ((العود)).
[31] في (ج): ((من الطعم واللون)).
[32] في (ج): ((الآية)).
[33] في (م): ((مختلف في أن ذلك إشارة إلى الروح)).
[34] في (المطبوع): ((اللتين)).
[35] في (ط): ((لا طريق)).
[36] في (ج): ((وكذلك)).
[37] في (م): ((عنه)).
[38] قوله: ((ويسألونك)) ليس في (م).
[39] في (ج) : ((متأثر)).
[40] العبارة في (م): ((دون متأثر الحكمة يعلمها إلى مخترعها جل جلاله)).
[41] في (ط) و(م): ((عن)).
[42] في (ج): ((جسد)).
[43] في (ج) م: ((تركب)).
[44] قولك: ((الماء)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] قوله: ((وتتألم)) ليس في (ج).
[46] في (ج): ((في)).
[47] كلمة: ((محمد)) ليست في (ط) و(م).
[48] في (ج): ((تحوي)).
[49] قوله: ((لمن يشاء)) ليس في (ج).
[50] في (ج): ((أن)).
[51] زاد في (م): ((كلام)).
[52] في (ج) و (م): ((يطعن)).
[53] قوله: ((بخيلك)) في (م) ليست واضحة.
[54] في (ج): ((له ╡)).
[55] في (ج): ((الأخذ)).
[56] في (م): ((جنب)).
[57] في (ج): ((وجل)).
[58] في المطبوع: ((لا يولد له)).
[59] صورتها في (م): ((أصل)).
[60] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[61] زاد في (ج): ((محمد)).
[62] في (ج) و (م): ((شهوة)). كالأصل.
[63] في (ج): ((قال إذا لم يعمل به)).
[64] في (المطبوع): ((أعلم)).
[65] زاد في (ج): ((محمد)).
[66] في (ج): ((بمنِّه وكرمه)) وفي (م): ((صلعم بمنه وكرمه)).