بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن رجلا حضره الموت فلما يئس من الحياة

          188- قوله صلعم : (إنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ...) الحديث. [خ¦3452]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ الخشية لله مِن موجبات المغفرة، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: كيف فعل هذا بنفسه ما فعل(1) وظن أنَّ ذلك / منجٍ له مِن الله ╡ ؟ فإن(2) كان هذا الشخص غير مؤمن فليس تتناوله(3) الرحمة وقد نالها، وإن كان مؤمنًا فكيف يجتمع هذا الذي فعل(4) مع الإيمان وقد جاء في رواية أخرى: «لئن قَدَر الله عليَّ فلَيعذِّبنِّي(5) عذابًا شديدًا»؟
          فالجواب عن ذلك: أما أنْ يكون غير مؤمن فلا، لأنَّ الحديث يدلُّ على إيمانه، لأنَّه قد أيقن بالحساب(6) وأن السيِّئات يعاقَب عليها وهذه(7) علامة المؤمن.
          وأمَّا كونه فعل ذلك بنفسه، فلعلَّه كان في شريعتهم جائزًا ومثله(8) لمن أراد التوبة مثل ما فعل بنو إسرائيل الذين لم تُقبَل(9) توبتهم حتى قَتَلوا أنفسَهم، واحتمل أنْ يكون ذلك جهلًا منه ببعض الصفات.
          وقد قال العلماء: إنَّ الجهل ببعض الصفات(10) لا يُخرِج صاحبَه عن الإيمان، وقد يكون ذلك عن حال خوفٍ غَلَب عليه حتى أخرجه عن حال التمييز وهو أظهرها والله أعلم، فإنَّ(11) عمر بن الخطاب ☺ الذي سمَّاه سيِّدنا صلعم الفاروق الذي فرَّق الله ╡ به بين الحقِّ والباطل مِن أجلِ أنَّ يوم إسلامه أظهر الله تعالى الإسلام وعُبِد الله جهرًا، كان(12) إذا ورد عليه الخوف يأتي بابَ حُذَيْفةَ في جوف اللَّيل ويقول(13): ناشدتُكَ الله أنا ممَّن عدَّني النَّبي صلعم في المنافقين؟ فيقول حذيفة: والله ما أنتَ منهم، فيقول له: إنَّك(14) عندي لصادق ولكن(15) عملي يشبه عملهم. فيرجع إلى بيته / فيبكي على نفسه حتى يصبح، وربما التزم(16) مِن ذلك الفراش حتى يعوده أصحابه، وهو ممَّن شهد له سيِّدنا صلعم بالجنَّة، لكن عند الخوف وقوَّته كان لا يَهتَمُّ لشيء(17) مِن ذلك ويخاف على نفسه أشدَّ الأشياء وهو النفاق، وآخر الحديث يصدِّق ذلك لكونه حين سأله جلَّ جلاله: (لِمَ فَعَلْتَ هذا(18)؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ(19)) فصدَّق الله تعالى مقالته وغفر له.
          وفيه دليل: لأهل الأحوال الذين يقولون: الحال حامل لا محمول، لأنَّ صاحبه لا يبقى له معه اختيار، ولذلك قال صلعم «لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه(20) لاستويا» فمِن أحد وجوهه أنَّه بأيِّهما اتَّصف المؤمن بلغ(21) مثل ما بلغ به صاحب القسم الآخر، وقد قيل لبعض الفقراء في بعض أحواله: إنْ جئتنا بالخوف أمَّنَّاك، وإن جئتنا بالرجاء بلَّغناك، ويحتمل أنْ يكون المراد بقوله: «لَئِنَ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ» بمعنى: لئن ضيَّق الله عليَّ بإقامة عدله سبحانه وتعالى فيكون مثل قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] معناه: أنْ لن نضيق عليه، وكذلك قوله(22) تعالى {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] أي: ضَيَّقَهُ(23) عليه، وهذا هو الظاهر والله ╡ أعلم.
          وفيه دليل: على عظم(24) قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن جمع ذلك الشخص بعدما فعل بنفسه مثل ذلك الأمر وأَظُنُّ(25) أنَّه قد جاء مِن طريق آخر أنَّ جمعه كان في مثل لمحة(26) الطرف، فسبحان مَن لا تعجز قدرته عن شيء أراده.
          وفيه دليل: على جواز تسمية الشيء بما قرب منه، يؤخذ ذلك مِن قوله: (حَضَرَهُ الْمَوْتُ) ولم يعنِ(27) بذلك إلا قرب ذلك بالعلامات(28) الدالة عليه، لأنْ عند حضوره الذي هو وقوعه لا يمكن ذلك الوقت وصية ولا غير ذلك.
          وقوله / (يَوْمًا رَاحًا(29)) أي: كثير الريح، وقوله (فِي الْيَمِّ) أي: في البحر، وقد جاء من طريق آخر: «نصفه في اليمِّ ونصفه في البرِّ».
          وفيه دليل: على فضل هذه الأمَّة، يؤخذ ذلك مِن كونها اطلعت على أخبار مَنْ قبلها مثل هذا وأمثاله، ولم يطلع أحد على أخبارها، لأنَّها آخر الأمم.
          ومن فوائد ما يترتَّب على الإخبار بهذا الحديث أنْ نعلم قدرَ ما مَنَّ الله تعالى علينا به مِن قبول التوبة في مثل هذا الوقت الذي فعل هذا الشخص هذا الأمر العظيم فيه بنفسه، مِن(30) تلك الوصية لقوله صلعم : «إنَّ الله يقبل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِر» أي: تبلغ الروح إلى الحلقوم وهو عند معاينة ملك الموت.
          مَنَّ الله علينا بشكرها مِن نعمةٍ، ومَنَّ علينا بقبول التوبة قبل الغرغرة بفضله(31)، وقد قال: داوِ بِمَراهِمِ التوبةِ جُرْحَ ذنبك، فبُرؤُها أسرعُ مِن طرفة العين(32)، واحتَلْ(33) في جميع أسبابها فلعل ميسِّرَ الأمور يُيَسِّرُها بفضله(34).


[1] قوله: ((ما فعل)) ليس في (ج).
[2] في (م): ((فقد)).
[3] في (ج) صورتها: ((يتنازله)) ولعلها تصحيف.
[4] زاد في (ج): ((ما فعل)).
[5] في (ج) و (م): ((ليعذبني)).
[6] في (ج): ((بالحياة)).
[7] في (ج): ((وهذا)).
[8] في (ط): ((جائز ومثله)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] في (ج): ((الذي لم يقبل)).
[10] قوله: ((وقد قال العلماء إن الجهل ببعض الصفات)) ليس في (م).
[11] في (ج) و (م): ((لأن)).
[12] في (م): ((وكان)).
[13] في (ج): ((ويقول له)) وفي (م): ((في الليل ويقول له)).
[14] في (م): ((أنت)).
[15] في (ج): ((لكن)).
[16] في (ج): ((التزمه)).
[17] في (ج): ((إلى شيء)).
[18] في النسخ: ((هذا)) وهي رواية مسلم. والمثبت من البخاري.
[19] ((يا رب)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ج) و (م): ((رجاء المؤمن وخوفه)).
[21] في (م): ((نبغ)).
[22] في (ج): ((قال)).
[23] في (ط) و(م): ((ضيق)).
[24] في (ج) و (م): ((عظيم)).
[25] في (ط): ((وظن)).
[26] قوله: ((لمحة)) ليس في (ج).
[27] في (ج): ((يعين)).
[28] في (ج): ((المعاملات)) وفي (م): ((بالمعاملات)).
[29] في (ج): ((يوما رأى رحا)).
[30] في (م): ((لمن)).
[31] آمين، وقوله: ((بفضله)) ليس في (ج).
[32] في (م) و (ج): ((عين)).
[33] في (ط): ((واحتمل)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (ج) و (م): ((بفضله ييسرها)).