بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق

          205- قوله: (قَوْلُ أَبِي هُرَيرَةَ ☺: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ(1)...) الحديث. [خ¦5076]
          ظاهر الحديث يدلُّ على(2) نفوذ القدر الذي جفَّ به القلم، فلا تنفع(3) معه حيلة مِن الحِيَل، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ مِن السنَّة شكوى الشَّخص بما به أو ما(4) يتوقَّعه مِن الأذى لمن يرجو بركتَه، يؤخذ ذلك مِن شكوى أبي / هريرة ما يخافه على نفسه مِن العنت(5) إلى النَّبي صلعم.
          ومنها: أنَّ للمسترعَى عليه أنْ يشكو ما به إلى راعيه.
          وفيه دليل على أنَّ النِّكاح لا يتعيَّن إلا عند القدرة على الصَّداق، يؤخذ(6) ذلك مِن قوله: (وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّساءَ(7)).
          وفيه دليل على جواز تكرار الشكوى للراعي ثلاثًا، وكذا(8) لذوي الفضل ممن تُرجَى بركتهم.
          وفيه دليل على أنَّ سكوت ذوي الفضل عن الجواب دليل على عدم نجح ما قصده فيما شكاه لهم، فإن اجتزأ السائل بذلك السكوت في أوَّل مرَّة أو ثانية، وإلاَّ جاوبه المسؤول في الثَّالثة، ولا يترك جوابه في الثَّالثة فإنَّه مِن قبيل الازدراء بالسائل، وهذا أنْ يزدري أحد بأخيه المسلم(9)، يؤخذ ذلك مِن شكوى أبي هريرة إلى النَّبي(10) صلعم ثلاثًا، فسكت عنه(11) ╕ في الأولى(12) والثانية، وجاوبه في الثَّالثة لأنَّ مِن خُلقه ╕ الحياءُ، وهو مِن شعب الإيمان، فلمَّا لم يكن له عنده ممَّا سأل(13) مخرج أعرض(14) عنه في الأولى لعلَّه يقنعه(15) ذلك، وكذلك(16) في الثانية، فلمَّا بلغ الثَّالثة جاوبه مِن أجل تقرير الحكم، وجاء: لا حياء في الدين عند الضرورة(17).
          وفيه دليل على أنَّ مِن الأدب أنْ يقدِّم طالب الحاجة عذره قبل طلب الحاجة، يؤخذ ذلك مِن ذكر أبي هريرة ☺ عذرَه أوَّلا وهو قوله: (إنَّي رَجُلٌ شَابٌّ)، ولا خلاف / أنَّ الشاب(18) هو أشدُّ في شهوة النكاح مِن غيره، ولذلك جاء تعجُّب ربِّك مِن الشاب ليست له صَبْوَة، لقوة الدَّواعي إليه(19) في ذلك.
          وهنا بحث وهو: أنْ يُقال: لِمَ أمر ╕(20) أبا هريرة بالتوكُّل والاستسلام للقدر، وأمر غيره بعمل السبب(21) في هذا الشأن نفسه حين أمر ╕ بالصوم لمن لم يطق الزواج(22) وقال: «هو له وِجاء»؟
          فالانفصال في الجمع بينهما هو أنَّه(23) صلعم حكيم الدِّين أو(24) طبيب الدِّين يعطي لكلِّ إنسان ما يصلح به كما يفعل طبيب الأبدان، لَمَّا كان الذينَ(25) أمرهم بالصوم فيه فائدة وقمع لتلك الشهوة المردية(26) أمرهم به، ولَمَّا كان الغالب على أبي هريرة الصوم لأنَّه كان مِن أهل الصُّفَّة، وقد(27) كان كما أخبر عن نفسه أنَّه(28) يُغشى عليه مِن الجوع، ولا يعرف أحدٌ(29) ما به، وهذه الحالة(30) أشدُّ ما يكون مِن المجاهدة في الصوم ولم ينقصه مِن تلك الشهوة الباعثة شيء أمرَه(31) بالتوكُّل خالصًا.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه أنَّه مهما أمكن المكلَّفَ عملُ شيءٍ مِن الأسباب الذي هو أثر الحكمة بشرطِ أنْ يكون على لسان العلم، فلا(32) يتوكَّل إلا بعد عملها، ولا يتوكَّل ويترك أثر الحكمة فإنَّه مخالف للحكمة(33)، وإذا لم يقدر على شيء مِن أثر الحكمة فليتوكل على مولاه، وليوطِّن نفسه على الرضى بما جرت به الأقلام، ولا يتعب نفسه في أنْ يعمل(34) شيئًا مِن الأسباب، ولا بدَّ ويرى أنَّ ذلك منجٍ له ممَّا يخافه أو مبلغ له(35) لِمَا يرجوه، فإنَّ ذلك مخالف / للسنَّة نعوذ بالله مِن ذلك، وهذا القسم هو الذي أهلك كثيرًا مِن النَّاس.
          وفيه دليل على أنَّ أقوى الأسباب أو أكثرها إذا لم تكن موافقة(36) القدر لا تنفع، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (فَاخْتَصِر(37) عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ) معناه: أي اعمل على التسليم لَمَّا سبق لك في القدر أو ذر أو اترك التسليم واعمل ما شئت مِن الأسباب، فإن عملك تلك الأسباب مع سابقة القدر لا ينفعك، وقد جاءت رواية(38): «فاختصِ على ذلك أو ذر» لأنَّ أقوى الأسباب في منع النفس مِن أنْ يقع الشخص في العنَت الذي هو الزنى أنْ يقطع الجارحة التي بها تقع الفاحشة، لأنَّ الفحل مِن البهائم إذا خصي لا يمكن له نكاح، ثمَّ مع ذلك لا يمنعه ذلك(39) مِن وقوع ما قُدِّرَ عليه مِن ذلك.
          وفي هذا تسلية(40) عظيمة للعاجزين عن الأسباب فيما يرجون نَيْلَه أو(41) يخافون وقوعه، وقوة في الإيمان بأنَّ الله على كلِّ شيء قدير، وأنَّ الأمور تجري بمقتضى إرادته بأسباب وبغير أسباب كيف شاء لا تتوقَّف(42) إرادته على شيء(43) بلزوم يلزمه فعله أو تركه بل إرادته تنفذ كيف شاء(44).
          وفيه دليل: على أنَّ ما جبل عليه طبع المكلَّف ليس بعذر(45) له في ترك ما أمر بتركه أو فعل ما أمر بفعله، يؤخذ ذلك من أنَّ أبا هريرة شكا ما طبعت عليه البشرية في حين شبيبتها عسى يكون له في ذلك عذر، فلم يعذر، فيه لأنَّه أُخبِر أنَّ ما قُدِّرَ عليه يلحقه، / فإن قُدِّرَ عليه الوقوع فيما نُهيَ عنه وجب(46) عليه الحدُّ الذي حُدَّ له، نعوذ بالله مِن شرِّ ما جبلنا عليه بمنِّه وكرمه(47).


[1] في (ج) صورتها: ((العتب)).
[2] قوله: ((يدل على)) ليس في (ج).
[3] في (ج) و (م): ((ولا ينفع)).
[4] في (ج): ((أو بما)).
[5] في (ج): ((العتب)).
[6] قبلها في (ط): ((في الغالب الذي عليه بعقد الأحكام، إلا حتى يكون معه ما يصدقها، وما به ينفق عليهن)) والعبارة بدونها مستقيمة.
[7] قوله: ((النساء)) ليس في (ج) و (م).
[8] في (ج) و (م): ((وكذلك)).
[9] كذا العبارة في (ط)، وقوله: ((ولا يترك جوابه في الثَّالثة... بأخيه المسلم)) ليس في (ج) و (م).
[10] في (ج): ((للنبي)).
[11] قوله: ((عنه)) ليس في (ج).
[12] في (ج): ((الأول)).
[13] في (ج): ((سأله)).
[14] في (ج) صورتها: ((أوض)) وهو تصحيف.
[15] في (ج): ((يضعه)).
[16] في (ج): ((لعله يضعه ذلك، وسكت عنه)).
[17] قوله: ((وجاء: لا حياء في الدين عند الضرورة)) ليس في (ج) و (م).
[18] في (ج): ((شاب والشباب)) وفي (م): ((شاب والشاب)).
[19] في (م): ((الدواعي عليه))، وفي (ط): ((الداعي عليه)).
[20] في (ج): ((لم أمر النبي صلعم)).
[21] في (ج): ((سبب)).
[22] في (ج) و (م): ((النكاح)).
[23] في (ج): ((وِجاء.. والجواب أنه)) وفي (م): ((وِجاء والجمع بينهما هو أنه)).
[24] قوله: ((حكيم الدين أو)) ليس في (ج) و (م).
[25] في (م): ((للذين)).
[26] في (ج): ((رفع تلك الشهوة المؤذية)) وفي (م): ((المؤذية)).
[27] في (ج): ((وأنه قد)).
[28] في (ج): ((من نفسه ان)).
[29] في (ج): ((أحدا)).
[30] في (ج) و (م): ((الحال)).
[31] في (ج): ((ولم تزل تلك الشهوة الباعثة أمره)) وفي (م): ((ولم تزل عنه تلك الشهوة الباعثة أمره)).
[32] في (ج): ((لا)).
[33] زاد في (ج) و (م): ((الشرعية)).
[34] في (ج): ((تعمل)).
[35] قوله: ((له)) ليس في (م).
[36] في (ط): ((بوفاقة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] في (ج) و (م): ((فاختصِ)).
[38] قوله: ((فَاخْتَصِرعَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ... لا ينفعك، وقد جاءت رواية)) ليس في (ج) و (م).
[39] قوله: ((ذلك)) ليس في (ج) و (م).
[40] في (ج): ((تسلة)).
[41] في (ج): ((و)).
[42] قوله: ((إرادته بأسباب وبغير أسباب كيف شاء لا تتوقف)) ليس في (ج).
[43] في (ج): ((الشيء)).
[44] في (ط): ((شاءت)).
[45] في (ج): ((يقدر)).
[46] في (م): ((ووجب)).
[47] قوله: ((وكرمه)) ليس في (ج) وفي (م): ((بمنه ويمنه وبكرمه)).