بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث أبي جحيفة: رأيت بلالًا جاء بعنزة فركزها

          230- قوله(1): (رَأَيْتُ بِلاَلًا جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ...) الحديث. [خ¦5786]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على أنَّ العنَزة سِترة للمصلِّي، وأنَّ المارَّ خلفها لا شيء عليه ولا على المصلِّي، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها في صفة العَنَزة، وهل تجزئ في سِترة المصلي غير تلك الصفة؟
          فأمَّا صفتها فقد ذكر العلماء أنَّها مثل مُؤْخِرة الرَّحل طولًا وغلظًا، وقد جاء عنه صلعم حين سُئِل عن سُترة المصلِّي فقال: (قَدْرَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ).
          ومنهم مَن حَدَّها بما يقرُب مِن ذلك وهو أن يكون طولُها ذراعًا وغلظها / غلظ الرمح، وبقي الخلاف بينهم فيما ليس(2) على تلك الصفة، مثل سَتْرِ الثَّوبِ وما أشبهه، فمَن لحظ تلك الصفة التي كان هو(3) صلعم فَعَل، وقال:(4) لا يجزىء غيرها، ومَن عَلَّلَ وقال: ما جُعِلَت السُّترة إلا مِن أجل عدم التشويش أجاز ذلك، ولذلك اختلفوا في الخطِّ في الأرض هل يجزىء عن السِّترة أم لا؟ على قولين.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على جواز الصلاة بالتشمير، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله: (مُشَمِّرًا(5)) إلا أنَّه(6) نصَّ الفقهاء أنَّه لا يكون ذلك التَّشمير(7) مِن أجل الصلاة، فإذا كان لضرورةٍ ما فله أن يصلي به على حالته.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ السُّنَّة في السَّفر التَّشْمير، يؤخذ ذلك مِن هذه الصفة لم تُرْوَ عنه ◙ إلا في السفر(8).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أن إقامة الصلاة لا تكون إلا بعدما يفرغ مِن كلِّ ما تحتاج الصلاة إليه والتهيئة لذلك، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن أن بلالًا لم يُقِم الصلاةَ إلا مِن بعد ما فَرغ مِن ركز العَنَزة.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ أيضًا على أنَّ وقت الشروع(9) في أمور الصلاة مِن الإقامة وما يقرب منها لا يُشتغل بشيء مِن الأشياء وإنْ قلَّ(10)، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن كون بلال(11) فرغ مِن رَكْزِ العَنَزة وهو(12) شيء يسير جدًا، وحينئذ أخذ في الإقامة، وبلال لا يفعل ذلك إلا بأمر النبيِّ صلعم.
          ويترتب عليه مِن الفقه خلوُّ القلب عند التلبُّس بالعبادة مِن كلِّ شيء / وإنْ قَلَّ، يؤيد هذا قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7- 8]
          وفيه إشارة إلى أنَّ المسافر يُقدِّم في سفره ما يحتاج في دِينه مِن ضروراته بحسب ما يعرف مِن طريقه، ويرجع ذلك في رَحله(13)، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن حمله صلعم العَنَزة في رحله، ولأجل هذا قال أهل التوفيق(14): ينبغي للمرء أن يكون له في بيته تراب طاهر أو(15)حجرٌ مُعَدٌّ للتيمم مِن أجل إن يطرقْه بالليل(16) مرض لا يمكنه معه الطهارة بالماء، فإذا كان عنده أحد الأشياء التي يجوز التيمُّم بها تيمَّم، ولم تتعطَّل(17) عليه فريضة و إلا كان مفرِّطًا في دينه.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أن القَصْر(18) في السفر أفضل، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله: (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) لأنَّ العلماء اختلفوا في القَصْر في السفر فمِن قائل بالوجوب، ومِن قائل بضده إلا لعذر، ومِن قائل بجوازه، والذين قالوا بجوازه اختلفوا أيضًا أيُّهما أفضل؟ هل القَصْر أو ضده بحسب ما ذكر في كتب الفروع؟
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ(19) مِن السُّنَّة حُسْنَ الزِّيِّ في الصَّلاة، يؤخذ ذلك مِن قوله: (فِي حُلَّةٍ) والحُلَّة عندهم هي(20) أحسن الزِّيِّ، لأنَّها ثوبان تستر الجسد والرأس(21).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ(22) لمن تأوَّل السُّترة وعلَّلها بأنَّها لزوال التشويش، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله: (وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ العَنَزَةِ) فإنَّه لا شيء للخاطر أشدُّ تشويشًا مِن مرور النَّاس والدوابِّ بين يديه.
          وبقي بحث هل جَعلُ(23) العنزة / وهي على ذلك القدر الذي تقدَّم ذكره قبل؟ هل ذلك تعبُّدٌ لا يُعقَل له معنى؟ أو هو ممَّا يُعْقَل له معنى؟ فإن قلنا(24): لا يُعْقَلُ معناه، فلا بحث، ووجب الاتِّباع لا غير(25)، وإن قلنا: لها معنى وهو الأظهر فما هو؟ فنقول والله أعلمُ:
          لَمَّا كانت الصلاة لها تلك الحُرمة العظيمة كما تقدَّم ذكره في حديث الإسراء، وكانت قبلُ في الأمم الخالية لا يُوقِعونها إلا في المواضع التي نُصِبت لها، وقد أمر الله ╡ برفع تلك المواضع إكرامًا للصلاة التي تُوقَع(26) فيها بقوله ╡ : {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [النور:36].
          ثمَّ إنَّ الله ╡ ممَّا خصَّصَ به سيِّدَنا صلعم أنْ جُعِلَت له الأرض مسجدًا وطَهورًا، أي: في كل موضع منها يجوز إيقاع الصلاة فيه كما تقدَّم في الحديث قبل، بقوله ◙ : «حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ». وقال ◙ في شأن المارِّ بين يدي المصلي: «لأَنْ يَقِفَ أَرْبَعِيْنَ خَيْرٌ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» فبحلول وقت أداء الصلاة صارت جميع الأرض مستحقَّة للمُصَلِّي(27) يوقع صلاته حيث شاء منها، وبقيت حقوق النَّاس منها مِن المرور وغيره متعذرة ممنوعة حتى يفرغ(28) هذا من صلاته، فأحكمت السُّنَّة بجعل العَنَزةِ تحديدًا للبقعة التي اختارها المصلِّي لوقوع صلاته، وبقي ما عداها مِن الأرض لجميع النَّاس لا حَجْرَ عليهم في تصرفهم / فيها مِن مرورٍ وغيره، فجاء قوله صلعم : «لَا ضَرَر وَلَا ضِرارَ» فبقيت حرمة الصلاة على ما هي عليه، وبقي النَّاس على ما لهم في الأرض مِن المنافع لم يضيَّق عليهم، لأن الدِّينَ كما تقدَّم يُسر.
          ولذلك قال صلعم في الذي(29) يمرُّ بين السُّترة والمصلي: «إِنَّه شَيْطَانٌ» لكونه خالف حدود الشريعة(30)، وبهذا التعليل يصحُّ ما جاء مِن جواز أن يكون الخطُّ في الأرض سُترة، فإنَّ البقعة تتحدد(31) به وتنحاز مِن غيرها وتكون العَنَزة أفضلَ مِن الخط، لأنَّها أكثر فائدة في حقِّ المارِّ، فإن المارَّ قد لا يرى الخطَّ ويمرُّ بين السُّترة وبين المصلي فيقع في الإثم، والعنَزة(32) بذلك القدر لا تَخْفى على أحد، ولهذه الفائدة والله أعلم جُعِلَت في الارتفاع قدرَ مُؤْخِرة الرَّحل(33)، لأنَّ ذلك القدر مِن الارتفاع لا يخفى على أحد.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ سيِّدنا صلعم لا يفعل مِن الأمور كلها إلا الأرفع والأفضل، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن أنَّه لَمَّا كانت العنَزة فيها زيادة الفائدة التي ذكرنا كان يحملها في رحله، وعلى هذا التوجيه الذي ذكرناه يتبيَّن فائدة قوله ◙ : (سُتْرَةُ الإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ) لأنَّ بها تحيَّزت البقعة التي للصلاة أوَّلًا، ويكون آخرها بقدر ما تبلغ إليه صفوفهم، فتنبَّهْ إلى هذا التوجيه تجده بفضل الله تعالى يجمع لك معاني الأحاديث التي وردت في هذا النوع مِن أنواع الصلاة، ولا يكون بينها تعارض إن شاء الله تعالى، وغيرُه(34) / مِن التعاليل قد ينكسر في بعضها.
          وقد قيل: (الفقه بالفهم فانتبه، لا بالرِّواية وإن عَلَت)(35).


[1] العبارة في (م) و (ج): ((من الجليس السوء. أو كما قال ◙. وقال بعضهم في هذا المعنى: يقاس المرء بالمرء إذا هو ماشاه وللشيء من الشيء مقايس وأشباه. قوله:)).
[2] في (ج) و (م): ((فيما لم يكن)).
[3] قوله: ((هو)) ليس في (م) و (ج).
[4] في (م) و (ج): ((قال)).
[5] في (ج): ((مشمرٌ)).
[6] زاد في (م) و (ج): ((قد)).
[7] قوله: ((التشمير)) ليس في (م) و (ج).
[8] قوله: ((يؤخذ ذلك من هذه الصفة لم تُرْوَ عنه ◙ إلا في السفر)) ليس في (م) و (ج).
[9] في (ط): ((الإشراع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] العبارة في (م): ((إليه والتهيؤ لذلك يؤخذ ذلك أن بلالا لم يقم الصلاة إلا بعدما فرغ من ركز العنزة وفيه دليل على أن من وقت الشروع في أمور الصلاة من الإقامة وما يقرب منها لا يشتغل بشيء وإن قل)) وفي(ج): ((...وفيه دليل على أن من وقت الشروع في أمور الصلاة من الإقامة وما يقرب منها لا يشتغل بشيء وإن قل)).
[11] في (ج): ((يؤخذ من بلالًا)).
[12] في (م): ((وهي)).
[13] العبارة في (م) و (ج): ((ما يحتاج من ضروراته لدينه بحسب ما يعرف ومن طريقه ويرفع ذلك في رحله)).
[14] في (م): ((قال العلماء)).
[15] في (ج): ((و)).
[16] في (ج): ((الليل)).
[17] في (ط): ((يتعطل)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] في (ط): ((التقصير)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] قوله: ((أن)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ط): ((هو)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] العبارة في (م) و (ج): ((تستر الجسد كله)).
[22] في (ج): ((دليلًا)).
[23] في (ط): ((جعول)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] العبارة في (م) و (ج): ((وبقي بحث وهو أن يقال هل جعل العنزة على ذلك القدر الذي تقدم ذكره تعبد لا يعقل له معنى أو هو مما يعقل له معنى فإن قلنا)).
[25] قوله: ((لا غير)) ليس في (ج).
[26] العبارة في (م): ((في الأمم الخالية لا يوقعونها إلا في المواضع التي توقع)).
[27] في (ط) و(ج): ((للمصلين)).
[28] في (ط): ((يرفع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] قوله: ((الذي)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[30] في (م): ((حدوده الشرعية)).
[31] في (ج): ((تحدد)).
[32] قوله: ((والعنزة)) في (م) ليست واضحة.
[33] في (م): ((مؤخر الرحل)).
[34] العبارة في (ط): ((أصلًا بالجملة الكافية))، والمثبت من (ج) و(م).
[35] العبارة في (ج): ((في بعضها. الفقه وقد قيل لنا بالفهم فانتبه لا برواية وإن علت)).
وفي (م): ((ولا يكون بينها تعارض إن شاء الله تعالى وغيره من التعليل قد ينسر في بعضها وقد قيل الفقه بالفهم فانتبه لا برواته وإن علت)).
وفي (ط) هنا: ((اللهم واجعل ما أنعمت علينا به في هذا الحديث مما أظهرته على يد محمد نبيك الكريم من باهر عظيم قدرتك وما أبديته لنا من أنوار سرِّ حكمته، فما تعبدت به عبادك المؤمنين نورًا في قلوبنا، وتوفية في إيماننا، وثلجًا في يقيننا، وتزكية في أعمالنا، وبلِّغنا الزلفى وحسن المآب، إنك أنت الكريم الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه أفضل ما صَلَّى على أحد من خلقه صلاة دائمة بدوام ملكه كما ينبغي لجلاله وكرمه. تنجز الجزء الثاني من كتاب «بهجة النفوس وتحليتها في معرفة ما لها وما عليها» شرح مختصر البخاري المسمى بـ «جمع النهاية في بدء الخير وغايته» يتلوه إن شاء الله تعالى قوله: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلعم فَرُّوجُ حَرِيرٍ...الحديث. غفر الله لكاتبه ومؤلفه ومالكه وقارئه ومستمعه ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، عدد ما علم وزنه وما لا يعلم، وأستغفر الله مثل ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذرياته أضعاف ذلك ذرة ذرة، وعلى كلِّ ذرة أستغفر الله)). هنا تنتهي نسخة (ط)، وما بعد هذه العبارة ليس في (ط)، وهو مثبت من النسخ الأخرى (ج) و (م) والأصل فيها (ج).