بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

باب: إذا وهب دينًا على رجل

          111-قوله: قال النبي(1) صلعم : «مَنْ كَانَ لهُ عَلَيْهِ حَقٌّ(2)...» الحديث. [خ¦51/21-4069]
          ظاهره يفيد أن من ترتَّب في ذِمَّتِه حقٌّ من الحقوق أنَّه لا يخلصه إلا الأداء أو التحلُّل مِن صاحبه والكلام عليه مِن وجوه:
          منها(3): تبيين جميع الحقوق وكيف / الخروج منها حقًا حقًا.
          ومنها: لِمَ ذكر ما عليه ولم يذكر ما له؟
          فأمَّا الحقوق فهي على ثلاثة أقسام: إمَّا ماليَّات، وإمَّا بدنيَّات، والبدنيَّات ضَرْبان: ذمًّا وأذاة(4) مثل جرح أو ضرب، وإمَّا أعراض، ولابدَّ لكل(5) مِن ترتُّب في ذِمَّته مِن هذه(6) شيء مِن تخليص ذِمَّته، إمَّا بالأداء إن كان مما يمكن فيه الأداء أو التحلُّل وإلَّا خيف العقاب.
          وأمَّا(7) أداء الماليَّات: فردُّها إن أمكن وجودُ صاحِبها أو وارثه إن كان(8) صاحب الحق ميتًا، وإلا تتصدَّق(9) بها عنه هذا مع الجِدَةِ(10) مع القدرة(11) أو يرغبه في تحليله مما له عليه، فإن لم يكن له شيء بما(12) يردُّ ما(13) عليه فيرغب لصاحبه في تحليله(14)، فإن لم يفعل أو لم يجده(15) فيعقد نيته بالتوبة مع الله، وأنَّه متى فتح الله عليه في أي وقت فتح(16) فإنَّه يؤدِّي بصدق مع الله ويبقى يدعو إلى الله مع الدوام(17) بأن يسخِّر الله له صاحبه، وإن كان صاحب الحق ميتًا ولا وارث له(18) وليس له(19) ما يتصدَّق به عنه فيعقد أيضًا نيَّته مع الله مع الصدق في التوبة كما تقدَّم، ويُديم الاستغفار لصاحبه ويترحَّم عليه ويلجأ إلى الله أن يرضيه عنه، فإنَّه وليٌّ رحيم، فإن كان صادقًا فيُرجَى(20) له ذلك.
          وأمَّا الغِيبة وهي أكبر الحقوق لقوله صلعم : «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهُ مِثْلُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَأَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ لِسَانِ المسلمِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ المسلمِ(21)» فكيفية التحلُّل منها: بأن(22) تخبر صاحبَك بما قلتَ عنه(23) وترغب منه المغفرة وترضيه بكل ممكن.
          وإن(24) كان ميتًا / فهو أصعب الأمور، ولم(25) يبقَ لك حيلة إلَّا الدعاء له بالخير والرحمة ورغب الكريم على الدوام أن يرضيه عنك فعسى، وإن كان غائبًا فتسافر إليه إن أمكن وإلَّا بالكتب والرغبة.
          وإن كانت(26) دماء: فإمَّا أن تعرض نفسَك للقصاص لولاته أو ترضيهم بالمال(27)، ومع ذلك التوبة النصوح والكفَّارة؛ لأنَّ ذلك أمر خطير(28)، فإنَّ العلماء اختلفوا: هل للقاتل مِن توبة أم لا(29)؟ على قولين، فإن لم يكن أحد مِن ولاة الدم حيًا فالتوبة النصوح والكفَّارة والدعاء إلى الله الكريم عسى بفضله أن يرضيه عنك، ودوام الخوف والاجتهادُ في طلب الشهادة لعلها تحصل.
          والجراح وما أشبهها مِن الضرب وشبهه كذلك يفعل فيها إمَّا قصاص وإمَّا مثل ما قلنا في الدم.
          وفيه(30) إشارة إلى أنَّ الحال لا يستقيم إلا مع براءة الذمة؛ لأنَّ براءتها آكد مِن زيادة النوافل، ولذلك جاء: «أن يوم القيامة يؤتَى بالرجل له من الحسنات أمثال(31) الجبال، ويكون قد شتم هذا، وأخذ مال هذا، وظلم(32) هذا فيؤخذ مِن حسناته وتعطَى(33) لأصحاب المظالم حتَّى تفنى(34) ويبقى عليه البقايا مِن التَّبعاتِ فيؤخذ مِن ذنوب أصحاب الحقِّ فتوضعُ على عنقه فيُلقى في النار»، وقد كان صلعم أولًا(35) إذا أُتيَ بجنازة يسأل: «هَلْ عَلَيْهَا دَيْنٌ؟» فإن لم يكن عليه دين(36) صلَّى عليه، وإن كان عليه دين قال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»؛ ولذلك قال ╕: «اتْقِ مَحَارِمَ اللهِ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ»؛ فإن باتقائك(37) / المحارم تبقى الصحيفة نقيةً من التَّبعاتِ فالقليل مِن التطوعات مع(38) ذلك يُنَمَّى(39)، ويكون فيه الخير الكثير هذا كلام كُلِّي، وأمَّا تتبعها في الجزئيات: فلِمَن تخلَّصَ(40) مِن هذه الكلِّيَّات يسهل عليه فعلها ويجدها في كتب العلماء، فإنهم لم(41) يُغفِلوا(42) منها ذَرَّة.
          وأمَّا كونه لم ينبه على ما لَكَ مِن الحقوق فيما علمت مِن الذي له عليك الحق(43)؛ فلأنَّك قد عرفت قدر ما لَكَ في الحقِّ الذي لك؛ ولذلك قال أهل التوفيق: (كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم)، فإنَّ المظلوم ينتظر النصر(44) مِن الله إمَّا في هذه الدار أو(45) في الآخرة، والظالم بضد ذلك.
          وبالتجربة على ما ذكره العلماء نقلًا أنه كل(46) من صدَقَ مع الله في توبته(47) أنَّه يسخَّر له أصحاب الحقوق في هذه الدار ويجد على ذلك راحة معجلة.
          وقد ذُكِر أنَّ بعض أهل التوفيق(48) مرَّ بين البساتين ووجد حبَّة تينٍ ملقاة في الطريق فأكلها فلما فرغ قال: ومَن جعلني في حِلٍّ؟ فنقر باب البستان الذي كانت بإزائه فخرج له الحارس فذكر له حالهُ ورغب منه المحاللةَ، فقال: إنِّي حارسٌ، وليس ذلك لي، وصاحب البستان بأرض المغرب، فسأل عن بلده وداره واسمِه وأخذ في السَّفر إليه، وكان صاحب ذلك(49) البستان ممن فتح الله عليه في دنياه، فلمَّا بلغ إليه بعد أيَّامٍ عديدةٍ، وتعب شديدٍ(50)، ضرب الباب واستأذن عليه فأمره بالدُّخول، فلمَّا قصَّ عليه القصَّة، / وأتاه بأمارة مِن الحارس يصدقها(51)، قال له: لا أجعلك في حِلٍّ إلَّا أن تقضي لي اجةً، فأنعَمَ له فيها، وقال له: ما هي؟ فقال(52) له: إنَّ لي بنتًا(53) مبتلاةً ولا يرضى أحدٌ أن يتزوَّجها، فتتزوَّجها أنت؟ فقال له: نعم، فوجَّه للشُّهود(54) وحضروا وعقدوا(55) النكاح، واشترط عليه ذلك(56) العيب الذي ذكر(57) له سرًا(58)، وأنزله وأمره بالدُّخول على الصَّبيَّة.
          فلمَّا دخل رأى ما لم يكن في وقتها أجملُ منها، ولا أغنى(59)، فلمَّا رآها، قال لها(60): ما أنتِ التي(61) تزوَّجت، فجاءه الأب، فقال له(62): هذه التي زوَّجتك، وليس لي ولد ولا ابنة إلَّا هي، وقد كتبت لها جميع مالي، وأُمتعُك(63) المال وهي(64) لك خادم(65)، وأنا عبدٌ تتصرَّف فينا كيفَ شئت، والجنان لك.
          فسأله عن موجب ذلك؟ فقال: أين أجد أنا(66) لابنتي مَن يكون له دِين مثل دِينك الذي مشيت هذه الأيَّام كلهَّا مِن أجل حبَّة تين؟ وكيف لا أملِّكك قيادي وقيادها؟ فكان سبب خيره طَلَبه على(67) براءة ذمَّته، فإنَّ الأصل في السَّلامة، وتكون السلامة(68) أوَّلًا، بأداء الفرائض، وخلاء(69) الذِّمَّة مِن التَّبِعات، عافانا الله فيمن عافا(70) بمنِّه.


[1] في (ج) و(م): ((عن رسول الله)).
[2] في (ج): ((من كانت له مظلمة))، وفي (م): ((من كان له مظلمة)).
[3] قوله: ((منها)) ليس في (ج).
[4] في (ج): ((إذاية))، وفي (م): ((وأدائة)) وقوله: ((وأذاة)) في (ل) مكانه حك.
[5] في (ج): ((لك)).
[6] قوله: ((من هذه)) ليس في (م).
[7] في (ج) و(م): ((فأما)).
[8] قوله: ((كان)) ليس في (ل).
[9] في (ج): ((تصدق)) وفي (ل): ((تصدقت)).
[10] قوله: ((مع الجدة)) ليس في (ج) و(م).
[11] قوله: ((مع القدرة)) ليس في (ل).
[12] في (ج): ((مما)).
[13] قوله: ((ما)) ليس في (ج).
[14] قوله: ((مما له عليه، فإن لم يكن له شيء بما يرد ما عليه فيرغب لصاحبه في تحليله)) ليس في (م).
[15] في (ج) و (ل): ((يجد))، وقوله: ((أو لم يجده)) ليس في (م).
[16] قوله: ((فتح)) ليس في (ل).
[17] في (م): ((بالدوام)).
[18] قوله: ((له)) ليس في (ط) و (ج) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] قوله: ((له)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ج): ((يرجى))، وفي (م): ((رجي)).
[21] قوله: ((المسلم)) ليس في (ج) و(م). وبعدها في (ج) و(م) و (ل): ((وكيفية)).
[22] في (ج) و(م): ((أن)).
[23] في (م): ((فيه)).
[24] في (ج): ((إن)).
[25] في (ج) و(م): ((فلم)).
[26] في (ل): ((وإن كان)).
[27] في (م): ((لولايه ويرضيهم بالمال)).
[28] في (ج) و(م): ((خطر)).
[29] قوله: ((أم لا)) ليس في (ل).
[30] في (ل): ((وهنا)).
[31] في (ل): ((مثل)).
[32] في (ج) و(م) و (ل): ((ولطم)).
[33] في (ل): ((ويعطى)).
[34] في (ل): ((يفنى)).
[35] قوله: ((أولاً)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] قوله: ((دين)) ليس في (ل).
[37] في (ج): ((اتقاء))، وفي (م) و (ل): ((باتقاء)).
[38] في (ج) و(م): ((من)).
[39] في (ج) و(م): ((ينمو)) وفي (ل): ((تنمى)).
[40] في (ج): ((فمن يخلص))، وفي (م): ((فبهن تخلص))، وفي (المطبوع): ((فمن تخلص)).
[41] في (م): ((لن)).
[42] كذا في النسخ: ((يفعلوا)) ولعل المثبت هو الصواب وهو مطابق للمطبوع.
[43] قوله: ((فيما علمت من الذي له عليك الحق)) ليس في (ج) و(م).
[44] في (ل): ((النصرة)).
[45] في (م): ((وإما)).
[46] في (م): ((أن كل)). وفي (ط): ((كان)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[47] في (ج): ((أن كل من عرف مع الله توبته)).
[48] في (ج): ((أن بعضهم))، وفي (م): ((ذكر عن بعضهم أنه))، وبعدها في (ط) و (ل): ((خطر)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[49] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[50] في (م): ((وتعب تعباً شديداً)).
[51] في (ل): ((فصدقها)).
[52] في (م): ((قال)).
[53] في (ج) و(م): ((ابنة)).
[54] في (ل): ((فوجه عن الشهود)).
[55] في (ج) و(م): ((فحضروا وعقد)) وفي (ل): ((وعقد)).
[56] قوله: ((ذلك)) ليس في (ج) و(م).
[57] في (م) و (ل): ((ذكره)).
[58] قوله: ((سراً)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[59] قوله: ((ولا أغنى)) ليس في (م).
[60] قوله: ((لها)) ليس في (ج).
[61] في (ل): ((الذي)).
[62] قوله: ((له)) ليس في (ل).
[63] في (ج) و(م): ((وأمتعتك)).
[64] في (ط): ((هي)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[65] في (م): ((خادمة)).
[66] قوله: ((أنا)) ليس في (ج).
[67] قوله: ((على)) ليس في (ج) و(م).
[68] قوله: ((وتكون السلامة)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[69] في (ج) و(م): ((وخلو)).
[70] في (ل): ((عافاه)).