بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: الأمر أشد من أن يهمهم ذاك

          267- قوله صلعم : (تُحْشَرُونَ / حُفَاةً عُرَاةً(1) غُرْلًا...) الحديثَ(2). [خ¦6527]
          ظاهر الحديث يدلُّ عَلى أنَّ النَّاس يُحشرون يوم القيامة بلا ثوبٍ يسترهم، وَلا شيء في أرجلهم يقيهم مِن ذلك الهول العظيم، وأنَّهم يكونون عَلى الحالة التي خرجوا عليها مِن بطون أمَّهاتهم، غير مختونين وَلا مقصوصة أظفارهم، عَلى وضع الخِلقة التي كانوا عليها عند تمام خلقهم وهم في الأرحام. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: مَا الفائدة في الإخبار(3) بهذا؟ ومَا الحكمة في ذلك؟ ومَا معنى (تُحْشَرُونَ) هل(4) الجنس أو النوع؟
          أمَّا قولنا: ما الفائدة في الإخبار بذلك؟ فلوجوهٍ منها: المعرفة بأحوالنا في ذلك الوقت، وذلك ممَّا يزيد في قوة الإيمان.
          وفيه دليل على عظيم(5) قدرة الله تعالى وذلك ممَّا يوجبُ زيادة تعظيم جلاله سبحانه في القلوب، وهو ممَّا يقرِّب العبدَ إلى مولاه.
          وفيه إشارة إلى أنَّ الخروج إلى الدَّارين أوَّلاً للفاضل(6) والمفضول في ذلك الوقت عَلى حدٍّ سواء، وبعد ذلك يكون التَّرفيع والتَّفضيل(7) بحسب مَا شاء الحكيم، فخروجنا إلى هذه الدَّار عُرَاة(8) حُفَاة غُرْلاً، وفي تلك(9) كذلك، وبعد وقوع الأمر يكون التفضيل. وقد جاء أنَّ أوَّل مَن(10) يُكسَى يومَ القيامة سيِّدُنا(11) صلعم، وبعده مَن شاء الله على مَا جاءت به الآثار. فسبحان مَن أبهرت حكمتُهُ العقولَ.
          وأمَّا قولنا: مَا الحكمة فيه؟ فهي _والله أعلم_ تصديقٌ(12) لقوله ╡ : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] وهي أيضاً مِن أعظم الأدلَّة على عِظم قدرته(13) جلَّ جلاله.
          وفيه دليل لأهل السنَّة الذين يقولون: إنَّ التَّقبيح والتَّحسين ليس للعقل فيه مدخل، وإنَّما(14) / ذلك بحسب ما حُدَّ وشُرِع، لأنَّ هذه الدار كشف العورة فيها ممنوع محرَّم قبيح.
          وأمَّا قولنا: ما معنى (تُحْشَرُونَ) يعني: هل النوع(15) أو الجنس؟ احتمل الوجهين معاً، لكن آخر الحديث يبيِّن أنَّه الجنس، وهو جوابه صلعم إليها بقوله: (الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذلك(16))، فدلَّ أنَّه صلعم أراد جنسَ الآدميين.
          وفي قولها ♦: (الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟) دليل عَلى أنَّ استصحاب الحكم معلومٌ عندهم، وَلا يُتْرَك بالمحتمَل حتَّى يأتي أمرٌ لا احتمال فيه.
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أنَّ ما يُقعَّد مِن الأحكام بالنصِّ لا يُزال بالمحتمَل، وإنْ كان ظاهراً.
          ويُؤخذ مِن مراجعتها جواز مراجعة المفضول للفاضل إذا بقي عليه(17) في كلامه احتمال، لكن يكون ذلك بأدب كَما هو ظاهر كلامها.
          وفي قوله صلعم : (الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ في(18) (19) ذلك) فوائدُ منها: مَا ذكرنا(20) آنفاً مِن تحقيق مَا أراد ◙ بقوله: (تُحْشَرُونَ).
          ومنها: التخويف والإرهاب مِن ذلك اليوم العظيم، ليكون(21) ذلك سبباً للاستعداد إليه.
          ومنها: أنَّ معاينة الأهوال العِظام تنقل الطِّباع عَن عادتها المألوفة لها، لأنَّ عادة البشرية(22) إذا نظر الرِّجال إلى النِّساء وهنَّ باديات العورات، أنَّ ذلك يحرِّك عندهم(23) شهوة الاستمتاع بهنَّ، وكذلك النِّساء أيضاً إذا / رأين الرِّجال عَلى تلك الحالة، وفي ذلك اليوم مِن عِظم(24) ما يعاينون مِن الأهوال، انتقلتِ الطِّباع عن(25) عادتها المعلومة منها.
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أنَّ الخوف إذا(26) كان حقيقياً يذهب بإغواء النَّفس وخَدْعها المعلوم منها، وينقل الطِّباع السُّوء إلى الحسن(27) والتقويم، ولهذا هي الإشارة بقوله تعالى: {ذَلِكَ(28) يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16] فلولا أنَّ الخوف يُحدِث في الطِّباع السُّوء شيئاً حَسناً مَا جعله الله تعالى سبباً إلى تقواه(29) الَّذي هو أصل(30)(31) الأحوال السَّنِيَّة.
          ولذلك قال أهل السلوك: إنَّ(32) القلبَ إذا خلا مِن الخوف خرِب. وقد ذُكر عن بعض الرِّجال أنَّه كان إذا أوى إلى فراشه يتذكَّر النَّار وَما فيها(33)، فينتفي عنه النوم، فيقوم إلى محرابه وينادي ويقول: «اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَم أنَّ خوفَ نارِكَ مَنَعَني الكرَى» فيتمُّ ليلته(34) مصلِّياً، أو كما(35) قيل. ومثل ذلك عنهم كثير، وقلَّة الخوف أوجبت(36) لأهل الدنيا التَّنافسَ فيها(37)، والغفلةَ عن هذا الخطر العظيم.
          جعلَنا الله ممَّن خاف فازدجَرَ، وتذكَّرَ فاعتبَرَ(38)، وَعمِل وادَّخَرَ بمنِّه، وأسعَدَنا بذلك، لا ربَّ سواه.


[1] في (ت): ((يحشرون عراة حفاة)).
[2] في (ب): ((عن عَائِشَةَ ♦، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : تُحْْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: «الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلك».
[3] في (ت): ((ما الفائدة بالإخبار)).
[4] في (ج): ((على)).
[5] في (ت): ((عظم)).
[6] في (ج) و(ب): ((الفاضل)).
[7] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((بالتفضيل)).
[8] قوله: ((عراة)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى. و قوله: ((الدار)) ليس في (ب).
[9] في (م): ((ذلك)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (م): ((ما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] زاد في (ب): ((محمد)).
[12] في (ج) و(ت): ((تصديقاً)).
[13] في (ت): ((عظيم قدرته))، وفي (ب): ((عظيم قدرة الله)).
[14] في (ج): ((وإن)).
[15] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((هل يعني النوع)).
[16] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((ذلك)).
[17] قوله: ((عليه)) ليس في (ج).
[18] قوله: ((في)) ليس في (ج) و(ت).
[19] زاد في (م): ((في))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ت) و(ب): ((ذكرناه)).
[21] في (ج): ((يكون)).
[22] في (ج): ((البشر)).
[23] في (ب): ((الرجل إلى النساء وهن باديات العورات أن ذلك يحرك عنده)).
[24] في (ج): ((أعظم)).
[25] في (ج): ((من)).
[26] في (ب): ((إن)).
[27] في (ب): ((إلى الخلق)).
[28] زاد في (ج): ((الذي)).
[29] في (ج): ((تقوية)).
[30] في (ب): ((أجلُّ)).
[31] في (ج): ((أهل)).
[32] في (ج): ((وإن)).
[33] في (م): ((وفيها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (ب): ((ليله)).
[35] في (م) و(ت): ((وكما)) والمثبت من (ج) و(ب).
[36] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((أوجب)).
[37] في (م) و(ت): ((فيه)) والمثبت من (ج). و قوله: ((فيها)) ليس في (ب).
[38] في (ب): ((فأبصر)).