بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت

          262- قوله صلعم : (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ(1)...) الحديثَ(2). [خ¦6407]
          ظاهر الحديث تمثيلُه صلعم الذي يذكر ربَّه بالحيِّ(3)، والذي لا يذكر(4) بالميت، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: ما يعني بالذِّكر(5) هنا؟ هل الذِّكر باللِّسان، أو الذِّكر بالأفعال، وَهو اتِّباع أوامر الله واجتناب نواهيه؟ لأنَّ العلماء قَد قالوا في معنى(6) قوله جلَّ جلاله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إنَّهم الذين إذا كان عليهم الحقُّ(7) أعطوه، وإذا كان لهم الحقُّ أخذوه، كلُّ ذلك على الحدِّ الذي شُرِع لهم(8) بلا زيادة ولا نقصان. وقال عمر ☺: ((ذِكْرُ الله عندَ أمرهِ ونَهْيهِ(9) خيرٌ مِن ذِكْرهِ باللِّسان)) أو كما قال ☺(10). وفي أيِّ نسبة يكون الشبه فيما شُبِّه به على أحد الوجهين؟ وما يترتَّب عَلى ذلك مِن الفائدة؟.
          أمَّا قولنا: أيَّ وجهٍ عَنَى بالذِّكْر؟ احتمل الوجهين، كلَّ واحد عَلى حِدة، واحتمل أنَّه عنى بذلك الوجهين معاً، فإن كان عنى المجموعَ فهو للفائدة أتمُّ، وإن كان عنى أحد الوجهين فبيْنَ الذِّكر(11) بالقول / والذِّكر بالفعل فرق كبير، لأنَّ الذِّكْر بالفعل مثل الطهارة الكبرى تندرج فيها الصغرى، لأنَّ الذي يمتثل(12) الأوامر وينتهي عن النواهي فلا بدَّ له مِن الذِّكر باللِّسان لا محالة، فإنَّ حاله يَحمله على ذلك جبراً(13) وإن كان لا يقع ذلك منه فالذي فعل مِن امتثاله للأوامر(14) أجزأَهُ عن ذكر(15) اللِّسان، كالطَّهارة الكبرى تُجْزِئ(16) عن الصغرى، والذي يذكر باللِّسان مثل الطهارة الصغرى لا تدخل تحتها(17) الكبرى ولا تجزئ عنها، وهو مطلوب بها.
          وأمَّا قولنا: مِن أيِّ وجهٍ تكون النِّسبة بين(18) هذا وبين المثل؟ أمَّا إن كان الذِّكْر بالفعل عَلى ما تقدَّم فالنسبة بينهما مِن أجل عدم الفائدة لهذا التارك لِمَا أُمِر به في حياته، فإنَّ فائدة الحياة في هذه الدَّار إنَّما هي للكسبِ لتلك الدَّار الباقية، فإنَّما جُعلت هَذه مزرعة للعباد، لأنْ يتزودوا منها للمعاد، فإذا ماتوا انقطع مِن هذه المزرعة كسبُهم، فلمَّا كانت حياة هذا في هذه المزرعة بغير(19) كسب لمعاده كان كالميِّت الذي لم يبقَ له فيها عمل، وكانت حياته كأنْ لا حياة.
          وممَّا يوضِّح ذلك قوله ╡ في كتابه العزيز حكايةً عن قول مَن خَتمَ عليه(20) بالشقاء: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] وبالضرورة إنَّهم حين كانوا في هذه الدار كانوا يسمعون ويعقلون، فلمَّا كان سمعهم وعقلهم لم يجدوا لهما منفعة في تلك الدار نفوا ذلك عن / أنفسهم بقولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ}.
          وأمَّا إن كان المعنى الذِّكر باللِّسان فالنسبة(21) بينهما مِن أجل ما حُرِموا مِن ذِكْر مولاهم لهم، لأنَّه قد جاء عنه جلَّ جلاله: «مَن ذَكَرَني في نَفْسهِ ذَكَرْتُه في نَفْسي، ومَن ذَكَرَني في مَلَأٍ ذَكَرْتُه في مَلَأٍ خيرٍ منهم»(22). فكأنَّ مَن كان أُعطي(23) هذه الرحمة العظمى مع مَن حُرِمها كنسبة الحيِّ مِن الميت، لأنَّ مَن تركَ هذا(24) الخير العظيم بأيسر الأشياء وهو تحريك اللسان أو إمرار(25) ذلك بالقلب، فقد عدِم فائدة(26) الحياة التي هي موضوعة لكسب هذه الخيرات وأشباهها.
          وقد قال الله ╡ في شأن الذِّكر(27): {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] فمَن يحرِمْ نفسه هذا الخير العظيم كيف لا يوصف بالموت؟ بل هو أحقُّ بذلك، وبل الموت له على خيرٍ خيرٌ(28) مِن هذه الحياة المغبونِ صاحبها.
          وإن كان المعنى في الحديث الوجهين معاً فكأنَّ الأمر في حقِّ هذا المغبون أشدُّ وأعظم، أعاذنا الله تعالى مِن الحرمان بفضله.
          وأمَّا قولنا: ما يترتَّب على ذلك مِن الفائدة؟ فغير واحدة، منها: الحضُّ(29) على امتثال الأوامر، ومنها الحضُّ على الذِّكر(30) والعلم بما فيه مِن الخير.
          ومنها التنبيه(31) على أنَّ الحياة الحقيقية إنَّما هي حياة الآخرة، فتكون معظمُ الفائدة / الحضُّ على نبذ هذه الدَّار، والاهتمام بتلك الدار، لأنَّ هناك هي الحياة الطيِّبة والعيش الرَّغد(32)، كما أخبر جلَّ جلاله في كتابه العزيز بقوله(33): {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ(34) فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
          وفيه دليل لأهل الصُّوفة المتَّبعين(35) للسُّنَّة والسنن(36)، لأنَّ طريقهم الجِدُّ في اتِّباع الأوامر واجتناب النواهي. ودوامُ الذِّكر شأنُهم، وبه فرحُهُم. فَهُمُ الذين فَهِموا ما إليه خُلِقوا، حتَّى صار حالُهم كلهم ومقالُهم(37) على حدِّ سواء، فَهِمُوا فسعِدوا إذْ(38) عَلِموا وعَمِلوا بما علِمُوا، وغرَسوا الشَّجرةَ فجنَوْا ثمرَها، أُولئك موضع نظر الله تعالى مِن خلقه، بهم يرحم العباد والبلاد، أعاد الله علينا مِن بركتهم(39) في الحياة وفي الممات(40).


[1] زاد في (ت): ((ربه)).
[2] في (ب): ((عن أبي هريرة قال: قال النبي صلعم : مثل الذي يذكر ربه والذي لم يذكره مثل الحي والميت)).
[3] في (م): ((بالخير)) والمثبت من (ج) و(ت)، و قوله: ((بالحي)) ليس في (ب).
[4] في (ج) و(ب): ((يذكره)).
[5] في (ب): ((ما معنى الذكر)).
[6] قوله: ((معنى)) ليس في (ب).
[7] قوله: ((الحق)) ليس في (ب).
[8] قوله: ((لهم)) ليس في (ب).
[9] في (ب): ((عند نهيه وأمره)).
[10] قوله: ((أو كما قال ☺)) ليس في (ب).
[11] قوله :((الذكر)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] قوله: ((يمتثل)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[13] في (ج): ((خيراً)).
[14] في (ب): ((الأوامر)).
[15] في (ج): ((ذلك)).
[16] في (ج): ((تجزئه)).
[17] في (ب): ((تحت)).
[18] في (ب): ((يكون الشبه من)).
[19] في (ت) صورتها: ((تعني)) غير منقوطة.
[20] في (ب): ((له)).
[21] في (ب): ((وأما إن كان الذكر باللسان كالنسبة)).
[22] زاد في المطبوع: ((وقد قال ╡: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] قال العلماء: معناه ذكر ربك عبدَه رحمة له)).
[23] في (ب): ((منهم. فكأن من أعطي)). و في (ب): ((منهم. وكان من أعطي)).
[24] في (ب): ((لأن من عدم هذا)).
[25] في (ب): ((وإمرار)).
[26] في (م): ((الفائدة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[27] زاد في (ج) و(ت): ((له)). و في (ب): ((وقد قال ╡ في شأن الذاكر)).
[28] قوله :((خير)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب).
[29] في (ت): ((الحق)).
[30] قوله: ((ومنها الحضُّ على الذِّكر)) ليس في (ج).
[31] في (ب): ((تنبيه)).
[32] في (ج): ((الرغيد)).
[33] قوله: ((بقوله)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] قوله: ((وهو مؤمن)) ليس في (ج).
[35] في (ج): ((المتعبدين)).
[36] في (ج): ((وسنن)).
[37] قوله: ((ومقالهم)) ليس في (ب).
[38] في (م): ((إن)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] في (ب): ((أعاد الله تعالى من بركاتهم علينا)). وقوله: ((من)) ليس في (ج) و(ت).
[40] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((والممات)).