بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: نهى أن يُقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر

          257- قوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ(1) مَجْلِسِهِ...) الحديثَ(2). [خ¦6270]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حُكْمَين:
          أحدهما: النهيُ عن أن يُقام الرجل من مجلسه الذي جلس فيه، ويُجلَس فيه(3) غيره.
          والثاني(4): الأمر بالتَّفسُّح فيما بين الجُلَّاس والتَّوسُّع إذا دُخِل عليهم، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: هل هذا على عمومه في كلِّ مجلس، أو هو عَلى الخصوص في مجالس(5) مخصوصة؟ وهل هذا أيضاً عامٌّ في كلِّ الرِّجال، أو لا(6)؟ وهل هذا تعبُّد أو لحكمة؟ فإنْ كان لحكمة فما هي؟ وهل النهي عن ذلك عَلى الكراهية(7) أو التحريم؟.
          أمَّا قولنا: هل ذلك عام في كلِّ المجالس(8)، أو هو في مجالس مخصوصة؟ صيغة اللَّفظ تعطي العموم، وقواعد الشَّرع تخصِّصه(9)، لأنَّه قدْ تقرَّر مِن الشرع أنَّه مَن جلس فيما ليس له مُلْك، ولا له فيه سبب يوجِب ذلك، أنَّه يُقام ويُخرَج، وَلا يُنَزَّل منزلةَ مَن له ذلك، أو أَذِن له فيه مَنْ له الإذن في ذلك(10). فما بقي أن يكون ذلك إلَّا خاصَّاً في المواضع المباحُ(11) للنَّاس دخولها، أو الجلوس فيها، إمَّا عَلى العموم للناس كلِّهم مثل المساجد ومجالس الحُكَّام والعلم أو ما(12) يشبه ذلك، أو على الخصوص مِثل مَن يدعو قوماً مخصوصين إلى منزله في وليمة أو غيرها ممَّا أجازته الشريعة، فهذه المجالس مَن جلس فيها مجلساً فلا يُقَام منه ويُجلس(13) فيه غيره. /
          وأمَّا قولنا: هَل هَذا عامٌّ في كلِّ الرِّجال أوْ لا؟ فظاهر اللَّفظ العموم، وَما تقرَّر مِن الشريعة أيضاً يخصِّصه؟ مِثل إزالة(14) المجانين مِن المساجد، لقوله صلعم : «جنِّبوا مساجِدَكُم صِبْيَانَكُم وَمَجَانينكُم»، وَمِثل آكل الثُّوم النِّيءِ والأجذم(15)، فهؤلاء يُقامون ويُخرَجون مِن المساجد إذا تأذَّوا بهم الجُلَّاس(16).
          وكذلك كلُّ مَن يكون فيه إذاية للجُلَّاس، فإنَّه يُخرج لقوله ◙ : «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ». ويُشترط أن يكون ذلك الضَّرر ممَّا هو في الشَّرع ضرر لا بحظٍّ نفسانيٍّ أو حظِّ(17) دنياوي، وكذلك يُقام السُّفهاء مِن مجالس الحكَّام والعلم، وأعني بالسُّفهاء الَّذين يُسفِّهون بالألسنة حتَّى يخرجوا لِمَا ينافي مجلس العلم والحكم(18) ومَا يشبه هَذا.
          وأمَّا قولنا: هَل هو تعبُّد أو لحكمة؟ فإنْ كان تعبُّداً(19) فلا تعليل، وإن كان لحكمة _وَهو(20) الظَّاهر_ فما هي؟ فنقول، والله الموفِّق للصَّواب: إنَّ الحكمة فيه ظاهرة مِن وجهين:
          أحدهما: منع تكبُّر بعضنا عَلى بعض، لأنَّ إزالة هَذا مِن مجلسه وإجلاس غيره فيه استنقاص بالقائم، واسْتصغار لَه، وترفيعٌ للمُجلَس(21) في مجلسه، وتكبُّر منه، وقد قال صلعم : «إنَّه أُوحِي إليَّ(22) أنْ لا يَفخرْ بعضُكم عَلى بعضٍ، ولا يتكبَّرْ بعضُكُم على بعضٍ» أو كما قال صلعم، وهو أيضاً ممَّا(23) يوجب الضَّغائن في الصُّدور(24) والأحقاد، وقد نُهينا عَن ذلك، وما هو السبب إلى شيء فهو مثله.
          والوجه(25) الآخر: أنَّ المباح كلَّه النَّاس كلُّهم فيه على حدٍّ سواء، الرفيع والوضيع، فمَن سَبَق إلى شيء منه فقد استحقَّه، ومَن استحقَّ / شيئاً مِن الأشياء بوجه شرعيٍّ فأَخَذ منه بغير وجه شرعيٍّ(26) فقد غَصَبه، والغصب حرام(27). فلمَّا جلس هذا مجلسه مِن تلك المجالس المتقدِّم ذِكْرُها فقد استوجبه بوجه شرعي، فلا يُقام منه لأنَّه هو المستحقُّ له.
          وأمَّا قولنا: هَل النهي على التَّحريم أو على الكراهية؟ فالظاهر أنَّه على التحريم للعلَّتين المتقدِّمتين(28).
          وبقي هنا بحث وهو: أنَّه إنْ فعل الجالس(29) ذَلك مِن تلقاء نفسه هل يدخله النَّهي، أم لا(30)؟ أمَّا إن كان سالماً مِن الشوائب فالظاهر أنَّه ليس فيه كراهية(31)، وإنْ دخله شيء مِن الشوائب مثل أن يفعله لخوفٍ أو تهديدٍ أو مَا(32) في معنى ذلك، فيكونَ مثل أصحاب السَّبت لمَّا نُهوا عن الصَّيد فيه، عمِلوا(33) الحيلة للصيد في يوم الجمعة، وأَخَذُوا يوم الأحد، فكان مِن أمرهم مَا(34) أخبر الله ╡ في كتابه، فكان حقيقة صيدِهم يوم السَّبت، لأنَّ بتلك الحيلة أمكنهم أخذُ الصيد يوم الأحد، وما لا يُوصل إلى شيء(35) إلَّا به فهو منه، وإن اختلف نوعهما.
          وقد ذُكر لي عن بعض أهل الفضل بجزيرة الأندلس، وكان ممَّن فُتح عليه في دنياه، أنَّه دُعي إلى عقد نكاح(36)، فلمَّا دخل المنزل لم يجد فيه أين يقعد؟ فبقي واقفاً خجلاناً، ولحقه الدَّهَش، لأنَّ المجلس كان / حَفِلاً، وكان ممَّن كَان(37) قاعداً في المجلس شخصٌ كان للداخل عليه دَين مئة دينار، فَقام الذي(38) عليه الدَّيْن مِن مجلسه وأجلس فيه ذلك السيِّد، فلمَّا انفضَّ المجلس وجَّه ذلك السيِّد الذي كان دخل آخر النَّاس ولحقه الدَّهَش لذلك الشخص الذي قام له مِن مجلسه وأجلسه فيه، وأحَلَّه فيه عَقْدَه الَّذي كان له عليه بالمئة دينار، وَهو قد أشهد على نفسه بتبرئته منها مكافأةً لَه على زوال خجلتِهِ في ذلك المجلس.
          تنبيه: في الحكاية إشارة إلى أنَّ مَن تأخَّر عمَّا دُعي إليه يلحقُهُ الخَجل، فاحذرْ ما يُخجلك يوم الوفد ولا محيص.
          وقوله صلعم : (وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا) هل هما لفظان مترادفان(39) لمعنى واحد، أو لكلِّ لفظ معنى؟ احتمل الوجهين معاً، لكنَّ الأَوْلى أن يُحمل كلُّ واحد منهما على معنى(40)، فإنَّ ذلك أكبر فائدة، فيكون معنى (تفسَّحُوا) أن يُوسعوا فيما بينهم(41) للداخل أن يقعد، ويكون معنى (توسَّعوا) أي: توسَّعوا عنه بأن ينضمَّ بعضكم إلى بعض، حتَّى يبقى له في المجلس أين يقعد، فإنَّ السُّنَّة أنَّ الدَّاخل يجلس حيث(42) انتهى به المجلس، فلمَّا لم يبقَ لهذا الدَّاخل مِن المجلس أين يجلس أُمرنا أن ينضمَّ(43) بعضنا إلى بعض فيتوسَّع(44) بذلك المجلس، فيبقى في آخره لهذا الداخل أين يجلس.
          فيكون صلعم قد خيَّر(45) أهل المجلس أن يفعلوا مع الداخل أحد هذين الوجهين، أيَّهما فعلوا فقد أصابوا(46)، لكن بشرط أن يكون المجلس يحمل هذا بلا ضرر(47) على الجُلَّاس، لأنَّه قد قال صلعم : / «لا ضَرَر ولا ضِرارَ». مثال ذلك أن يدخل شخص والمجلس قد غصَّ بأهله، فيفسحون له ويوسِّعون له(48)، ثمَّ ثان كذلك ثمَّ ثالث كذلك، ثمَّ رابع، فإذا لم يطيقوا لكثرتهم وضيق المجلس أن يفسحوا أو لا(49) يُوسِّعوا إلَّا وعليهم في ذلك ضرر(50)، فَلا يلزمهم مِن ذلك شيء، لكن مِن حُسن المعاملة أن يعتذر(51) له حتَّى ينصرفَ وهو طيِّب النَّفس، لقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].


[1] في (ج): ((في)).
[2] في (ب): ((عن ابن عمر عن النبي صلعم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا)).
[3] زاد في (ب): ((آخر)).
[4] في (ب): ((الثاني))، وقوله بعدها: ((الأمر)) ليس في (ب).
[5] قوله: ((أو هو عَلى الخصوص في مجالس)) ليس في (ج).
[6] في (ج): ((أو ليس)).
[7] في (ب): ((الكراهة)).
[8] في (ت): ((المجاليس)).
[9] في (ب): ((مخصصة)).
[10] قوله: ((في ذلك)) ليس في (ب).
[11] في (ب): ((المباحة)).
[12] في (ج): ((وما))، وفي (ب): ((والعلم الذي هو لله أو ما)).
[13] في (ت): ((وتجلس)).
[14] قوله: ((إزالة)) ليس في (ج).
[15] في (م): ((والأشد))، وفي (ت): ((والأجد))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] قوله: ((إذا تأذَّوا بهم الجُلَّاس)) زيادة من (ب) على النسخ الأخرى.
[17] في (ب): ((بحظ)).
[18] في (م): ((مجلس الحكم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] في (ج): ((تعبد)).
[20] في (م): ((وهي)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] في (ب): ((المجلس)).
[22] في (ج): ((أنه وحي إلا)).
[23] قوله: ((مما)) ليس في (ج).
[24] في (ج): ((الصدر)).
[25] في (م) و(ت): ((وهو الوجه))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[26] قوله :((فأخِذ منه بغير وجه شرعي)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب).
[27] زاد في (ب): ((بدليل الإجماع)).
[28] في (ب): ((واما قولنا هل النهي على التحريم أو الكراهة؟ فعلى التوجيه الأوَّل يكون على الكراهة، وعلى التوجيه الثاني يكون على التحريم _ وهو الظاهر _ لأنَّه يمكن الجمع بين العلتين، فإذا كان الجمع بين العلتين ممكناً اندرجت الصغرى التي هي النهي، في الكبرى التي هي التحريم)).
[29] في (ج): ((المجالس)).
[30] في (ب): ((هل يدخله شيء من النهي او ليس)).
[31] في (ب): ((من الشوائب فليس فيه كراهة)).
[32] في (ب): ((لخوف أو بشارة تهديد وما)).
[33] زاد في (ج): ((فيه)).
[34] في (ت): ((وما)).
[35] في (ج): ((الشيء))، وفي (ب): ((وما لا يتوصل لشيء)).
[36] قوله: ((نكاح)) ليس في (ب).
[37] قوله: ((كان)) ليس في (ب)، ومكانها: ((له)) مع بياض كلمة واحدة.
[38] في (ت) و(ج) و(م): ((الذي كان)).
[39] قوله: ((مترادفان)) ليس في (ج).
[40] قوله :((أو لكلِّ لفظ معنى؟ احتمل... كل واحد منهما على معنى)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (ب): ((أي توسعوا فيما بينكم)).
[42] في (ت): ((أنَّ للداخل يجلس حتى)).
[43] في (ج): ((نضم))، وفي (ب): ((بان ينضم)).
[44] في (ج): ((فيوسع)).
[45] في (م) و(ج): ((أخبر)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[46] زاد في (ب): ((السنة)).
[47] زاد في (م): ((ولا ضرار))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[48] في (ب): ((والمجلس غص بأهله فيفسحوا له ويوسعوا)).
[49] في (ب): ((ولا)).
[50] في (ب): ((ضرر في ذلك)).
[51] في (ج): ((يعذر)).