بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم

          155-قوله: (أَتَيْتُ(1) رَسُوْلَ اللهِ صلعم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ(2)...) الحديث. [خ¦3133]
          ظاهر / الحديث يَدُلُّ عَلَى جواز التحلُّل مِن اليمين المنعقدة، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل: قوله (أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلعم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ) يَرِد عليه سؤالان:
          (الأَوَّل): أن يُقال: لِمَ قال: (أتيتُ) ولم يقل: (أتينا) وهم كانوا جماعة؟ فعدل عن اللفظ الحقيقي إلى غيره مع الاحتياج إلى الزِّيادة في اللفظ، لأنَّه لو قال: (أتينا) لم يحتج إلى ذكر النَّفَر، فلما قال: (أتيتُ)، احتاج أن يبيِّن مع مَن أتى، وهذا ينافي لغتهم وفصاحتهم لِمَا فيه مِن الاختصار والإبلاغ.
          (الثَّاني): أن يقال: لِمَ سمَّى النفر مِن أيِّ قبيلة كانوا؟
          والجواب عن الأَوَّل من وجهين:
          (الأَوَّل): أنَّ أبا موسى ☺ هو سيِّد الأشعريين ورئيسهم وهو صاحب رأيهم(3) ومدبِّر أمرهم، لأنَّ قبائل العرب كانوا لا يفعلون شيئًا حتَّى يستأذنوا فيه سيد قبيلتهم، فهو يخبر أنَّه كان السبب في مجيء الأشعريين إلى النَّبيِّ صلعم وبرأيه ومشورته(4) أتوا، فإن قال قائل: لو كان كذلك لقال: أتيتُ رسول الله صلعم بنفرٍ مِن الأشعريين، قيل له: إنَّما عدل عن تلك الصيغة لَمَّا نطق به تواضعًا(5) منه لإخوانه الأشعريين، لأنَّه لو قال ذلك(6) لكان في اللفظ ما يَدُلُّ عَلَى جبرهم في المجيء، فلمَّا ترك ذلك وأتى بــ(في) زال ذلك(7)، وبقي هو(8) مع إخوانه في اللفظ كأنَّه واحد منهم. /
          (الثَّاني) مِن الجواب: يحتمل أن يكون خصَّ ذكر(9) نفسه دون غيره تبركًا منه باسم النَّبيِّ صلعم حتَّى يكون اسمه يلي الاسم المبارك، ومثل هذا كان الصَّحابة رضوان الله عليهم يفعلون كثيرًا تبركًا(10) منهم بالاسم المرفع.
          والجواب عن السؤال الثَّاني: أنَّه إنَّما(11) ذكر الأشعريين وعَيَّنَهم، لأنَّ الجمع إذا أتى للنَّبيِّ(12) صلعم في هذا القدر، ويراجعهم ويرجعون إليه بهذا القدر مِن المحاولة التي ذكرت(13) في الحديث فلا يكون في الوقت إلا مشهورًا، فكان ذكر القبيلة وتعيينها قرينة لقوة التصديق، وهذا كان(14) دأب الصَّحابة رضوان الله عليهم مثل عثمان(15) ☺ حين أخبر عن حديث(16) الوضوء، وقال فيه: لولا آية مِن(17) كتاب الله ما حدثتكموه، فأشار إلى القرينة الدالَّة على التصديق مع أنَّه واحد مِمَّن يؤخذ عنه الدِّين لقَوْله ╕: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاءِ بَعْدِي(18)»
          ثمَّ يَرِد سؤالٌ أيضًا على قوله: (نَسْتَحْمِلُهُ) وهو أن يُقال: لِمَ قال (نَسْتَحْمِلُهُ(19)) ولم يذكر فيما أرادوا(20) الحملان منه؟ والجواب عنه(21): إنَّما سكت عن ذلك للعلم به للقرائن التي قارنته في الحديث، يُعْلَمُ به(22) أنَّه أراد الاستحمال في الجهاد، فحذف ذكر الجهاد إبلاغًا في الاختصار، وهو مِن(23) الفصيح في الكلام.
          الوجه الثَّاني مِن البحث المتقدم: قَوْلُهُ ╕: (وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، / وَمَا(24) عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ظاهر اللفظ يَدُلُّ عَلَى جواز اليمين على أن لا يفعل الإنسان فعلًا مِن أفعال البرِّ إذا لم يقدر(25) عليه، لأنَّ حمل(26) هؤلاء إلى الجهاد مِن أفعال البرِّ، فحلف ╕ أن لا يحملهم لكونه لم يقدر على ذلك، وقد بيَّن ╕ العِلَّة بِقَوْلِهِ: (لَا أَجِدُ(27) مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ).
          وهذا معارض لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224] والجمع بين الآية والحديث أنَّ اليمين هنا ليس المراد منه ظاهر لفظه لِمَا قارنه مِن القرائن التي دلت(28) على بطلانه، وذلك ما عُلِمَ مِن حال النَّبيِّ صلعم أنَّه كان في أفعال البِر يبذل المجهود، فكيف يقع منه يمين على هذه القُربة(29) العظمى أن لا يفعلها؟ ذلك محال في حقِّه ◙ ، وإنَّما حلف(30) ╕ لهم(31) ليقطع مادة التشويش عنهم ليعلِّق(32) خاطرهم(33) في الرجاء لعلَّه يعطيهم(34) فيما بعد، فكان(35) يمينه ╕ رفعًا لهذا(36) التشويش، وراحةً لنفوسهم عند قطع الإياس، وكل ما كان سببًا لرفع تشويش فهو مستحبٌّ.
          فإن قال قائل: فما فائدة قَوْله ╕: «مَا(37) أَحْمِلُكُمْ، وَمَا(38) عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ(39)» وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل له: النَّبيُّ صلعم كان إذا جاءه أحد يطلب منه إن كان عنده شيء أعطاه، وإن لم يكن عنده شيء تكلم / لأصحابه إن كان فيهم مَن يقدر له بشيء يعطيه، فأتى ╕ بتلك اللفظتين(40) ليقطع عنهم مادة التشويش مرَّة واحدة، حتَّى لا يبقى لهم تعلُّقُ خاطر بإعطائه ولا بكلامه لمن يعطيهم فقوله: (مَا(41) عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) إشارة لهم(42) بأنَّه ليس عنده ما يحملهم عليه، وقوله: (لَا أَحْمِلُكُمْ) إشارة بأن لا يتسبَّب لهم في ذلك(43).
          لكن يَرِد على هذا (سؤال) وهو أن يقال: لِمَ قطع ╕ العادة التي كان يفعل لهؤلاء الأشعريِّين دون غيرهم، وهو كونه إذا لم يكن عنده شيء نظر في أصحابه وتكلم لهم؟
          والجواب عنه(44): أنَّه قد يكون النَّبي صلعم علم أنَّ أصحابه ليس عندهم في الوقت شيء إلا قَدْر ما يقوم بحركتهم، ولا(45) يفضل لهم على ذلك فضل حتَّى يعطونه غيرهم(46)، وهم كانوا خارجين إلى الجهاد فيحتاجون إلى القوة والشدَّة، فإن شاركهم غيرهم فيما عندهم قد يضعفون عن القتال بسبب ذلك، سيما الصَّحابة رضوان الله عليهم الذين(47) كان قُوتُهم التمرةَ والتمرتين، فإذا شاركوا(48) غيرهم في هذا النزر(49) اليسير معلوم أنَّهم لا يطيقون القتال، لأنَّ البشر لا بدَّ له مِن شيءٍ ما يسدُّ به رمَقه.
          وقد روي عن بعضهم أنَّه كان قوتهم في غزوة من الغزوات تمرةً تمرةً، ففرَّق(50) التمر فجاء أحدهم يأخذ تمرته(51) فقيل له: قد أخذتها فغشي عليه فلم يفق حتَّى أعطيته / وأكلها(52)، فقام، فإذا كانوا على هذا الحال فالزائد عليهم ضرر بهم لا مصلحة في خروجه معهم، فترك(53) ╕ الطلب لأصحابه لأجل هذا المعنى، والله أعلم.
          الوجه الثَّالث من البحث المتقدم: قَوْلُهُ: (وَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا). النَّهب(54) هو: ما يؤخذ مِن أموال المشركين وهي الغنيمة التي يضرب عليها بالخيل والرَّجِلِ(55) فتؤخذ أموالهم وتنهب مِن أيديهم، وسؤاله ╕ على(56) النفر الأشعريين حين أتاه النهب دليل واضح على أنَّه ما أراد بيمينه إلا الوجه الذي ذكرناه وهو رفع التشويش عنهم.
          الوجه الرَّابع: قوله ◙ : (فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى) الذود عند العرب هو الجمل الواحد، فهو أخبر أنَّه ╕ أعطاهم خمسة(57) أبعرة، و(غُرِّ(58) الذُّرى) صفة للجمال وهو بياض يكون في أعلى أَسْنِمَتها، وإنَّما أتى بصفتهم، لأنَّها قرينة تُذْهِب التهمة في النسيان والغلط، لأنَّ مَن يذكر هذا القدر من الجُزئيات فقد انتفت عنه التهمة في القضية بكل ممكن.
          الوجه الخامس: قوله(59): (فَلـمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟) فيه دليل على أنَّ المرء إذا حصل له مراده(60) يُسَرُّ بذلك في وقته حتَّى قد ينسى ما كان قبله مِن شدة فرحه به، لأنَّ مراد هؤلاء الأشعريين كان أن لو وجدوا إعانة للجهاد في سبيل الله وبين يدي رسوله(61) صلعم، فلمَّا ظفروا بذلك أشَغَلهم(62) الفرح الذي دخل عليهم بالطاعة التي نالوها عن ذكرِ يمينِ / النَّبيِّ صلعم، فلمَّا أن سكن ذلك عنهم قليلًا ورجعوا إلى أنفسهم فحينئذ أُلهِموا(63) لذلك فرجعوا إذ ذاك، وهذا أمر(64) قلَّ أن يثبت عنده إلا القليل النادر، ولا يحصل التثبُّت هناك إلا لمن داوم على محاسبة نفسه في كلِّ أنفاسه، واستغرق في المراقبة حتَّى يذهل عن لذة الطاعة ولذيذ النِّعم، مع أن مَن وجد هذه اللذَّة بالطاعة(65) حتَّى يذهل في الحين عن أموره لِمَا توالى عليه مِن محبتها فهو مقام سَنِيٌّ، لكن ما أشرنا إليه أرفع وأعلى.
          الوجه السَّادس(66): قولهم: (لَا يُبَارَكُ لَنَا) هذه البركة التي خافوا مِن زوالها احتملت وجهين:
          (الأَوَّل): أن(67) يكونوا أرادوا بزوالها أنَّهم لا يبلغون بها ما أَمَّلوا.
          (الثَّاني): أن(68) يكونوا أرادوا لا يبارك لهم في أثمان تلك الجمال ولا في رقابها(69) لكونهم لم يأخذوها على الوجه الْمَرْضِيِّ، لأنَّه تعيَّن عليهم فيه(70) النصح للنَّبي صلعم لقَوْله ╕: «النَّصِيْحَةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ» وهم كانوا عالمين بيمين النَّبيِّ صلعم فتعيَّن عليهم نصحه، فخافوا مِن زوال البركة لأجل ما تعيَّن عليهم بسببه فلم يفعلوه، لأنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا يَتوَقَّون أشياء حلالًا(71) محضًا مخافة وقوعهم في الحرام، كما قال بعضهم: كُنَّا ندَعُ سبعين بابًا مِن الحلال مخافة أن نقع في الحرام، لأنَّ الحرام ترتفع(72) منه البركة ظاهرًا وباطنًا. /
          أمَّا الباطن فإنَّه يُحْدِثُ الظلمة في القلب والقساوة(73)، وأمَّا الظاهر فإنه يُحْدِثُ الكسل عن العبادة والامتهان بحقِّها، مع أنَّ البركة تذهب منه محسوسة، لأنَّه إذا كان الشيء حرامًا ما يقوم باثنين يستعمله رجل واحد ولا يكفيه لزوال البركة منه(74) وذهابها، وكذلك أيضًا في الضدِّ وهو الحلال لا بدَّ مِن ظهور البركة فيه(75) محسوسة ومعنوية، وبالمحسوسة يستدلُّ على المعنوية في كلا الطريقين(76) في الحلال والحرام، فإذا بُورك في طعام(77) وقام باثنين منه(78) ما يقوم بالواحد علم أن البركة المعنوية حاصلة فيه بالضمن.
          ولهذا المعنى لَمَّا أن وجد أبو بكر ☺ في الصَّحْفَةِ(79) التي قدَّمها إلى الأضياف، فأكلوا منها وهي باقية على حالها لم تنقص، ثمَّ أكل هو وأهل(80) بيته وهي على حالها لم تنقص، آثر بها النَّبي صلعم لعلمه(81) بتلك البركة المعنوية فيها بما شهد له ظاهرها فاستدلَّ بالحسي على المعنوي.
          ولأجل هذا المعنى كان طعام أهل الخير والصلاح أبدًا فيه مِن البركة(82) ما ليس في غيره، لأجل أنَّهم يبحثون(83) على الحلال أكثر مِن غيرهم، فكانت البركة لديهم ظاهرة وباطنة، فاستعانوا بذلك على العبادة والاستمرار عليها، وتنوَّرت بواطنهم، وقلَّ تَسَبُّبهم في أسباب الدنيا للبركة الحسية والمعنوية الموجودة في طعامهم(84).
          الوجه السَّابع من البحث / المتقدم: قوله: (فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا: إِنَّا سَأَلْنَاكَ(85) فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا، أَفَنَسِيتَ(86)؟) فيه دليل على أنَّ الشيء إذا كان فيه محتمَلات وأحدهم(87) أبرأ للذِّمة فالسُّنَّةُ فيه أن يؤخذ بما هو الأبرأ(88) للذمة، لأنَّ عطية النَّبيِّ صلعم إليهم(89) الإبل يحتمل وجهين:
          (أحدهما): أن يكون أعطاهم ذلك مع علمه باليمين.
          و(الثاني): أن يكون أعطاهم(90) ناسيًا له(91)، فإن كان الأَوَّل فليس عليهم فيه شيء، لأنَّه ╕ هو(92) المشرِّع، وما يفعل إلا ما هو الأمر الذي يتديَّن به، لأنَّ منه(93) يُؤخذ الدِّين وتُتلقَّى الأحكام، وإن كان الثَّاني فليس عليهم(94) أيضًا فيه شيء، لقَوْله ╕: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ» لكن(95) يتعيَّن عليهم في ذلك النُّصح، لأنَّهُم سمعوه حين حلف، وهم الآن ذاكرون لذلك قادرون(96) على زواله إن كان نسيانًا، فخافوا مِن أحد المحتملات فأخذوا بالأبرأ(97) للذِّمة حتَّى أزالوا ما كان هناك من الشُّبهة(98) وعلموا وجه(99) الصواب في المسألة، والشُّبهة هناك(100) ما أشرنا إليها وهي تركهم النصيحة لرسول الله صلعم (101).
          الوجه الثَّامن: قَوْلُهُ ╕: (لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ) فيه دليل على أنَّ المرء ينظر في عمله الصالح بنظر الحقيقة والتوحيد، فكلُّ ما يصدر منه مِن أنواع(102) الخير يرى أنَّ الله تعالى هو الفاعل(103) لذلك(104) حقيقة، ومنَّ عليه وتفضَّل بأن أظهر ذلك وأجراه على لسانه أو يده(105)، لأنَّ النَّبي صلعم / لَمَّا أن أجرى الله سبحانه وتعالى هذا الخير على يده(106)، وهو حمل الأشعريين إلى الغزو، تبرَّأ مِن فعله ذلك ونسب حملهم إلى الله تعالى لا لنفسه(107) المكرَّمة وتدبيره(108).
          وكذلك أيضًا يجب أن ينظر بالعكس عند ترك الأعمال أو وقوع المخالفة وكلُّ ما فيه نقص، ينسب كلَّ هذا وما أشبهه إلى النفس، وينظر إذ ذاك مِن طريق التكليف(109) والأمر، لأنَّ النَّبيَّ صلعم لَمَّا أن امتنع مِن حمل الأشعريين نسب الامتناع لنفسه المكرَّمة، فقال: (وَاللهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ) ولم يقل لهم(110): الله منعكم مِن الحمل، لأنَّه ما(111) أعطاني ما أحملكم عليه، وهذا مِن التأدب مع الرُّبوبية والتعمُّق في ميدان الحقيقة والتوحيد مع النظر(112) بالحكمة والتكليف، فمَن كانت قاعدته هذه فهو السعيد، لأنَّ وجود هذه الخصلة عَلَم على التوفيق.
          يَدُلُّ عَلَى ذلك قصة آدم ╕ لَمَّا أن يُسِّرَ للسعادة(113) نظر إلى هذه القاعدة فسلك هذا المنهاج فنسب الخطيئة التي وقعت منه لنفسه، فقال:{قَالَا رَبَّنَا(114) ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فتاب الله عليه وجعله مِن أصفيائه، ومَن كانت قاعدته عكس ما قررناه، أو كان نظره في كل أموره(115) بنظر التوحيد، فذلك عَلَم على شقائه وخسرانه، لأنَّ وجود هذه الخصلة يدُلُّ عَلَى ذلك.
          يشهد لذلك قصة إبليس اللعين لَمَّا أن يُسِّر للبعد والشقاء والطَّرد والخذلان / حين(116) امتنع مِن السجود لم يعترف بعد ذلك على نفسه(117) بالخطأ وإنَّما نظر إلى الحقيقة، فقال: لوشاء الله أن أسجد لسجدت، فكان ذلك سببًا إلى خذلانه.
          الوجه التاسع: قَوْلُهُ ╕: (وَإِنِّي وَاللهِ _إِنْ شَاءَ اللهُ_ لاَ أَحْلِفُ(118) عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى(119) غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا(120)) فيه دليل على جواز التحلُّل مِن اليمين وقد تقدَّم.
          وقد اختلف الفقهاء هل الكفَّارة تكون قبل الحِنْث عند(121) العزم عليه أو لا تكون إلا بعد وقوعه؟ على قولين، وسبب الخلاف هذا الحديث، وما جاء في رواية أخرى أنَّه ╕ قال: «ثُمَّ تَحَلَّلْتُ مِنْ(122) يَميني» فأتى فيما نحن بسبيله بـ (الواو) وهي ليست تعطي الترتيب، وأتى في الحديث الآخر بــ(ثم) التي تفيد أنَّ الحِنث وقع قبل، لأنَّها للمهلة والتراخي، واستثناؤه ╕ هنا هو مِن باب التأدُّب مع الرُّبوبية، لأنَّ اليمين بغير(123) استثناء قطع على القدر ألا ينفذ، ولهذا المعنى قال مالك ☼(124) لمن أخبره أنَّه وقف على عرفة وتاب وحلف أنَّه(125) لا يقع في مخالفة أبدًا، فقال له: بئسَ ما صنعتَ، ما وقعتَ فيه أشدُّ ممَّا تبتَ منه، لأنك آليت(126) على الله ألَّا ينفذ قضاؤه وقَدَرُهُ، فكان استثناء النَّبيِّ صلعم لأجل هذا المعنى.
          ولأجل النظر إلى ما أشرنا إليه ذهب ابن عباس ☺ إلى أنَّ الاستثناء يجوز ولو بعد سنين، / فالاستثناء له سائغ، لأنَّه نظر أنَّ اليمين بغير استثناء قطع على القدرة، وذلك قِلَّة أدب واحترام بجانب الربوبية وإن كانت الأيمان قد أُبيحت لنا في شريعتنا، لأنَّ ذلك مِن باب المنِّ والتوسعة، وقد كان عيسى ╕ يقول لبني إسرائيل: «وَأَنَا أُوصِيْكُمْ أنْ لا تَحْلِفُوا باللِه صَادِقِيْنَ وَلَا كَاذِبِينَ» فجعل ابن عباس ☺ الاستثناء في هذا اليمين إذا وقع كالتوبة من الذنب، والتوبة مرغَّب فيها إلى وقت التعزير، فإذا كان استثناء المرء لأجل هذا المعنى، وهو الرجوع عن ما وقع منه مِن سوء الأدب فاستثناؤه سائغ وهو يخرجه عن ما عقد مِن اليمين.
          وإنَّما ذهب ☺ إلى هذا لأجل أنَّه كان في خير القرون فقلَّ أن تقع اليمين مِن أحدهم، وإن وقعت فيكون رجوعهم للاستثناء لأجل هذا المعنى لا لشهوات أنفسهم، فلِما استقرأ مِن أحوال أهل زمانه وما هم عليه كانت فُتْياه بهذا، ولأجل عدم هذا أنكر قولَه مَن(127) أتى بعده مِن الفقهاء ولم يعلموا له وجهًا في الغالب، لأنَّ النَّاس قد تغيَّروا عمَّا كانوا عليه، فَمِنَ العلماءِ مَنْ فهم معناه ومنهم مَن لم يفهمه، ومَن فهمه لم يقدر أن يبدي ذلك لأهل زمانه، لأنَّ الغالب عليهم تفضيل شهواتهم وتقديمها فقد يدَّعون أنهم أرادوا الوجه الذي ذكرناه وهم / لم يريدوا إلا شهوات أنفسهم واتباع أهوائهم، فكان ترك ذكر بيان مذهبه سدًا للذريعة.
          ولأجل هذا يقال: لا بدَّ في كلِّ زمان مِن عالم يبيِّن الدِّيْن بحسب ما يحتاج إليه في الوقت، يؤيِّد هذا قَوْلُهُ ╕: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوْسُهُم الأنبياءُ، كُلَّمَا هلكَ نبيٌّ جَاءَ بَعْدَهُ نبيٌّ، وإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَإِنَّ عُلَمَاءَ أُمَّتِي كَأَنْبِياءِ بني إِسْرَائيلَ».
          ثمَّ اختلف الفقهاء اختلافًا كثيرًا: متى ينفع الاستثناء؟ كلٌّ منهم ذهب إلى ما اتَّضح له عليه الدليل، ولكلِّ واحد منهم نظر صحيح، ولولا التطويل لأوضحنا تصحيح مذاهبهم وبيَّنَّاها(128).
          فإن قال قائل: لو(129) كان الوجه(130) في الاستثناء ما ذكرتم لم(131) يصدر اليمين من النَّبيِّ صلعم بغير استثناء، لأنَّه(132) قد حلف ألا يحملهم ولم يَسْتَثْنِ؟ قيل له: قد بيَّنَّا الوجه الذي لأجله حلف هناك، فلو استثنى(133) إذ ذاك(134) لزال المقصود ممَّا أريدت اليمين إليه(135) وبقيت النفوس متشوِّفة متطلعة.
          فإن قال قائل: لِمَ قال ╕ ذلك عن نفسه المكرَّمة(136) ولم يقل: مَن حلف على يمين فيرى(137) خيرًا منها(138) يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه؟ قيل له: إنَّه(139) لو عَدَل عن ذكر نفسه المكرَّمة إلى ذكر(140) غيره لكان في المسألة توقُّف مِن باب الورع، لأنَّه قد يؤخذ ذلك منه على باب الترخُّص(141) والتوسعة، ويُرَى أن الأولى البقاءُ على اليمين مِن غير إيقاع الحِنث، فلمَّا أن أَخبَر بذلك عن نفسه / المكرَّمة عُلِمَ أنَّ الأولى ما فَعَلَ هو(142) ╕، يبيِّن هذا ويوضِّحه قصة أم سَلَمة حين(143) قالت للنَّبيِّ صلعم : (إنَّهم لم يعصُوكَ وإنَّما اتَّبَعوك)، وقد أوردناه في حديث الإفك وبيَّنَّا هذا المعنى بنفسه(144) والله المستعان.


[1] في (م): ((والأمر بضد ذلك عن أبي موسى قال أتيت)).
[2] زاد في (م): ((فقال والله لا أحملكم ولا عندي ما أحملكم عليه وأتي رسول الله صلعم بنهب إبل فسأل عنا فقال أين النفر الأشعريون وأمر لنا بخمس ذود غُرِّ الذرى فلما انطلقنا قلنا:ما صنعنا لا يبارك لنا فرجعنا إليه فقلنا إنا سألناك أن تحملنا فحلفت أن لا تحملنا أفنسيت قال لست أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها)).
[3] في (ج): ((سيد الأشعريين وصاحب رأيهم)). وفي (م): ((والجواب عن الأول أن أبا موسى ☺ سيد الأشعرين وصاحب رأيهم)).
[4] في (م): ((وبمشورته)).
[5] في (م): ((متواضعا)).
[6] في (ج): ((كذلك)).
[7] قوله: ((لكان في اللفظ ما يَدُلُّ عَلَى جبرهم في المجيء، فلما ترك ذلك وأتى بــ (في) زال ذلك)) ليس في (م).
[8] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و (م).
[9] قوله: ((ذكر)) ليس في (م).
[10] في (م): ((الصحابة ♥ يفعلون كثيرا منهم تبركا)).
[11] في (م): ((إذا)).
[12] في (م): ((النبي)).
[13] في (ج): ((ذكر)).
[14] في (ج): ((وكان هذا)).
[15] زاد في (م): ((بن عفان)).
[16] قوله: ((حديث)) ليس في (م).
[17] في (ج): ((في)).
[18] في (ج): ((عليكم بسنتي والخلفاء بعدي)).
[19] في (ج): ((استحمله)).
[20] في (م): ((أراد)).
[21] زاد في (م): ((أنه)).
[22] في (ج) و (م): ((بها)).
[23] قوله: ((من)) ليس في (م).
[24] في (م): ((ولا)).
[25] في (ط): ((من أفعال إلا لم يقدر)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[26] في (ج): ((حملة)).
[27] في (ج) و (م): ((وما عندي)).
[28] في (ط): ((من القرائن يدل))، وفي (م): ((من القرائن التي دلت)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((القرينة)).
[30] في (ج): ((حلفهم)) وزاد في (م): ((لهم)).
[31] قوله: ((لهم)) ليس في (م).
[32] في (ط) و(ج): ((لتعلق)) والمثبت من (م).
[33] في (ج) و (م): ((خواطرهم)).
[34] في (م): ((في الرجاء لعلهم أن يعطيهم)).
[35] في (ج): ((فكانت)).
[36] في (م): ((لهذه)).
[37] في (ج): ((لا)).
[38] في (م): ((ولا)).
[39] زاد في (م): ((عليه)).
[40] في (م): ((بتينك اللفظين)).
[41] في (ج) و (م): ((وما)).
[42] في (ج): ((له)).
[43] في (م): ((إشارة بأنه لا يتسبَّب في ذلك)).
[44] قوله: ((عنه)) ليس في (م).
[45] في (ج): ((لا)).
[46] في (م): ((حتى يعطوه على ذلك غيرهم)).
[47] في (ط): ((الذي)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[48] في (ج): ((شاركهم)).
[49] في (م): ((وإذا شاركهم غيرهم في هذا القدر)).
[50] في (م): ((ففرغ)).
[51] في (م): ((ليأخذ تمرة)).
[52] في (م): ((حتى أعطينه فأكلها)).
[53] في (ج): ((فتركه)).
[54] في (م): ((فسأل عنها الحديث النهب)).
[55] في (م): ((عليها الخيل والرجال)).
[56] في (م): ((عن)).
[57] قوله: ((خمسة)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[58] في (م): ((أبعرة غر)).
[59] قوله: ((قوله)) ليس في (م).
[60] في (م): ((قلنا ما صنعنا فيه دليل على من حصل له مراده)).
[61] في (ج) و (م): ((رسول الله)).
[62] في (ج) و (م): ((شغلهم)).
[63] في (ط): ((التهموا))، وفي (م): ((وحينئذ التهموا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[64] في (م): ((بأمر)).
[65] في (م): ((اللذة في الطاعة)).
[66] قوله: ((الوجه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى. وبعدها في (م): ((قوله)).
[67] في (م): ((أنهم)).
[68] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[69] في (م): ((أرادوا أن لا يبارك لهم في أثمانها ولا رقابها)).
[70] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[71] قوله: ((حلالا)) ليس في (م).
[72] في (م): ((ترفع)).
[73] في (م): ((والغشاوة)).
[74] قوله: ((منه)) ليس في (م).
[75] قوله: ((فيه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[76] في (ج) و(م): ((الطرفين)).
[77] في (م): ((الطعام)). وقوله بعدها: ((وقام)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[78] قوله: ((منه)) ليس في (م).
[79] في (ج): ((في الصفحة)). وبعدها في (م): ((الذي قدمها للأضياف)).
[80] قوله: ((أهل)) ليس في (م).
[81] في (م): ((بعلمه)).
[82] في (ج): ((فيه البركة)).
[83] في (م): ((في غيره لأنهم يتحدثون)).
[84] في (ج): ((في طباعهم)).
[85] زاد في (م): ((أن تحملنا)).
[86] في (م): ((فنسيت)).
[87] في (م): ((وأحدها)).
[88] في (ط): ((أبرأ)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[89] في (م): ((لهم)).
[90] زاد في (ج): ((ذلك)).
[91] قوله: ((له)) ليس في (م).
[92] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و (م).
[93] في (ج): ((وما يفعل إلا الأمر الذي يتدين به لأنه عنه))، وفي (م): ((وما يفعل إلا الأمر الذي يتدين به لأن عنه)).
[94] في (ط): ((عليه)) والمثبت من (م) و (ج).
[95] قوله: ((لكن)) ليس في (ج).
[96] في (م): ((وقادرون)).
[97] في (ط): ((بالإبراء)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[98] في (ط): ((والشبيهة)) وفي(ج) غير واضحة. والمثبت من (م).
[99] في (م): ((أوجه)).
[100] في (ط): ((والشبيهة ولا هناك)) والمثبت من (م).
[101] في (م): ((وهو تيكم النصيحة لله ولرسوله صلعم)).
[102] في (م): ((فكل ما صدر من أنواع)).
[103] في (ج): ((الفعال)).
[104] في (م): ((لذاك)).
[105] في (م): ((أبداه)).
[106] في (م): ((يديه)).
[107] في (م): ((إلى الله تعالى لا إلى نفسه)).
[108] في (ج): ((وتدبيرهم)).
[109] في (ج): ((التكاليف)).
[110] قوله: ((لهم)) ليس في (م).
[111] في (ط): ((ليس)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[112] في (ج): ((النصرة)).
[113] في (ج): ((للعبادة)).
[114] في (م): ((فنسب ما عوتب عليه لنفسه الطاهرة إذ إنه صفوة الله من خلقه فقال ربنا)).
[115] في (م): ((أمره)).
[116] في (م): ((حتى)).
[117] زاد في (م): ((الملعونة)).
[118] في (ج): ((لأحلف)).
[119] في (م): ((يمين إلا أرى)).
[120] في (م): ((وتحللت)).
[121] في (م): ((اختلف الفقهاء على أن الكفارة هل تكون قبل الحنث أو عند)).
[122] في (ج) و (م): ((عن)).
[123] في (م): ((من غير)).
[124] في (ط): ((قال بعض الفضلاء)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[125] في (م): ((أن)).
[126] في (م): ((فقال له ما وقعت فيه أشد مما تبت كأنك آليت)).
[127] في (ط): ((ما)) والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[128] قوله: ((ولأجل النظر إلى ما أشرنا إليه ذهب ابن عباس... ولولا التطويل لأوضحنا تصحيح مذاهبهم وبيَّنَّاها)) ليس في (م). وقوله: ((ما وقعتَ فيه أشدُّ ممّا تبتَ منه؛ لأنك آليت على الله... ولولا التطويل لأوضحنا تصحيح مذاهبهم وبيَّنَّاها)) ليس في (ج).
[129] في (ج): ((إن)).
[130] في (ط): ((التوجه))والمثبت من النسخ الأخرى.
[131] في (ط): ((ما ذكر لم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[132] في (م): ((فإنه)).
[133] قوله: ((ما ذكرتم لم يصدر اليمين من النَّبيِّ... الوجه الذي لأجله حلف هناك، فلو استثنى)) ليس في (ج).
[134] في (ج): ((أي ذاك)) وفي (م): ((استثنى ذاك)).
[135] في (م): ((عليه)).
[136] قوله: ((المكرمة)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[137] زاد في (ج): ((غيرها)).
[138] قوله: ((منها)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[139] قوله: ((إنه)) ليس في (ج).
[140] قوله: ((ذكر)) ليس في (م).
[141] في (ج): ((الرخصة)) وفي (م): ((منه من باب الرخصة)).
[142] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[143] في (م): ((حيث)).
[144] في (م): ((وقد أوردنا في حديث الإفك وشاهد المعنى بنفسه)).