بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: كانت إحدانا تحيض ثم تقترص الدم من ثوبها

          22- (عَنْ عَائِشَةَ ♦(1): كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ ثُمَّ تَقْرُصُ(2) الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا(3)...) الحديثُ. [خ¦308]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على غَسلِ دمِ الحَيْضِ والصلاةِ في الثوبِ الذي(4) حاضَتْ فيه، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          منها قولها: (كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيْضُ) ولم تُخْبِر عَن نفسِها، فالجوابُ أنَّ الإخبارَ عن الجميعِ يَقتضي تقريرَ الحُكمِ وهو على(5) الكلِّ على حدِّ سواءٍ، فلو أَخبرتْ عن نفسِها لاحتَمَلَ الأمرُ أن يكونَ ذلكَ(6) خاصًّا(7) بها، أو يكونَ لعُذْرٍ ما، فأتَتْ بالوجهِ الذي لا يَحتَمِلُ التأويلَ.
          ويُؤخَذُ منهُ مِنَ الفقهِ: أنَّ الإخبارَ عن الأشياءِ يجبُ أن يكونَ بأبين الوجوه(8).
          ويُؤخَذُ منه: جوازُ الإفصاحِ بالمستَقذَراتِ وإن كانتِ السُّنَّةُ قد جاءتْ بالكِنايةِ(9) عنها، لكنْ مِنْ أجلِ تقريرِ الأحكامِ كما تقدَّم في الحديثِ قبلُ لا يمكنُ إلا(10) الإفصاحُ بها، يؤخذُ ذلكَ مِن ذكرِها الحيضَ وإضافَتِه لهنَّ ╢.
          ويُؤخَذُ(11) منهُ: أن زوالَ النجاساتِ لا يتعيَّن إلا عندَ العبادةِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِها: (إنَّها لم تَكُنْ تَغسِلُ الدمَ إلا عندَ الطُّهورِ)(12).
          ويُؤخَذُ منه: أنَّ دمَ الحيضِ كغيرهِ مِن الدَّمِ سواءٌ، حُجَّةٌ على مَن يقولُ: إنه أشدُّ مِنْ غيرِه مِنَ الدماءِ، يؤخذُ ذلكَ مِن غسلها له ليسَ إلَّا(13)،كغسلِ المَنِيِّ قبلَه، وغيره مِن النجاسات.
          وأما قولُها: (ثُمَّ تَقْرُصُ الدَّمَ) فلأَنَّه أَيسرُ في(14) زوالِه، وهذا معلومٌ حِسًّا؛ لأنَّ النجاسةَ إذا كانَت(15) لها جِرْمٌ فحَكُّها أولًا(16) ثم غسلُها كان أسهلَ؛ لأنه إذا صُبَّ عليها ماءٌ ولم تُقرَصْ(17) كانَ أكثرَ في الانتشارِ لها في الثوبِ(18)، ويترتَّبُ عليهِ مِنَ الفقهِ وجوهٌ منها: أنَّ الأحسنَ بلِ السُّنَّةَ في غسلِ النجاسةِ التي لها عينٌ قائمةٌ فَركُها قبلَ غسلِها.
          ويُؤخَذُ منه / أنَّ السنَّةَ في الأمورِ أن يؤخَذَ الأَيسرَ منها؛ لأنَّ هذا الوجهَ لمَّا كانَ الأيسرَ في زوالِ النجاسةِ فَعَلتْهُ وأَخبرتْ بهِ لكي يُقتَدَى بذلكَ في هذا وفي كلِّ الأمورِ، ويُؤيِّدُ ذلكَ(19) في حديثٍ غيرِ هذا قولُها فيه: ((ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلعم بَينَ(20) أَمرَيْنِ إلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَالَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فإِنْ كانَ إِثْمًا كانَ أَبعدَ الناسِ منهُ)).
          وفيهِ دليلٌ على نَضْحِ ما شكَّ فيه(21)، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِها: (وَتَنْضَحُ(22) عَلَى سَائِرِهِ).
          وهُنا بحثٌ: لِمَ قالتْ في (الحَيضَةِ): بالنضح، ولم تذكرْ ذلكَ في المَنِيِّ؟
          فالجواب عن ذلكَ: لمَّا كانَ زمانُ المنيِّ يَسيرًا عُفيَ عنهُ، ولمَّا كانَ زمانُ الحَيضِ كَثيرًا جُعِلَ فيه النَّضْحُ؛ ولأنَّه أيضًا يدلُّ على العفوِ كما تقدَّمَ البحثُ في الحديثِ قبلَه، وإن كانَ يُعطِي بغلبةِ الظنِّ أن أطولَ(23) الأيامِ مع استصحابِ حالِ الحَيضَةِ والنَّجاسةُ ظاهرةٌ في الثوبِ حتى تَيبسَ؛ لأنَّه لا يمكنُ الفَركُ في الدمِ إلَّا مع يُبْسِهِ، فقد(24) يَضرِبُ في موضعٍ آخرَ قبلَ يُبْسِهِ(25).
          ولوجوهٍ(26) أُخَر: لأنَّ أولَ الحيضِ دمٌ خاثرٌ(27) وآخِرُهُ صُفرَةٌ وكُدْرَةٌ، كما جاءَ في «الموطأ»، والصُفْرَةُ والكُدْرَةُ لا يتعلَّقُ منهما(28) شيءٌ يَقتَضِي الفَركَ، فدلَّ بذلكَ أنَّ الدمَ بَقِيَ(29) في الثوبِ مِن أوَّلِ الحيضِ أو مِن أثنائِهِ أو مِن مجموعِهما حتى إلى وقتِ الطُّهرِ، ويَغلِبُ على الظنِّ إصابتُه؛ أَعنِي: أنَّ موضِعَ الدمِ يَضربُ في البدنِ، وقد يكونُ البدنُ عَرِقًا(30) فيتعلَّقُ به(31) شيءٌ منهُ ثم يمتَسِحُ(32) في موضعٍ ثانٍ مِن الثوبِ أو يضربُ موضعَ(33) الدمِ في غيرِه مِن الثوبِ نفسِهِ، لكنْ لمَّالم يكن مَرئيًا تُجُوِّزَ عنَّا في ذلكَ.
          وهل هذا في كلِّ ثوبٍ كانَ أبيضَ أو مَصبوغًا؟ الحديثُ ظاهرُه العمومُ.
          ويُؤخَذُ منهُ جوازُ(34) تركِ النجاسةِ في الثوبِ / في غيرِ وقتِ العباداتِ، وأنَّ ذلكَ ليسَ بمَمْنوعٍ، وهل ذلكَ _أعني بقاءها(35) في زمانٍ غيرِ زمانِ العبادةِ_ على الإطلاقِ أو لَيسَ؟ وأَعني بالإطلاقِ: كانتِ النجاسةُ مما تَنْفَكُّ عن ِالشخصِ أو ليستْ(36) ممَّا تَنفكُّ عنهُ كدمِ الحَيضَةِ؛ لأنَّ التي ليستْ تَنفَكُّ لو كُلِّفْنا زوالَها لكانَ فيهِ مَشقَّةٌ، فالجوابُ والله أعلمُ:(37) الجوازَ(38) على حدٍّ واحدٍ بدليلِ قولِها في حديثٍ آخَرَ عن(39) غَسْلِ المَنِيِّ (أنَّها كانتْ تَفْرُكُهُ)، ولا يكونُ الفَركُ إلا مع اليُبْسِ، فلو لم يكنْ ذلكَ جائزًا(40) لَمَا كانَ يقعُ ذلكَ مِن رسولِ اللهِ صلعم ولا كانتْ هي(41) تُعلِّلُ هُنا تأخيرَ(42) الغَسلِ؛ لأنَّ هذا موضعُ تقريرِ الحُكمِ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الصلاةَ لا تصحُّ مِنَ الحائضِ إلا بعدَ رفعِ الدمِ وزوالِ النجاسَةِ والطهورِ(43) بالماءِ، يُؤخَذُ ذلكَ(44) مِن(45) من وصفِها لهذه الأحوالِ، وحينئذٍ تُصلِّي، وهل هذا على الوجوبِ أو النَّدْبِ؟
          أمَّا الطُّهورُ فواجبٌ إذا أَمكنَ وإلا بَدَلُهُ، وأمَّا رفعُ الدمِ فواجبٌ بالنصِّ والإجماعِ، وأمَّا زوالُ النجاسةِ فمختلفٌ فيه: هل(46) هو فرضٌ أو سُنَّةٌ مع إِمكانِ زوالِها؟ ويدلُّ أيضًا على سقوطِها _أَعني الصلاةَ عَنِ الحائضِ_ لأنَّ وجوبَ الشيءِ سقوطُ ضدِّه، ويُقوِّي ذلكَ النصُّ والإجماعُ.
          وهنا سؤالٌ: لمَ قالتْ: (ثوبها)، ولم تَقُلْ: (درعَها)، أو غيرَ ذلكَ من أسماءِ الثيابِ؟
          فالجوابُ: أن الإخبارَ بالأعمِّ أَفصحُ وأَبيَنُ في الحُكمِ؛ لأنَّها لو قالت اسمَ ثوبٍ منَ الثيابِ كُنَّا نُلحِقُ باقي الثيابِ بهِ بالقياسِ، والذينَ لا يقولونَ بالقياسِ(47) يَقصُرونَ الحُكمَ على الذي نَطَقَتْ به ليسَ إلا، كما هِيَ عادتُهم في جميعِ الأحكامِ يَقصُرونَ الحُكمَ على المَنطوقِ بهِ ليسَ إلَّا، فلمَّا كانتِ الفائدةُ في(48) العامِّ الذي يَجمعُ(49) أنواعَ الثيابِ أتتْ بهِ عامًّا.
          ويترتَّبُ عليهِ مِن الفقهِ: أنَّ / المُخبِرَ بشيءٍ يتعلَّقُ بهِ حُكْمٌ أنْ يُخبِرَ بأَعَمِّ ما يكونُ في ذلكَ، وإن كانَ معَ الاختصارِ فحسنٌ.
          ويُؤخَذُ منهُ أيضًا: أنَّ بَدَنَ الحائضِ وعَرَقَهَا طاهرٌ؛ لأنَّ البدنَ بالضروةِ لابدَّ له مع(50) طولِ الأيامِ مِنَ العَرَقِ، فلو كانَ غيرَ طاهرٍ لغسلَتِ الثوبَ ولم تَنْضَحْهُ.
          وقولُها: (تَنضَحُ على سَائِرِهِ) هل (على)(51) هنا على بابِها أو هي زائدةٌ؟ الظاهرُ أنَّها على بابِها وليستْ بزائدةٍ؛ لأنَّها إذا كانتْ على بابِها هي إشارةٌ إلى تعليمِ كيفيَّةِ الفعلِ في النَّضْحِ، وإذا كانتْ زائدةً فلا(52) فائدةَ فيها، فحيثُ رأينا الزيادةَ(53) علمنا أنَّ ذلكَ هو المَقصودُ ممَّن هو أقلُّ مِنها، فكيفَ مِن تلكَ السيِّدَةِ؟ لأنَّ صفةَ النَّضْح الذي جعلَ طهور الماءِ شُكَّ(54) فيه هو(55) أن يَبُلَّ الشخصُ يدَهُ بالماءِ ويَرُشَّ على الثوب ولا يُلصِقَ يدَهُ بالثوبِ، ولذلك قالتْ: (عَلَى)، وهذا الوجهُ هو المُختارُ فيهِ لا غيرُ.
          وبعضُ الناسِ يَبُلُّ يدَه ويُلصِقُها بالثوبِ وحينئذٍ يَجُرُّها على الثوبِ أو يأخذُ الماءَ(56) ويَسكُبُه على الثوبِ، وقد قالَ علماؤُنا: إنَّ(57) مَن خالفَ الصفةَ الأُولى التي ذكرنا أنَّ ذلكَ(58) النَّضْحَ لا يُجزئِه، وأنَّ حُكمَه حُكمُ مَن صلَّى بالنجاسةِ، فمن قالَ في إزالتها(59) لإنَّها فرضٌ يُعِيدُ أبدًا، ومَن قالَ: إنها سُنَّةٌ يُعيدُ في الوقتِ؛ لأنَّه مَن خالفَ ما أُمِرَ به لا يُجزِئُه غيرُه.
          وفيه دليلٌ على أنَّ حُكمَ النَّضحِ حيثُ أُمِرَ بهِ كحُكْمِ الغَسلِ حيثُ أُمِرَ بهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِها: (وتَنضَحُ على سَائِرهِ)، فَشرِكت(60) الحُكمَ بينَ الغَسلِ والنَّضحِ(61)، وحينئذٍ قالتْ: (ثمَّ تُصَلِّي)، فأتتْ بـ (ثُمَّ) التي هي(62) للتحويلِ مِن حالٍ إلى حالٍ، فلم تَشرعْ في الصلاةِ إلا بعدَ الفراغِ مِن النَّضحِ والغَسلِ، وفيهِ تَقوِيَةٌ لِمَا ذكرنا مِن قولِ علمائِنا ♥ / ، واللهُ المُوفِّقُ(63).


[1] زاد في (ج): ((أنها كانت)) قوله: ((♦)) ليس في (ف).
[2] في (ل): ((تقترص)) في(ف): ((تقرض)).
[3] في (ل): ((طهورها))، وزاد في (ج) و(ل) و(ف): ((فَتَغْسِلُهُ وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ)) وليس في(ج) و(م) قوله: ((الحديث)).
[4] في (ط) و(ج) و(م): ((التي)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] في (م): ((عن)).
[6] في (م): ((ذاك)).
[7] في (ط) و(ل) و(ج): ((خاص)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ط): ((أن يكون ما بين الوجه))، وفي (ج): ((تكون ما بين الوجوه))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] في (ف): ((وإن كانت جاءت السنة بالكناية)).
[10] قوله: ((إلا)) ليس في (م).
[11] في (ج): ((يؤخذ)) بدون الواو.
[12] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((الطهر)).
[13] في (ط) و(ف) و(ل): ((ذلك من قولها عن غسل الدم ليس إلا)) والمثبت من (م)، و العبارة في (ج): ((ذلك من قولها عن غسل الدم ليس إلا مِن غسلِها لهُ ليسَ إلَّا)).
[14] في (ج): ((من)).
[15] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((كان)).
[16] في (م) و(ل): ((أولى)).
[17] في (ف): ((يقرص)).
[18] قوله: ((لها في الثوب)) ليس في (م).
[19] زاد في (م): ((فيه)).
[20] في (ل): ((في)).
[21] في (ج): ((شكت فيه))، وزاد في (م) و(ل): ((فيه)) وهي ليست في (ط) و(ف).
[22] في (ط): ((وينضح)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[23] في (ط): ((أطول)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] في (ج): ((وقد)).
[25] قوله: ((فقد يَضرِبُ في موضعٍ آخرَ قبلَ يبسِهِ)) ليس في (م).
[26] في (ج): ((ولوجه آخر)).
[27] في (ج): ((خاثر)).
[28] في (ج): ((منها)). وبعدها في (م): ((بشيء)).
[29] في (ج): ((يبقى)).
[30] في (ج): ((عاريا))، وفي (م): ((عرقانا))، وفي (ل) و(ف): ((عارقاً)).
[31] في (ف): ((له)).
[32] في (ف): ((يمسح)).
[33] في (ط): ((يضرب مع الدم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (م): ((زوال)).
[35] في (ط): ((نقاها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] في (م): ((ليس))، وقوله: ((مماتنفك عن الشخص أو ليست)) ليس في (ف).
[37] زاد في (ل) و(ف): ((أن)).
[38] قوله: ((كدم الحيضة لأن التي.... الجواز)) ليس في (ج).
[39] في (م): ((عند)).
[40] في (ج): ((جائز)).
[41] قوله: ((هي)) ليس في (م).
[42] في (ج): ((بتأخر)).
[43] في (ج) و(ل) و(ف): ((والطهر)).
[44] قوله: ((ذلك)) ليس في (ل). وقوله بعدها: ((من)) ليس في (ج) و(م).
[45] .
[46] قوله: ((هل)) ليس في (ج).
[47] في (ج): ((في القياس)).
[48] زاد في (ج) و(ل): ((العلم))، وقوله: ((العام)) ليس في (ل).
[49] في (م): ((العادة التي تجمع)).
[50] في (ج): ((من)).
[51] قوله: ((على)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[52] في (م) و(ل) و(ف): ((لا)).
[53] في (ل): ((الزائدة)).
[54] كذا في النسخ، وفي (المطبوع): ((شرطاً)).
[55] في (ج): ((وهو)).
[56] زاد في (ف): ((بيده)).
[57] في (م) و(ل) و(ف): ((إنه)).
[58] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[59] زاد في (ف): ((لايجزئه)).
[60] في (ط) و (ج): ((فتركت)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[61] في (م) و(ل) و(ف): ((النضح والغسل)).
[62] قوله: ((هي)) ليس في (ف) و (ج) و (م).
[63] قوله: ((والله الموفق)) ليس في (ل).