بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ويقولون الكرم إنما الكرم قلب المؤمن

          250-قوله صلعم : (وَيَقُولُونَ: الكَرْمُ، إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ)(1). [خ¦6183]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ حقيقة تسمية الكرْم إنَّما هِي لقلب(2) المؤمن، وأنَّه(3) في غيره مجاز. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ فيه دليلاً لمن يقول: إنَّ اللغة(4) اصطلاحية. يُؤخذ ذلك مِن أنَّهم كانوا عرباً، وكانوا يكنون عن ثمرة العِنَب بالكَرمة، فمنع صلعم مِن ذلك بقوله: (إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ) وقد جاء مِن طريق / آخر «ولكِنْ قُولوا: حَدِيقةُ العِنَب».
          وفيه بحث وَهو: لِمَ خصَّ قلبَ المؤمن بهذا الاسم؟ فإن قلنا: تعبُّدٌّ، فلا بحث. وإن قلنا: لحكمة، فما هي؟ فنقول _والله أعلم_: لَمَّا(5) كان اشتقاقه مِن الكرم، والأرض الكريمة هِي أحسن(6) الأرض، وهذه الصِّفة حيثما وُجدت فهي مِن أحسن الصفات، فلا يليق إلَّا أن يعبِّر بها عَن قلب المؤمن الذي هو خير الأشياء، لأنَّ المؤمن هُو خير البَرِيَّة _على أحد الوجوه_ وخير مَا في المؤمن قلبه، لأنَّه(7) قد قال صلعم : «إنَّ في الجسدِ مُضْغةً إذا صَلَحَت صَلَح الجسدُ، ألا وهي القَلْبُ، ألا وهي القَلْبُ(8)» أو كما قال صلعم.
          وكيف(9) لا يكون كذلك وهي(10) أرض لنبات ثمرة الإيمان التي قدْ قال مولانا سبحانه فيها(11): {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24- 25].
          ويترتَّب عليه(12) مِن الفقه أنَّ كلَّ خيرٍ كان لفظاً أو معنى(13) أو مشتقَّاً منه أو مسمَّى به، إنَّما إضافته الحقيقة إلى(14) الإيمان وأهله، وهو فيما عدا ذلك مجاز، وَفي الكرمة(15) أيضاً شبهٌ مِن المؤمن، لأنَّها ليِّنة قريبة الجني، حلوة المذاق، وتغني عَن الطَّعام لآكلها، وَتغني عَن الماء لمن استعملها.
          وفيها تنبيه لطيف لأنَّ أوصاف الشَّيطان تجري معها كما يجري الشَّيطان في بني آدم مجرى الدم(16)، فَكما أنَّ غفلة المؤمن عَن شيطانه أوقَعَته في المخالفة، وألبسته ثوب البُعد والحرمان، كذلك إن غفل عن عصير الكرمة ظهرت تلك الأوصاف فيها / فألبستها(17) ثوب التَّخمير والتَّنجيس، وهو الخمر المتَّفق على تحريمه(18).
          ويقوى الشَّبه بينهما مِن أجل أنَّ الخمر مِن ساعتِهِ(19) يعود خلًّا، فكساه ثوبُ التَّخليلِ الطَّهارة(20)، فكذلك المؤمن مِن ساعته بالتَّوبة النَّصوح عادت له طهارته الأصليَّة ورياسته الجميلة، وجَبَّت(21) توبَتُهُ ما كان قبلها مِن البُعد والحِرمان، وأذهبت الأثقال والآثام، وكَما تكون أيضاً(22) توبة المؤمن بمعالجة مِن وعظٍ أو تذكارٍ أو(23) بِفَيضٍ لَا يتقدَّمه عِلاج، فكذلك العَصير إذا تخمَّر قَد يكون تخليله(24) بمعالجةٍ، وقد يكون دفعةً مِن غير علاج.
          فهلَّا(25) نظرتَ يا مسكينُ إلى عصير كرم قلبك، فتعالج تخميره، لعلَّه يعود ذلك خلًّا، ولَا تغفل عنه، فيذهب بجميع عقلك، فتلحق بالهالكين.
          وفيه دليل عَلى كثرة حياء سيِّدنا(26) صلعم، يُؤخذُ ذلك مِن قوله: (وَيَقُوْلُوْنَ) بلفظ الغيبة، ولم يقل لهم: (تقولون) فإنَّه يكون فيه الخجل لهم. وكذلك كانت عادته المباركة إذا قيل له عن أحدٍ شيءٌ(27)، فإنَّه كَان لا يسمِّيه باسمه وَلا يقول له: يا فلان لِمَ قلت كذا وكذا؟ إلَّا أنَّه كان قوله: «ما بالُ رجالٍ يقولون كَذا، أو يفعلون كذا(28)؟».
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أنَّ أهل الفضل أولى النَّاس بالأدب وَمكارم الأخلاق، وَقد نصَّ صلعم عَلى ذلك بقوله: «إنَّما بُعثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاقِ» وَقد قال مَن قال(29): إذا(30) كنتَ ذا همَّة فتجمَّل بمكارم(31) الأخلاق / والشِّيم واملأ عِطفَيْكَ تبختراً بهما(32)، فقد أصبت سنَّةَ خير الأمم.


[1] في (ب): ((عن أبي هريرة قال قال النبي صلعم : يَقُولُونَ الكَرْمُ، إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ)).
[2] في (م): ((القلب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] في (ج): ((وإنما))، في (ت): ((وأنَّها)).
[4] في (ج): ((العلة)).
[5] في (ج): ((ما))، وفي (ب): ((والله الموفق لما)).
[6] في (ج): ((حسن)).
[7] في (ج) و(ت): ((فإنه)).
[8] قوله: ((ألا وهي القلب)) ليس مكرراً في (ب).
[9] في (م): ((كيف)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (ج) و(ت): ((وهو)).
[11] قوله: ((فيها)) ليس في (ب).
[12] زاد في (م): ((فيها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[13] في (ب): ((لفظيا او معنويا)).
[14] في (ت): ((إلا))، وفي (ب): ((إنما تكون إضافته الحقيقية إلا إلى)).
[15] في (م): ((الكرامة)).
[16] قوله :((مجرى الدم)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] في (ج): ((وألبستها))، وبعدها في (ب): ((ثوب التخمر..)).
[18] في (ب): ((المتفق عليه من جميع العلماء على تحريمه بلا خلاف)).
[19] في (ت) و(ج) و(م): ((ساعة)).
[20] في (ج): ((الطاهرة)).
[21] في (ج): ((وتجب)).
[22] في (ب): ((وأذهبت الآثام والأثقال وكما أيضاً تكون)). وفي (ج): ((وكما أيضاً تكون)).
[23] زاد في (ب): ((تكون)).
[24] في (ب): ((تخلله)).
[25] في (ج) و(م): ((فهل)).
[26] زاد في (ب): ((محمد)).
[27] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((شيئاً)).
[28] في (ج): ((ويفعلون كذا))، وفي (ب): ((ما بال رجال يفعلون كذا ويفعلون كذا)).
[29] قوله: ((من قال)) ليس في (ج)، وفي (ب): ((وقال بعض الناس)).
[30] في (ت): ((إن))، وفي (ب): ((فإذا)).
[31] في (م): ((مكارم)).
[32] في (ب): ((بتجرانهما)).