التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم

          ░191▒ باب: ما يُكره مِنْ ذبح الإبل والغنم في المغانم. /
          3075- ذكر فيه حديث رافِع بن خَدِيجٍ السَّالفَ في آخر الشَّركة قريبًا بطوله [خ¦2488].
          و(أُخْرَيَاتِ النَّاسِ) أي: آخرهم، رفقًا بالجيش وليحمل الكَلَّ والمنقطع.
          وقوله: (فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ) يحتمل أن يريد أنَّهم تجاوزوا في ذلك، وتبويب البُخَاريِّ دالٌّ على كراهة ذلك.
          ونقل ابن المنيِّر عن بعض العلماء أنَّ المذبوح بغير إذن صاحبه تعدِّيًا سرقةً أو غصبًا: ميتَةٌ، قال: وله انتصر البُخَاريُّ.
          ومذهب مالكٍ أنَّ البقر والغنم بمنزلة الطَّعام، لا يُحتاج في استباحتها إلى قَسمٍ ولا إذن الإمام، لأنَّ الحاجة إليها كالحاجة إلى العسل والعنب، بل هذه أحرى وأولى.
          وقال الشَّافعيُّ: لا يُذبح شيءٌ مِنْ ذلك إلَّا لضرورةٍ.
          قال ابن القاسم: ولهم أن يضحُّوا بالغنم المجزرة في المغانم وما أُخذ مِنْ ذلك للاستعداد كالفرس والثَّوب يُنتفع به حتَّى ينقضيَ غزوه، فقال ابن القاسم: يأخذه بغير إذن الإمام، وينتفع به حتَّى ينقضيَ غزوه.
          ورُوي عن عليٍّ وابن وَهبٍ وغيرهما: لا يأخذ شيئًا مِنْ ذلك، قال المهلَّب: وإنَّما أمر بإكفاء القدور مِنْ لحوم الإبل والغنم، وأكلُها جائزٌ في دار الحرب بعد إذن الإمام عند العلماء، هذا قول مالكٍ واللَّيثِ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ.
          وجماعةٌ مِنَ العلماء رخَّصوا في ذبح الأنعام في بلاد العدوِّ للأكل وفي أكل الطَّعام، لأنَّ هؤلاء الَّذين أُكفئت عليهم القدور إنَّما ذبحوها بذي الحُلَيفة وهي أرض الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا في أرض الإسلام إلَّا ما قُسم لهم، لأنَّها حاصلةٌ، وإباحة الأكل مِنَ المغنم إنَّما هو في أرض العدوِّ قبل تخليص القسمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما.
          وقد قال الثَّوْريُّ والشَّافعيُّ: إنَّ ما أخذه المرء مِنَ الطَّعام في أرض العدوِّ وفضلت منه فضلةٌ ويقدم بها بلاد الإسلام أنَّه يردُّها إلى الإمام.
          وقال أبو حَنيفةَ: يتصدَّق به، فكيف مَنْ يتسوَّر فيه في أرض الإسلام، ويأخذه بغير إذن الإمام؟
          ورخَّص مالكٌ في فضلة الزَّاد مثل الخبز واللَّحم إذا كان يسيرًا لا مال له، وهو قول أحمدَ.
          وقال اللَّيث: أحبُّ إليَّ إذا دنا مِنْ أهله أن يطعمه أصحابه.
          وقال الأوزاعيُّ: يهديه إلى أهله، وأمَّا البيع فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه في المغنم، فإن فات ذلك تصدَّق به عن الجيش، ورخَّص فيه سُليمان بن موسى.
          وأمرَ بإكفاء القدور ليُعلِمهم أنَّ الغنيمة إنَّما يستحقُّونها بعد قسمته لها، فلا يفتاتوا في أخذ شيءٍ قبل وجوبه لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
          قال الحسن: إنَّ هذه الآية نزلت في قومٍ نحروا قبل أن يصلِّي رسول الله صلعم، فأمرهم أن يعيدوا الذَّبح.
          وقال مجاهدٌ في هذه الآية: لا تفتاتوا على رسول الله بشيءٍ حتَّى يقضيَه الله على لسانه.
          وقال الكلبيُّ: لا تقدِّموا بقولٍ ولا فعلٍ.
          وفيها قولٌ آخر ذكره ابن المُنْذرِ عن سِمَاك بن حربٍ عن ثَعلبة بن الحكم قال: أصبنا يوم خَيبرَ غنمًا فانتهبناها فجاء رسول الله صلعم وقدورهم تغلي فقال: ((إنَّها نهبةٌ فأكفئوا القدور وما فيها فإنَّها لا تحلُّ النُّهبة)).
          وقال بعض أهل العلم: هذا يدلُّ على أنَّهم كانوا قد خرجوا مِنْ بلاد العدوِّ، لأنَّ النُّهبة مباحةٌ في بلاد العدوِّ دون دار الإسلام، وهذه القصَّة أصلٌ في جواز العقوبة بالمال.
          وقوله: (فَأُكْفِئَتْ) الأفصح والأشهر في كلام العرب كما قال الطَّبَريُّ أن يُقال: كَفَأ القومُ القدورَ يَكْفَؤُونها، وإن كانت الأخرى أَكْفَأْتُ محكيَّةً ذكرها ابن الأعرابيِّ عن العرب.
          وقوله: (فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ) احتجَّ به مَنْ قال: تُقسم العُروض ولا تُباع، ويقسم ثمنها، وقد روى ابن سُحْنون عن أبيه: يبيع الإمام ثُمَّ يقسم الأثمان، وإن لم يجد مَنْ يشتريه يقسم على خمسةٍ.
          وقال محمَّدٌ: الإمام بالخيار بين أن يَقسم أو يبيع.
          ومعنى (نَدَّ) ذهب لوجهه.
          ومعنى (حَبَسَهُ) وقفَه، قال الدَّاوُديُّ: أبقاه لا يستطيع الجري.
          والأوابد: النُّفَّار، قاله الدَّاوُديُّ، يُقال: أتى فلانٌ بآبدةٍ إذا كانت منه فعلةٌ قلَّما يُفعل مثلها.
          وقال ابن فارسٍ: الأوابد: الوحش، قال: والآبدة الفَعلة الَّتي يبقى ذكرها على الأبد.
          ونقل القُرْطُبيُّ عن المهلَّب أنَّ الإكفاء إنَّما كان لتركهم الشَّارع في أخريات القوم واستعجالهم للنَّهب، ولم يخافوا مِنْ مكيدة العدوِّ، فحرمهم ما استعجلوا له عقوبةً لهم بنقيض قصدهم، كما منع القاتل مِنَ الميراث.
          قال القُرْطُبيُّ: ويشهد لصحَّة هذا التَّأويل حديث أبي داود: ((وتقدَّم سُرعان النَّاس فعجَّلوا وأصابوا مِنَ المغانم ورسول الله في أخريات النَّاس)).
          قال: واعلم أنَّ المأمور بإراقته إنَّما هو إتلافٌ لنفس المَرَق، وأمَّا اللَّحم فلم يتلفوه، ويحمل على أنَّه جُمع ورُدَّ إلى المغنم، ولا يُظنُّ به أنَّه أمر بإتلافه، لأنَّه مال الغانمين، وقد نهى الشَّارع عن إضاعة المال على أنَّ الجناية بطبخه لم تقع مِنْ جميع مستحقِّي الغنيمة، إذ مِنْ جملتهم أصحاب الخُمس، ومِنَ الغانمين مَنْ لم يطبخ.
          فإن قلت: لم ينقل إلينا حمل ذلك اللَّحم إلى المغنم، قلنا: ولا ينقل أنَّهم أحرقوه ولا أتلفوه كما فُعل بلحوم الحمر الأهليَّة لأنَّها ((نجسةٌ)) قاله صلعم، أو قال: ((رِجسٌ)) وإذا لم يأتِ نقلٌ صريحٌ وجب تأوُّله على وَفْق القواعد الشَّرعية.
          وقوله: (إِنَّا نَرْجُو، أَوْ نَخَافُ) شكَّ أيَّ اللَّفظين قال، ومعناهما واحدٌ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] وقال الشَّاعر:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها
          أي: لم يخف.
          وقال الدَّاوُديُّ: معنى (نرجو) أي: نحن على رجاءٍ مِنْ لقاء العدوِّ، ومعنى (نَخَاف) ألَّا نجد حين نلقى العدوَّ ما نذبح به.