التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قاد دابة غيره في الحرب

          ░52▒ (بابُ: مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الحَرْبِ)
          2864- ذكر فيه حديثَ أَبِي إِسْحَاقَ قال: (قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ الله _صلعم_ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ الله _صلعم_ لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ المُسْلِمُونَ عَلَى الغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ الله _صلعم_ لَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ _صلعم_ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ)
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا، وفي لفظٍ: كنَّا واللهِ إذا احمرَّ البأس نتَّقي به، وذكره البُخاريُّ في موضعٍ آخر: فَنَزَلَ واسْتَنْصَر، وفي موضعٍ آخر: قال إسرائيل وزهير: نزل رسول الله _صلعم_ عن بغلته، وفي روايٍة قال للبراء: رجلٌ مِنْ قيسٍ.
          ثُمَّ الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: (حُنَيْنٌ) بالحاء المهملة: وادٍ بينه وبين مكَّة ثلاثُ ليالٍ قرب الطَّائف قاله الواقِدِيُّ، وقال البَكْريُّ: بضعةَ عشرَ ميلًا، والأغلب فيه التَّذكير لأنَّه اسم ماءٍ، وربَّما أنَّثته العربُ جعلته اسمًا للبقعة، وهو وراء عرفات، سُمِّي بحُنين بن قَانية بن مَهْلائيل، وقال الزَّمَخْشَريُّ: هو إلى جنب ذي المجاز، وتأتي في الغزوات، وكانت سنة ثمانٍ، وسببُها أنَّه لمَّا أجمع _◙_ على الخروج مِنْ مكَّة لِنُصْرة خُزاعة أتى الخبرُ إلى هَوازنَ أنَّه يريدهم، فاستعدُّوا للحرب حتَّى أتَوا سوق ذي المَجاز فسار _◙_ حتَّى أشرف على وادي حُنَينٍ مساء ليلة الأحد، ثُمَّ صابحهم يوم الأحد نصف شوَّالٍ.
          ثانيها: قوله (وَلَكِنَّ رَسُولَ الله _صلعم_ لَمْ يَفِرَّ) هذا معلوم مِن حاله وحال الأنبياء لفرط إقدامهم وشجاعتهم وثقتهم بوعد الله في رغبتهم في الشَّهادة ولقائه، ولم يثبتْ عن واحدٍ منهم _والعياذ بالله_ أنَّه فَرَّ، ومَنْ قال ذلك في رسول الله _صلعم_ قُتِل ولم يُسْتَتَبْ عند مالكٍ لأنَّه صار بمنزلة مَنْ قال: إنَّه كان أسودًا وأعجميًّا لإنكاره ما عُلم مِنْ وصفه قطعًا وذلك كُفرٌ.
          قال القُرْطُبيُّ: وحُكي عن بعض أصحابنا الإجماعُ على قتل مَنْ أضاف إليه نقصًا أو عيبًا، وقيل: يُستتاب فإن تاب وإلَّا قُتِل، وقال ابن بَطَّالٍ: مَنْ زعم أنَّه انهزم فقد رماه بأنَّه كذَّب وحي الله بالعصمة مِنَ الناس، فإن تاب وإلَّا قُتِل لأنَّه كافرٌ إن لم يتأوَّل ويُعذر بتأويله، وستكون لنا عودةٌ إليه قريبًا في باب: مَنْ صفَّ أصحابه عند الهزيمة [خ¦2930]، والَّذين فرُّوا يومئذٍ إنَّما فتحه عليهم مَنْ كان في قلبه مرضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ الفتح المؤلَّفة ومشركيها الَّذين لم يكونوا أسلموا، والَّذين خرجوا لأجل الغنيمة، وإنَّما كانت هزيمتهم فجأةً.
          ثالثها: ركوبُه يومئذٍ بغلتَه البيضاء هو النِّهاية في الشَّجاعة والثَّبات، لا سيَّما في نزوله عنها، وتقدُّمِه يركض على بغلته إلى جمع المشركين حين فرَّ النَّاس، وليس معه إلَّا اثني عشرَ نفرًا، وَكان العبَّاس وأبو سفيان _كما ذكر هنا وهو ابن الحارث كما سيأتي_ آخذَين بلجامها يكفانها عَن الإسراع به إلى العدوِّ، واختلف في لون البغلة الَّتي كانت تحته يومئذٍ، ففي مسلمٍ: كانت بيضاء أهداها له فَرْوة بن نَفَاثة، وفي لفظٍ: كانت شهباء، وعند ابن سعدٍ: كان راكبًا دُلْدُلَ الَّتي أهداها له المُقَوْقِس، فيجوز أن يكون ركوبه متعدِّدًا بعد أن نزل.
          رابعها: قوله:
(أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ                     .........)
          كان بعض العلماء يرويه (لَا كَذِبَ) بنصب الباء ليخرجه عَن وزن الشِّعر، حكاه ابن التِّيْنِ، وقد قيل: إنَّما قيل:
أَنْتَ النَّبِيُّ لَا كَذِبْ                     أَنْتَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
          فقال حكاية قولهم:
(أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ                     .........)
          وفيه إثباتُ النُّبوَّة، أي: أنا ليس بكاذبٍ فيما أقول فيجوز عليَّ الانهزام، وإنَّما ينهزم مَنْ ليس على يقينٍ مِنَ النُّصرة وهو على خوفٍ مِنَ الموت، والشَّارع على يقينٍ مِنَ النُّصرة بما أوحى الله إليه في كتابه وأعلمه أنَّه لا بدَّ له مِنْ كمال هذا الأمر، فمَنْ زعم بعد هذا أنَّه انهزم فقد رماه بأنَّه كذَّب وحي الله أنَّ الله يعصمه، وقد سلف حكمُه.
          خامسها: إن قلتَ: نهى عن الافتخار بالآباء وقال هنا ما قال، قلتُ: عنه جوابان:
          أحدهما: أنَّه أشار بذلك إلى رؤيةٍ رآها عبدُ المطَّلب دالَّةٍ على نبوَّته مشهورةٍ عند العرب فأخبر بها قريشًا، فعُبِّرت بأن سيكون له ولدٌ يسودُ النَّاس ويهلكُ أعداؤه على يديه، وكان أمر تلك الرُّؤيا مشهور في قريشٍ، فذكَّرهم بقوله هذا أمرَ تلك الرُّؤيا ليقوى بذلك مَنِ انهزم مِنْ أصحابه فيرجعوا وليثقن بأنَّ الظَّفر لهم.
          ثانيها: أنَّه أشار بذلك إلى خبرٍ نُقل عن سيف بن ذي يزن أنَّه أخبر عبد المطَّلب وقت وفوده علي في جماعة قريشٍ وهو أن يكون في ولده، وعنه جوابٌ ثالثٌ: لشهرة جدِّه فإنَّها أكبر مِنْ شهرة والده لأنَّه توفِّي شابًّا في حياة أبيه، وكان كثيرًا ما يَنسب إليه عملًا بالعادة في الشُّهرة، ولهذا قال ضِمَام بن ثَعلبة لمَّا وفد عليه قال: أيُّكم ابنُ عبد المطَّلب؟
          سادسها: فيه خدمة السُّلطان في الحرب، وسياسة دوابِّه لأشراف النَّاس مِنْ قرابته وغيرهم، وفيه جوازُ الانتماء في الحرب، وإنَّما كُره مِنْ ذلك ما كان على وجه الافتخار في غير الحرب لأنَّه رخَّص في الخُيَلاء فيه مع نهيه عنها في غيرها، وفي التِّرمِذيِّ / محسَّنًا عن ابن عمرَ: لقد رأيتُنا يومَ حُنينٍ وإنَّ الفئتين مُوَلِّيَتَيْنِ ومَا مع رسول الله _صلعم_ إلَّا مئةُ رجلٍ، ولعلَّه عند التلاحقٌّ كما قال ابن إسحاق، وعند الزُّبَير ممَّن ثبت معه يومئذٍ عُتْبَة ومُعَتِّبُ ابنا أبي لهبٍ، ولابن إسحاق: وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطَّلب وأبو بكرٍ وعمرُ وعليٌّ والفضل بن العبَّاس وأسامة وقُثَمُ بن العبَّاس وأيمن ابن أمِّ أيمن _وقُتل يومئذٍ_ وربيعة بن الحارث بن عبد المطَّلب، وعَقِيل بن أبي طالب فيما ذكره ابن الأَثير، وأمُّ سُلَيْم أمُّ أنس بن مالكٍ، قال العبَّاس:
نَصَرْنَا رَسُوْلَ اللهِ فِي الحَرْبِ تِسْعَةً                     وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ وَأَقْشَعُوا
وَعَاشِرُنَا لَاقَى الحِمَامَ بِنَفْسِهِ                     لما مَسَّهُ فِي اللهِ لَا يَتَوَجُّعُ
          ويُروى:
......... سبعةً                     ............
وثامنُنا.........                     ............
          وقال العبَّاس _فيما رواه ابن أبي عاصمٍ في «الجهاد» _ شهد النَّبيُّ _صلعم_ يوم حُنينٍ وما معه إلَّا أنا وأبو سفيان، فإن قلت: كيف فرَّ القوم وهو كبيرةٌ؟ قلتُ: ذاك أن ينويَ عدم العَود عن وِجدان القوَّة، وأمَّا مَنْ تحيَّز إلى فئةٍ أو كان فِرارُه لكثرة عدد العدوِّ أو نوى العَود إذا أمكنه فلا محذور فيه ولا داخل في الوعيد، ولهذا قال _تعالى_ في حقِّ هؤلاء: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:26].
          وفيه جوازُ الأخذِ بالشِّدَّة والتَّعرُّضِ للهَلَكَة في سبيل الله لأنَّ النَّاس فرُّوا عن رسول الله _صلعم_ ولم يبقَ معه إلَّا اثنا عشرَ رجلًا، والمشركون في أضعافهم عددًا مرَّارًا كثيرًا فلزموا مكانهم ومصافَّهم، ولم يأخذوا بالرُّخصة مِنَ الفِرار، وفيه ركوبُ البغال في الحرب للإمام كما سلف ليكون أثبتَ له ولئلَّا يُظنَّ به الاستعدادُ للفِرار والتَّولِّي، وهو مِنْ باب السِّياسة لنفوس الأتباع لأنَّه إذا ثَبَتَ ثَبَتَ أتباعُه، وإذا رُئي منه العزمُ على الثَّبات عُزم معه عليه.