التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا

          ░15▒ (بابُ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا)
          2810- ذكرَ فيه حديث أَبِي مُوسَى _☺_ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ _صلعم_ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا، وفي لفظٍ له: الرَّجل يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟... فذكره، وفي آخر:يُقَاتِلُ غَضَبًا، فرفعَ إليهِ رَأْسَه، وَما رفعَ إليه رأسه إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، وَهذا السَّائل ورد في «الصَّحيح» أنَّه مِنَ الأعراب، ولا يحضرني اسمُه، والمراد بالذِّكر: الشَّجاعة، وهي ضدُّ الجُبن، وهي شدَّة القلب عند البأس.
          وقوله: (لِيُرَى مَكَانُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟) أي للإخلاص، والحديث دالٌّ على وجوب الإخلاص في الجهاد، ومصرِّحٌ بأنَّ القتال للذِّكر ونحوِه خارجٌ عن ذلك، ودالٌّ أيضًا عَلى أنَّ الإخلاص هو العمل على وَفْقِ الأمر، ودالٌّ أيضًا على تحريم الفخر بالذِّكر، اللَّهمَّ إلَّا أن يقصِد بذلك إظهارَ النِّعمة، ودالٌّ أيضًا على حرمة الرِّياء، وعلى السُّؤال عن الأعمال القلبيَّة، وبيان أحوال النَّاس في جهادهم ونيَّاتهم.
          واعلمْ أنَّ القتال للذِّكر إن قُصد به إظهاره ليُقَال: إنَّ فلانًا شجاعٌ فهذا ليس بمُخلِصٍ، وَهو الَّذي يُقال فيه في الحديث الصَّحيح: ((لكي يُقَالَ: وَقَدْ قِيْلَ)) ويكون الفرق بين هذا القسم وبين قوله بعدُ: (وَالرَّجل يُقَاتِلُ لِيُرَى) أنْ يكون المرادُ به إظهارَ المقاتلة لإعلاء كلمة الله، وبذلَ النَّفس في رضاه، والرَّغبةَ فيما عنده، وَهو في الباطن بخلاف ذلك، فيُقال: إنَّه شجاعٌ، والَّذي قلنا: إنَّه قاتل إظهارًا للشَّجاعة ليس مقصودُه إلَّا تحصيلَ المدح على الشَّجاعة مِنَ النَّاس فافترقا إذنْ، وإن كان طبعًا لا قصدًا فهذا لا يُقال: إنَّه كالأوَّل لعدم قصده الإظهار، ولا أنَّه أخلص، وإن كان يقصد إعلاء كلمة الله _تعالى_ به فهو أفضلُ مِنَ القسم الَّذي قبله.
          قال الْمُهَلَّبُ: إذا كان في أصل النِّيَّة إعلاءُ كلمة الله _تعالى_ ثُمَّ دخل عليها مِنْ حُبِّ الظُّهور والمغنم ما دخل فلا يضرُّها ذلك (وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا) فخليقٌ أنْ يحبَّ الظُّهور بإعلاء كلمة الله وأنْ يحبَّ الغنى بإعلاء كلمة الله، فهذا لا يضرُّه إن كان عقدُه صحيحًا.
          (وَالحَمِيَّةُ) في الرِّواية الَّتي أوردناها هي الأنفة، والغِيرة عن عشيرته والغضب، وحَمِيتُ عن كذا حميَّةً _بالتَّشديد_ وتَحْمِيَةً إذا أَنِفْتَ منه، والرِّياء أيضًا يُمدُّ وقد يُقصر وهو قليلٌ، وقد أسلفنا أنَّه ضدُّ الإخلاص، وقال الغزاليُّ: إنَّه إرادة نفع الدُّنيا بعمل الآخرة، أي إمَّا متمحِّضًا أو مشارَكًا.