التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من اغبرت قدماه في سبيل الله

          ░16▒ (بابُ: مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ
          وَقَوْلِ اللهِ _تَعَالَى_: {مَا كَانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ}) الآية [التوبة:120].
          2811- (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنا محمَّد بْنُ المُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْسٍ _هُوَ عبد الرَّحمن بن جَبْرٍ_ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ).
          الشَّرح: أمَّا الآية فقال مُقاتلٌ: ذكر الله _جلَّ وعزَّ_ الَّذين لم يتخلَّفوا عن غزوة تَبوك فقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ} إلى قوله: / {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ} في غزوة تَبوك، قال الثَّعلبيُّ: ظاهره خبرٌ ومعناه أمرٌ، و(الأَعْرَابِ) سكَّان البوادي: مُزَينة وجُهَيْنة وأشجعُ وأسلمُ وغِفار، ({أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ}) إذ غزا.
          قال ابن عبَّاسٍ: يَكتب لهم بكلِّ رَوْعةٍ تنالهم في سبيل الله سبعين ألفَ حسنةٍ، قال قَتَادة: هذا خاصٌّ برسول الله _صلعم_ إذا غزا بنفسه، فليس لأحدٍ أن يتخلَّف عنه إلَّا بعُذرٍ، فأما غيرُه مِنَ الأئمَّة والولاة فمَنْ شاء أن يتخلَّف تخلَّف، وقال الأَوْزاعيُّ وابن المبارك وغيرهما: هذه الآية لأوَّلِ هذه الأمَّة وآخرها، وقال ابن زيدٍ: كان هذا وأوَّل الإسلام قليلٌ فلما كثروا نَسَخَها الله، وأباح التَّخلُّف لِمَنْ شاء فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] وَقال غيره: لا نَسْخَ، والأُولى توجِب إذا نفر الشَّارع أو احتيج إلى المسلمين فاستُنفروا لم يَسَعْ أحدًا التَّخلُّف، وإذا بعث الشَّارع سريَّةً خلَّف طائفةً، وهذا مذهبُ ابن عبَّاسٍ والضَّحَّاك وقَتَادة، وقال ابن الحَصَّار: قول ابن زيدٍ إنَّه نسخ بالتَّأويل الفاسد إنما قوله: {مَا كَانَ لأهْلِ المَدِينَةِ} تعريضٌ لِمَنْ تخلَّف منهم عن تبوك، فهذا النَّهي يتوجَّه على كلِّ مَنِ اسْتُنْفِر فلم ينفر خاصَّةً وعامًّا، ومَنْ لم يُستنفر لم يدخل تحته، والآية الَّتي زعمها ناسخةً إنَّما نزلت في الحضِّ على طلب العلم والرِّحلة فيه، وَلا معارضة بين الاثنين. وحديث أبي عبسٍ سَلف في الجمعة [خ¦907]، وهو مِنْ أفراده بل لم يخرِّج مسلمٌ عن أبي عبسٍ في «صحيحه» شيئًا.
          وشيخه هنا (إِسْحَاقُ) قال الجَيَّانيُّ: نسبه الأَصيليُّ في نسخته فقال: <ابن منصورٍ> وكذا قاله الكَلاباذيُّ، وجدُّه ابن بَهْرام أبو يعقوب الكَوْسجُ المَرْوَزيُّ، مات بنَيسابورَ سنة إحدى وخمسين ومئتين، ويحتمل أن يكون إسحاقُ هذا ابنَ زيدٍ الخطَّابيَّ، ساكن حرَّان، ومِنْ طريقه أخرجه الإسماعيليُّ عن عبد الله بن زيادٍ الموصليِّ: حدَّثنا إسحاقُ بن زيدٍ الخطَّابيُّ وكان يسكن حرَّان، حدَّثنا محمَّد بن المبارك الصُّوْريُّ، فذكره كما ذكره البُخاريُّ، ومحمَّد بن المبارك الصُّوْريُّ الشَّاميُّ مات ما بين سنة إحدى عشرةَ إلى خمسَ عشرَة ومئتين، وموضع التَّرجمة مِنَ الآية قوله _تعالى_: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة:120] فأثابهم الله بخطواتهم وإنْ لم يلقَوا قتالًا، ففسَّر ذلك العمل الصَّالح، أنَّه لا تمسُّ النَّار مَنِ اغبرَّت قدماه في سبيل الله، وهذا وعدٌ منه، وهو منجزٌ لا يتخلَّف، و(سَبِيلِ اللهِ) جميع طاعاته.