التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال

          ░65▒ (بابُ: غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجال)
          2880- ذكر فيه حديثَ أنسٍ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بنتَ أبي بكرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ _وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلانِ_ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ، وتَرْجِعَانِ فَتَمْلَآنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا، ثُمَّ الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: الخَدَمُ: الخلاخيل، الواحدة: خَدَمة، وتُجْمَع أيضًا عَلى خِدامٍ، كثمرةٍ وثمارٍ، والْمُخَدَّمُ: موضع الخَلْخَال مِنَ السَّاق، وعبارة صاحب «المطالع»: قد يُسمَّى خَدَمةً، أي لأنَّه موضع الخَلْخال وهو الخَدَمة، وأصله أنَّ الخَدَمة سَيْرٌ غليظٌ مثل الحَلْقة يُشدُّ في رُسغ البعير ثُمَّ تُشدَّ إليها شرائح نَعْلِها، فسُمِّي الخَلْخال خَدَمةً لذلك، وقال أبو عبيدٍ: أصل الخَدَمة: الحلقة المستديرة، وقيل: الخَدَمة: مَخْرَج الرِّجل مِنَ السَّراويل، والسُّوق: جمع ساقٍ.
          ثانيها: (تَنْقُزَانِ) _بالزَّاي_ أي تَثِبَانِ، والنَّواقز: القوائم، يُقال: نَقَزَ يَنْقُزُ ويَنْقِزُ نَقَزَانًا ونَقْزًا إذا وَثَبَ، وقال الدَّاوُديُّ: يُسرعان المشي كالهرولة، وقال غيره: معناه: الوثوب، ونحوه في حديث ابن مَسعودٍ: أنَّه كان يصلي الظُّهر والجنادبُ تَنْقُزُ مِنَ الرَّمْضاء، أي تَثِبُ، يُقال: نَقَزَ وَقَفَزَ: إذا وثب وكذا قَحَزَ، وقال صاحب «المطالع»: كأنَّه مِنْ سرعة السَّير، وقال أبو سليمان: أحسبه تَزْفِرَان، والزِّفْر: حَمْلُ القِرَبِ الثِّقال والجمع: أَزْفارٌ، واحتجَّ بالحديث الآتي بعدُ: فإنَّها كانت تَزْفِرُ القِرَبَ يوم أُحدٍ. ويقال للقربة نفسها: الزِّفْر، وكذلك قيل للإماء: الزَّوافر، وذلك لأنَّهنَّ يَزْفِرْن القِرَب، وقيل: الزِّفْر: البحر النَّزع الفيَّاض، فعلى هذا كانت تملأ لهم القِرب حتَّى تحيض، قال صاحب «المطالع»: وضبط الشُّيوخ (القِرَبَ) بنصب الباء، ووجهه بعيدٌ على الضَّبط المتقدِّم، وأما مع (تَنْقُلَانِ) فصحيحٌ، وكان بعض شيوخنا يقرؤه بضمِّ الباء يجعله مبتدأً، كأنَّه قال: والقِرَبُ على مُتونهما، وقد يُؤوَّل النَّصب على عدم الخافض كأنَّه قال: تنقزان بالقِرَب، وقد وجدته في بعض الأصول بضمِّ التَّاء، ويستقيم على هذا نصبُ (القِرَبَ)، أي: تحركان القِرَبَ لشدَّة عَدْوِهما بها، فكانت القِرَبُ ترتفع وتنخفض مثلَ الوَثْبِ على ظهورهما.
          ثالثها: اعترض ابن المنيِّر فقال: بوَّب على غزوهنِّ وقتالهنِّ، وليس فيه أنَّهنَّ قاتلنَ، فإمَّا أن يريد أنَّ إعانتهنَّ الغُزاة غزوٌ، وإمَّا أن يريد: ما ثبتن للمداواة ولسقي الجرحى إلَّا وهنَّ يدافعن عن أنفسهنَّ، وهو الغالب فأضاف إليهنَّ القتال لذلك، قلتُ: لا شكَّ في شجاعتهنَّ ودفعهنَّ، ويؤيِّدُه ما ذكره ابن إسحاق لمَّا قال _◙_: ((يا أمَّ سُلَيمٍ مَا هَذا الخنجر؟)) قالت: يا رسول الله أبعجُ به بطن مَنْ يدنو منِّي، وسيأتي.
          رابعها: رؤية أنسٍ لذلك كان لضرورة ذلك العمل في ذلك الوقت، وقال الدَّاوُديُّ: يعني: نظر فجأةً، ويحتمل أن يكون حينَئذٍ صغيرًا، ويحتمل أن يكون قبل نزول الحجاب كما قال القُرْطبيُّ، ولا شكَّ فيه لأنَّه إمَّا في صفيَّة أو زينب، وكلاهما بعد أُحدٍ، وقد يتمسَّك به مَنْ يرى أنَّ تلك المواضع ليست بعورةٍ مِنَ المرأة وليس كذلك.
          خامسها: قد سلف أنَّ النِّساء لا غزو عليهنَّ، ولا شكَّ أنَّ عونهنَّ للغُزاة بسقي الماء وسقيَهنَّ وتشميرَهنَّ ضربٌ مِنَ القتال لأنَّ العَون على الشَّيء ضربٌ منه، وقد رُوي عن أمِّ سُلَيمٍ: أنَّها كانت تسبق الشُّجعان في الجهاد، وثبتت يوم حُنينٍ والأقدام قد زلَّت، والصُّفوف قد انتقضت، والمنايا فَغرت فاها، فالتفَتَ إليها رسول الله _صلعم_ وفي يدها خنجرٌ، فقالت: يا رسول الله، أقتل بهذا الَّذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الَّذين يحاربونك، فليسوا بشرٍّ منهم. أخرجه مسلمٌ بنحوه مِنْ حديث أنسٍ، وهو مِنْ أفراده، وفيه: ((يا أمَّ سُلَيْمٍ، إنَّ الله قد كفى وأحسن)) وروى مَعْمَرٌ عن الزُّهْريِّ قال: كان النِّساء يشهدن المشاهد مع رسول الله _صلعم_ ويسقين المُقاتِلة ويداوين الجرحى، ولم أسمع امرأةً قُتلت معه، وقد قاتل نساءٌ مِنْ قريشٍ يوم اليرموك حين دهمتهم جموع الرُّوم وخالطوا عسكر المسلمين، فضَرَبن / نساء يومئذٍ بالسُّيوف وذلك في خلافة عمرَ ☺.
          فرعٌ: هل يُسهَم للمرأة؟ قال الأَوْزاعيُّ: نعم، وقد أسهم رسول الله _صلعم_ للنِّساء بخيبرَ وأخذ المسلمون بذلك. قلتُ: في أبي داود: عن حَشْرَج بن زِيَادٍ، عن جدَّته: أنَّ رسولَ الله _صلعم_ أسهم لنا بخيبر كما أسهم للرِّجال. قَالَ الخَطَّابِيُّ: سندُه ضعيفٌ لا تقوم به حجَّةٌ، وقال الثَّوريُّ والكُوفيُّون واللَّيث والشَّافعيُّ: لا يُسْهَم لهنَّ ولكن يُرضَخُ، واحتجُّوا بكتاب ابن عبَّاسٍ إلى نَجْدة: أنَّ النِّساء كنَّ يَحْضرن فيداوين المرضى ويُحذين مِنَ الغنيمة ولم يُضرَب لهنَّ بسهمٍ، أخرجه مسلمٌ، وروى ابن وَهبٍ عن مالكٍ أنَّه سُئِل عن النِّساء هل يُحْذَيْنَ مِنَ المغانم في الغزو؟ قال: ما سمعت ذلك، قال ابن بَطَّالٍ: وقول مالكٍ أصحُّ لأنَّ النِّساء لا جهاد عليهنَّ، وإنَّما يجبُ السَّهم والرَّضْخ لِمَنْ كان مقاتلًا أو ردءًا للمسلمين، وجملة النِّساء لا غَناء لهنَّ ولا نكاية للعدوِّ فيهنَّ، فأمَّا إذا قاتلت المرأة وكان لها غَناءٌ وعونٌ فلو أسهم لها كان صوابًا لأنَّه إنَّما جعل لأهل الجيش لقتالهم العدوَّ ودفعهم عن المسلمين، فمَنْ وُجِدت هذه الصِّفة فيه فهو مستحقٌّ للسَّهم سواءٌ كان رجلًا أو امرأة، والمراد أنَّه لا يُسهَم للغالب مِنْ حالهنَّ، فإنَّ المقاتِلة منهنَّ لا تكاد توجد، قلتُ: حديث ابن عبَّاسٍ يردُّ عليه، وبقول الأَوْزاعيِّ قال ابن حبيبٍ: بشرط قتالها، حكاه ابن المُنَاصف.
          وردُّه _◙_ في بعض غزواته نساءً خرجن معه، فالحديث فيه ضعفٌ، أو يحتمل أنْ يكنَّ شابَّاتٍ فردَّهنَّ لأجل الفتنة، وقد خرجت أمُّ المؤمنين عائشة ♦، أو لأنَّ العدوَّ كان فيه قوَّةٌ فخاف عليهنَّ.
          فرعٌ: يُرضخ للصَّبيِّ خلافًا للأوزاعيِّ ولمالكٍ إذا أطاقه.
          فرعٌ: ذكر التِّرمِذيُّ أنَّ بعض أهل العلم قال: يُسهَم للذِّمِّيِّ إذا شهد القتال مع المسلمين، ورُوي عن الزُّهْريِّ أنَّه _◙_ أسهم لقومٍ مِنَ اليهود قاتلوا معه، وهو قول الزُّهْريِّ والأَوْزاعيِّ وإسحاقَ فيما حكاه ابن المُنْذِرِ، وعندنا: يُرْضَخ له إذا حضر بإذن الإمام، ووقع في بعض مسائل المالكيَّة _فيما قاله ابن المُنَاصِف_ أنَّه يُسهَم له إذا أذن له الإمام في الغزو معه.
          فرعٌ: المجنون المُطْبِق لا يُسهَم له، فإن كان عنده مِنَ العقل ما يمكنه به القتال فقيل: يُسهَم له، والظَّاهر المنع، ذكره أيضًا.
          فرعٌ: المريض الَّذي لا يستطيع شيئًا في الحال، ولا يُرجى في المآل، ولا يُنتفع به في عمل الجهاد بأمرٍ، فالمرويُّ عن أصحاب مالكٍ أنَّه لا يُسْهم له وذلك كالمفلوج اليابس، ذكره أيضًا، قال: واختلفوا في الأعمى والأقطع اليدين والْمُقْعَد لاختلافهم هل يمكن لهم نوعٌ مِنْ أنواع القتال كإدارة الرَّأي إن كانوا مِنْ أهله، وكقتال المقعد راكبًا والأعمى يُناول النَّبل ونحو ذلك، ويكثِّرون السَّواد؟ فمَنْ رأى لمثل ذلك أثرًا في استحقاق الغنيمة أسهم لهم، ومنْ لم يره مَنع، وأمَّا مَنْ به مرضٌ يُرجى برؤه فعند المالكيَّة فيه خلافٌ في الإسهام له، فإنْ مرض بعد الإدراب ففيه خلافٌ، والأكثرون يسهمون لهم، ولم يختلفوا أنَّ مَنْ مرض بعد القتال يُسهم له.
          فرعٌ: الأجير والتَّاجر والمحترف يُسهَم لهم عندنا إذا قاتلوا، والخلاف عند المالكيَّة أيضًا.
          ثالثها: إنْ قاتلوا استحقُّوا وإلَّا فلا، ولم يُختَلف عن مالكٍ أنَّه إنْ لم يقاتل ولم يشهد لا شيء له، وقال أبو حَنِيفةَ وأصحابه: إنْ قاتلوا استحقُّوا، وعن مالكٍ: يُسهَم لكلِّ حرٍّ قاتَل، وهو قول أحمدَ، وقال الحسن بن حَيٍّ: يُسَهم للأجير، ورُوي مثلُ ذلك عن الحسن وابن سِيرِين في التَّاجر والأجير إذا حضرا وإن لم يقاتلا، ونقل ابن عبد البرِّ عن جمهور العلماء الإسهام للتُّجَّار إذا حضروا القتال، وقال الأَوْزاعيُّ وإسحاقُ: لا يُسهَم للأجير المستأجَر على خدمة القوم ولا للعبد، والله أعلم.