التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صلاة الخوف

          ░12▒ بَابُ صَلَاةِ الخَوْفِ.
          وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} إلى قولِه: {مُهِينًا} [النساء:101-102]
          942- ذكر فيه حديث الزُّهريِّ: سَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى النَّبيُّ صلعم؟ يَعْنِي: صَلَاةَ الخَوْفِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: (غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلعم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا العَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ) الحديث.
          الشَّرحُ: هذا الحديثُ يأتي أيضًا في المغازي [خ¦4132] والتَّفسيرِ [خ¦4535] إن شاء الله، وأخرجهُ مسلمٌ ورُويت على وجوهٍ كثيرةٍ.
          قال التِّرمِذِيُّ: قال الإمامُ أحمدُ: قد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم صلاةُ الخوفِ / على أوجُهٍ، وما أعلَمُ في هذا الباب إلَّا حديثًا صحيحًا. وعنه: لا أعلَمُ أنَّه رُوِيَ عن رسولِ الله صلعم في صلاةِ الخوفِ إلَّا حديثٌ ثابتٌ، هي كلُّها صِحَاحٌ ثابتةٌ، وقيل: أيَّ حديثٍ صلَّى منها المصلِّي صلاةَ الخوفِ أجزَأَهُ.
          وقال ابن العربيِّ: رُويَتْ عن النَّبيِّ صلعم في صلاةِ الخوفِ رواياتٌ كثيرةٌ أصحُّها سِتَّ عشْرَةَ روايةً مختلفةً. وقالَ في «القبس»: صلَّاها أربعًا وعشرين مرَّةً. وقال أبو عمرَ: المرْوِيُّ عن النَّبيِّ صلعم في ذلكَ ستَّةُ أوجُهٍ. وقال غيرُه: صحَّ منها سبعةٌ. وذَكَرَ ابنُ القصَّارِ أنَّه صلَّاها في عَشَرَةِ مواطِنَ، وصحَّحَها بعضُهُم في ثلاثٍ فقط.
          وقال ابنُ حزْمٍ: هو مخيَّرٌ بينَ أربعَةَ عَشَرَ وجهًا كلُّها صحَّ عن رسولِ الله صلعم، وعبارَتُه: مَن حَضَره خَوفٌ مِن عدوٍّ ظالمٍ كافِرٍ أو باغٍ مِن المسلمينَ أو مِن سَيْلٍ أو مِن نارٍ أو وحشٍ أو سَبُعٍ أو غيرِ ذلك، وهُمْ في ثلاثةٍ فصاعدًا فأميرُهم مخيَّرٌ بين أربَعَةَ عَشَرَ وجهًا كلُّها صحَّت عن رسولِ الله صلعم.
          وقال ابنُ القطَّان: لم يذكُرِ البُخاريُّ في أبوابِ صلاةِ الخوفِ غيرَ حديثِ ابنِ عُمَرَ هذا. وليس كذلكَ لِمَا ستعْلَمُه:
          أَحَدُ الأحاديثِ: حديثُ سَهْلِ بن أبي حَثْمَة أخرجه البُخاريُّ في المغازِي [خ¦4131] ومسلمٌ والأربعةُ. وكان ابنَ ثمانٍ حين قُبِضَ النَّبيُّ صلعم أو خمْسَ عشْرَةَ ولا إشكالَ على هذا.
          ثانِيها: حديثُ جابرٍ أخرجاهُ، البُخاريُّ تعليقًا.
          ثالثُها: حديثُ ابنِ عبَّاسٍ أخرجهُ البُخاريُّ والنَّسائيُّ.
          رابعُها: حديثُ أبي عيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ أخرجهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ وصحَّحَهُ الحاكم على شرطِ الشَّيخينِ.
          خامسُها: حديثُ حذيفةَ أخرجهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ.
          سادسُها: حديثُ أبي هُريرة أخرجهُ البُخاريُّ. وعائشةَ وابنِ مسعودٍ أخرجَهُما أبو داودَ، وصحَّح الحاكمُ الأوَّلَ على شرْطِ مسلمٍ، وهو أَتَمُّ حديثٍ في صلاةِ الخوفِ. وأبي بَكْرَةَ أخرجَهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ على شرطِ الشَّيخينِ. وقال ابن حزمٍ: إنَّه آخرُ فِعْلِهِ فَهِيَ أفضلُ الصِّفات. وقال أبو عُمَرَ: لا وجْهَ لمن قال: إنَّه وحديثُ جابرٍ أنَّه كان في الحَضَر.
          وعبدِ الله بن أُنَيس أخرجهُ أبو داودَ وترجَمَ عليه: صلاةُ الطَّالِبِ والمطلوبِ، وصحَّحه ابنُ حِبَّان. وخوَّاتِ بن جُبَير والِدِ صالحٍ أخرجه البيهقيُّ. وزيدِ بن ثابتٍ أخرجه النَّسائيُّ والبَيْهَقيُّ. وعليٍّ أخرجهُ ابنُ أبي شَيبَةَ. وأبي موسى أخرجه البُخاريُّ، وغيرِ ذلك. واختار أصحابُنَا منها ثلاثةً: صلاتَه بعُسْفانَ وببطْنِ نَخْلٍ وبذاتِ الرِّقَاع، وصلاةَ الْمُسَايَفَة.
          وزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أنَّ صلاةَ الخوفِ كانت بذاتِ الرِّقَاع فسُمِّيتِ بذلكَ لِتَرْقِيعِ الصَّلاةِ فيها، وكانتْ في الْمُحرَّم يومَ السَّبتِ لعشرٍ خلَوْنَ منه، وقيل سنةَ خمسٍ، وقيل في جُمادى الأُولَى سنةَ أربعٍ، وذكَرَهَا البُخاريُّ قَبْلَ غزوةِ خَيْبَرَ كما سيأتي إن شاء الله تعالى [خ¦4125] [خ¦4136] ويُقال: كانتْ قبْلَ بدْرِ الموعِدِ.
          وحديثُ زيدِ بن ثابتٍ: ((أنَّه صلعم صلَّاها مَرَّةً ثُمَّ لم يُصلِّ قبلَها ولا بعدَها)) أخرَجُهُ ابنُ أبي شَيبة في «مصنَّفه» عن مجاهدٍ، ووهَّاهُ ابنُ حزْمٍ فقال: خَبَرٌ ساقطٌ. وعند ابنِ بَزِيزَةَ: نَزَلَتْ في عُسْفانَ في صلاةِ العصرِ. وفي حديث جابرٍ: صلَّاها في غَزْوَةِ جُهَينة، وقيل في بَطْنِ نَخْلٍ، وقيل في ذاتِ الرِّقَاعِ سنةَ خمسٍ، وقيل في غَطَفان.
          وحديثُ ابنِ عمرَ في الكتابِ استُشْكِلَ مِن حيثُ إنَّه إنَّما أُجِيزَ في الخندَقِ، وغزوةُ نَجْدٍ المذكورةُ هنا هِيَ ذاتُ الرِّقَاعِ وهي قَبْلَ الخندَقِ إجماعًا إلَّا ما شذَّ به البُخاريُّ مِن أنَّها بَعْدَ خيبر، اللهُمَّ إلَّا أْن يكونَ حَضَرَها مِن غيرِ إجازةٍ، نعمْ لَمَّا كان يومُ الخندقِ لم تنزِلْ صلاةُ المسَايَفَة كما رواهُ الدَّارِميُّ وأبو داودَ الطَّيالِسِيُّ مِن حديثِ أبي سعيدٍ، فاتَّجه ما قاله ابنُ عُمَرَ وإن كان أهلُ السِّيَرِ على خلافِه. وكذا وقَعَ في كلامِ النَّووِيِّ وابنِ القَصَّار أنَّ صلاةَ الخوفِ كانتْ بعدَ الخندقِ في غزوةِ ذاتِ الرِّقَاع.
          وفي مسلمٍ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ: ((وَفِي الخَوْفِ رَكْعَةٌ)) وأخرجهُ الحاكِم مطوَّلًا: ((وَصَلاتُهُ بِذِي قَرَدٍ)) وقال: صحيحٌ على شرطِهِمَا. قال ابنُ بطَّال: وإليه ذَهَبَ ابنُ أبي ليلى، قال الطَّحَّاوي وأبو يوسُفَ أيضًا: إذا كان العدُوُّ في القِبلَةِ، وإنْ كانوا في غيرِها فكما روى ابنُ عُمَرَ، وأمَّا أبو حنيفةَ ومالكٌ فَتَرَكَا العملَ به لمخالَفَتِه الكتابَ.
          وقال أحمدُ فيما حكاهُ الخَلَّال في «علله» عنه: لا أعلَمُ أحدًا قال في الماشِي يُصلِّي إلَّا عطاءً، وما يعجِبُنِي أنْ يصلِّيَ الماشِي. قلتُ: حكاه عطاءٌ عن أصحابِ رسولِ الله صلعم، رواه ابنُ أبي شيبة، ورَوَى أيضًا عن مجاهد الصَّلاة وهو يمشي. وقال مكحولٌ: لا بأسَ به. وفَعَلَهُ سعيدُ بن جُبَير وأبو بَرْزَة الصَّحابيُّ.
          وفي «المصنَّفِ» عن عطاءٍ وسعيدِ بن جُبَير وأبي البَخْتَرِيِّ وأصحابِهم قالوا: إذا الْتَقَى الزَّحفانِ وضَرَبَ النَّاسُ بعضَهم بعضًا وحضَرَتِ الصَّلاةُ فقالَ: سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبرُ، فتِلْكَ صلاتُكَ ثُمَّ لا تُعِيدُ.
          وعن مجاهدٍ والحَكَمِ: إذا كان عند الطِّرادِ وسَلِّ السُّيوفِ أجزأَ الرَّجُلَ أن تكونَ صلاتُه تكبيرًا، فإن لم يكنْ إلَّا تكبيرةٌ واحدةٌ أجزأَتْهُ أيْنَما كان وجْهُهُ. وعن إبراهيم: إذا حضرتِ الصَّلاةُ في المطاردَةِ فأَوْمِ حيثُ كان وجهُكَ، وفي لفظٍ: ركعةً.
          وقال هَرِمُ بن حيَّان لأصحابِه وكانوا في جيشٍ: لِيَسْجُدْ كلُّ رجلٍ منكم سجدةً تحتَ جُنَّتِهِ، وسُئل الحَسَنُ عن الصَّلاة إذ ذاك، قال: يُصَلِّي ركعةً وسجدتينِ تِلقاءَ وجهِهِ. وقال حمَّادٌ: ركعةٌ حيثُ كان وجهُه. ونهى ثابت بن السَّمِط _أو عكْسُهُ_ عن النُّزولِ للصَّلاةِ حالَتَئِذٍ. وقال جابرُ بن عبد الله: صلاةُ الخوفِ ركعةٌ. وللبزَّار عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: ((صَلاةُ الْمُسَايَفَةِ رَكْعَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الرَّجُلُ يُجزِئُ عَنْهُ، فإذا فَعَلَ ذَلِكَ فِيْمَا أَحْسِبُ لم يُعِدْ)).
          وزعم ابنُ حزمٍ أنَّهُ إنْ كان وحدَه فهو مخيَّرٌ بين رَكعتينِ في السَّفَرِ أو ركعةٍ واحدةٍ وتجزئُهُ. وقد رُوِيَ هذا عن حذيفةَ أنَّه صلَّى بكلِّ طائفةٍ رَكْعَةً ولم يقْضُوا، وعن زيدِ بن ثابتٍ مثلُهُ. قالَ: وصحَّ هذا أيضًا مسنَدًا عن جابرٍ، وأخبر جابرٌ أنَّ القصْرَ المذكورَ في الآية عندَ الخوفِ / هو هذا، وصَحَّ مِن طريقِ الزُّهريِّ عن عُبيدِ الله عن ابنِ عبَّاسٍ عن النَّبيِّ صلعم، ورُوي أيضًا عن ابنِ عُمَرَ.
          فهذه آثَارٌ متظاهرةٌ متواترةٌ وقالَ بها جمهورُ السَّلفِ كما رُويناه عن حُذَيفةَ أيَّاَم عثمانَ ومَن معه مِن الصَّحابة لا ينكِرُ ذلك أحدٌ منهم، ورُوينا عن أبي هُريرة أنَّه صلَّى بِمَن مِعَه صَلاةَ الجُمُعةِ بكلِّ طائفةٍ رَكعةً إلَّا أنَّه لم يَقْضِ ولا أَمَرَ بالقضاءِ، وعن الحَسَنِ أنَّ أبا موسى صلَّى في الخوفِ رَكعةً، وعن ابنِ عبَّاسٍ: يومئُ بِرَكعةٍ عندَ القتالِ، وعن مكحولٍ: إذا لم تقدِرُوا أن تُصَلُّوا على الأرضِ فَصَلُّوا على ظُهُور الدَّوابِّ رَكعتَينِ، فإنْ لم تَقْدِرُوا فَركعةٌ وسجدَتانِ، فإن لم تَقْدِرُوا أخِّرُوا حتَّى تَأمَنُوا.
          قال ابن حزمٍ: أمَّا التأخير فَلا يحِلُّ البَتَّةَ، وبالأوَّلِ يقولُ سُفيان بن سعيدٍ. قال: ومِلْنَا إلى هذا لسهولَتِه، ولكثْرَةِ مَن رواهُ عن رسولِ الله صلعم، ولِكثرَةِ مَن قال به مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ لتواتُرِ الخبرِ به عن النَّبيِّ صلعم، ولموافقتِه القرآنَ العظيمَ.
          وحَكَى ابن بَزِيزَةَ عن جابرٍ: صلاةُ الخوفِ رَكعةٌ للمأمومِ واثنتانِ للإمام، وحُكِي عن طاوسٍ والحسنِ وجماعةٍ مِن التَّابعين. ولِمَا ذَكَرَ المنذريُّ القائلينَ بأنَّها ركعةٌ _عطاءٌ وطاوسٌ والحسنُ ومجاهدٌ والحَكَمُ وحمَّادٌ وقتادةُ_ يومئُ إيماءً. وكانَ ابن رَاهَوَيْه يقولُ: أمَّا عند المسايَفَةِ فيُجزِئُكَ رَكعةٌ واحدةٌ تومِئُ بها إيماءً، وكان يقول: فإنْ لم تقدِرْ فسجْدةٌ واحدةٌ فإنْ لم تقدِر فتكبيرةٌ لأنَّها ذِكْرٌ لله تعالى.
          وأمَّا سائرُ أهلِ العلمِ فلم يَنْقُصُوا منها شيئًا، ولكنْ يصلِّي بحسبِ الإمكانِ رَكعتينِ أيَّ وجهٍ يوجِّهونَ إليه يُومِئُونَ إيماءً، وحُمِلَ قولُ ابنِ عبَّاسٍ: وفي الخوفِ ركعةٌ. يعني مع الإمامِ، فلا يكون مخالفًا لغيرِه مِن الأحاديثِ الصَّحيحةِ.
          إذا تقرَّر ذلكَ فمذهبُ العلماء كافَّةً أنَّ صلاةَ الخوفِ مشروعةٌ اليومَ كما كانت إلَّا أبا يوسُفَ والمزَنيَّ فقالا إنَّها مخصوصةٌ به، وبه قال مكحولٌ والحسنُ اللُّؤلُؤيُّ ومحمَّدُ بن الحسَنِ وبعضُ علماء الشَّاميِّينَ كما نقله ابنُ بَزِيزَةَ عنهم عملًا بقولِه تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآية [النساء:102].
          والجوابُ: أنَّ هذا خطابُ مواجَهَةٍ لأنَّه المبلِّغ عن الله لا خطابُ تخصيصٍ لِمَا صحَّ أنَّ الصَّحابةَ صلَّوْها بعدَه، منهُم عليٌّ وأبو هُريرة وأبو موسى وغيرُهم، وقد قال: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)).
          وقالت طائفةٌ منهم أبو يوسُفَ وابنُ عُلَيَّةَ فيما حكاه في «التَّمهيدِ»: لا يُصلَّى بعدهُ إلَّا بإمامين، كلُّ واحدٍ بطائفةٍ رَكعتين، واحتجُّوا بقولِه تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآية [النساء:102] فإذا لم يكُن فيهِم لم يكُنْ ذلك لهم لأنَّهُ ليس كغيرِه في ذلك، ولمْ يكنْ مِن أصحابِه مَن يُؤثِرُ بنصيبِه منه غيرَه، وكلُّهم كان يحبُّ أن يأْتَمَّ به، والنَّاسُ بعدَه يستوي أحوالُ أهل الفضلِ منهم أو يتقارَبُ فليسَ بالنَّاسِ اليومَ حاجةٌ إلى إمامٍ واحدٍ عندَ الحَرْبِ.
          والجوابُ أنَّ الإجماعَ على أنَّ قولَه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] أنَّ خلفاءَه يقومونَ مَقامَهُ في ذلك فكذا هذه الآيةُ وغيرُها. وقيل: إنَّ أبا يوسُفَ رَجَعَ عن ذلك، حكاه الأقطعُ في «شرحه»، وأجاب ابنُ العربيِّ عن شُبْهَةِ أبي يوسُفَ أنَّه إذا زال الشَّرطُ بَطَلَ المشروطُ مِن أوجهٍ:
          أحدُها: أنَّ شَرْطَ كونِه صلعم إنَّما دَخَلَ لبيانِ الحكمِ لا لوجودِه، تقديرُه بَيِّنْ لهم بفِعْلِكَ فهُوَ أوقَعُ في الإيضاحِ مِن قولِكَ.
          ثانيها: أنَّه إذا جازَ له فِعْلٌ جازَ لنا إلَّا ما خُصَّ.
          ثالثُها: أنَّ كلَّ عُذرٍ طرأ عليه العبادة يستوِي فيها الشَّارِعُ وغيرُه كالسَّفَرِ وغيرِه، وذكر ابنُ التِّينِ أنَّ المعنى الَّذي أَمَرَ به في صلاةِ الخوفِ تعليمًا لِحِراسَةِ المسلمين وحَذَرًا مِن العدوِّ، وذلك واجبٌ على كافَّةِ المسلمين، فوَجَبَ ألَّا يختصَّ صلعم به دونَ أُمَّتِهِ.
          تنبيهاتٌ: أحدُها: أخذَ أبو حنيفة بحديثِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ إلَّا أنَّه قال: بعَد سلامِ الإمامِ تأتي الطَّائفةُ الأُولى إلى موضِعِ الإمامِ فتقضِي ثُمَّ تذهَبُ، ثُمَّ تأتي الطَّائفَةُ الثَّانيةُ فتقضِي ثُمَّ تذهبُ. وقد أُنكِرَتْ عليه هذه الزِّيادَةُ وقيل إنَّها لم تُذكَر في حديثٍ.
          قال ابنُ حزم: وأمَّا قولُه: تقضي الأُولى الرَّكعةَ الَّتي بقِيَتْ عليها بلا قراءةِ شيءٍ مِن القرآن فيها وتقضِي الثَّانيةُ الَّتي بقِيَتْ عليها بقراءةِ القرآنِ فيها ولا بُدَّ، وهذا لم يأتِ عن النَّبيِّ صلعم ولا عن الصَّحابة. ووافق أبا حنيفة أشهبُ والأوزاعيُّ، ثُمَّ رَجَعَ فأخَذَ بحديثِ غزوةِ ذاتِ الرِّقَاع. والشَّافِعِيُّ أخذَ بحديثِ صالحِ بن خوَّات الآتي، واختاره أحمدُ وأبو ثورٍ ورجَعَ عنه مالكٌ. قال الشَّافِعِيُّ: والمصيرُ إليه أَوْلى.
          ثانِيها: رَوَى الدَّارَقُطنيُّ مِن حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: ((لَيْسَ في صَلَاةِ الخَوْفِ سَهْوٌ)) وهو واهٍ ردَّهُ ابنُ عَدِيٍّ ببقيةَ وشيخِهِ عبدِ الحميد بن السَّرِيِّ، وأمَّا السُّهيلِيُّ فقال: سنَدُه ثابتٌ.
          الثَّالثُ: قال ابنُ حَزْمٍ: رُوِينَا عن الضَّحَّاكِ ومجاهدٍ والحَكَمِ بن عُتَيبة وإسحاقَ أنَّ تكبيرتين فقط تجزئان في صلاة الخوف، ورُوينا أيضًا عن الحكمِ ومجاهدٍ وإسحاقَ أنَّ تكبيرةً واحدةً تُجزِئُ في صلاةِ الخوفِ. قال: وليس له أصلٌ مِن كتابٍ ولا سُنَّةٍ. وعن إسحاق: إنْ لم يقدِر على رَكعةٍ ربما صلَّى سجدَةً، وإنْ لم يقدِر فتكبيرةٌ، وسيأتي قريبًا قولُ الأوزاعيِّ ومَن وافقه وقولُ أنسٍ في تُسْتَر.
          الرَّابعُ: القضاءُ في روايةِ / ابنِ عمرَ في حالةٍ واحدةٍ، ويبقَى الإمامُ كالحارِسِ وحدَهُ، وفي روايةِ ابنِ مسعودٍ القضاءُ متفرِّقٌ على صفةِ صلاتِهم، وقد تأوَّلَ حديثَ ابنَ عمر على ما في حديثِ ابن مسعودٍ.
          الخامسُ: قال مالكٌ في حديثِ سهل بن سعدٍ: هذا أَحسنُ ما سَمِعْتُ في صَلاةِ الخَوفِ، وفي روايةٍ: إنَّهُ أَحَبُّ ما سَمِعْتُ. ثمَّ رَجَعَ وقال: يكونُ قضاؤُهُم بعدَ السَّلامِ أحبُّ إليَّ على حديثِ سَهْلٍ ولم يَذْكُرْ فيه سلامَ الطَّائِفَةِ الأُولى إذا تمَّتْ صلاتُها، ولا ذَكَرَ سلامَه صلعم قبْلَ أنْ تُتِمَّ لأنْفُسِها، وذَكَرَ مالكٌ في ذلك في روايتِه عن يَحيى بن سعيد والزِّيادةُ مقبولةٌ.
          سادسُها: لا يُعترض على بعضِ الأحاديثِ بمخالفَةِ الأصول؛ فإنَّ الصَّلاة نفْسَها خَرَجَتْ عنه للحاجة إليه.
          سابعُها: دلَّ الدَّليل على أنَّ الطائفةَ الثَّانيَةَ لا تدخُلُ في الصَّلاة إلَّا بعد انصرافِ الأُولى، وقولُه {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] دليلٌ على أنَّ الطَّائفةَ الأُولى تنصَرِفُ فَلَمْ يبْقَ عليها مِن الصَّلاةِ شيءٌ تفعَلُهُ بعدَ الإمامِ، وقد يُقال: إنَّ معنَى {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ما بقِيَ مِن صلاتِك ويقضُون ما فاتَهم، وقولُه: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} لا يقتضي قضاءَ الجميعِ معًا وإنَّما هو إخبارٌ عمَّا أُبيحَ لهُم فِعْلُه بعدَها مِن الذِّكْر وغيرِه.
          ثامنُها: حديثُ جابِرٍ أخَذَ به الشَّافِعِيُّ أيضًا، يُصَلِّي بكلِّ طائفةٍ رَكعتين بناءً على جوازِ صلاةِ المفتَرِضِ خلْفَ المتنفِّلِ، وهذا إذا كان في سَفَرٍ، ولم يُحفَظْ عن رسولِ الله صلعم أنَّه صلَّى صلاةَ الخوفِ قطُّ في حَضَرٍ، ولم يكن له حَرْبٌ في حَضَرٍ إلَّا يومَ الخندق، ولم تكن نزلَتْ صلاةُ الخوف بعْدُ. ودفع مالكٌ وأبو حنيفةَ هذا التَّأويلَ، وقال أصحابُهما: إنَّه صلعم كانَ في حَضَرٍ ببطْنِ نَخْلٍ على بابِ المدينة ولم يكن مسافرًا وإنَّما كان خوفٌ فخرج منه محترِسًا، ولم يُنقل عنه سلامٌ في ركعتين بهم، وادَّعى ابنُ القصَّار خصوصيَّةَ ذلك به على تقديرِ أنْ يكونَ سفرًا، وهو بعيدٌ.
          ويردُّ دَعْوى الحَضَرِ أنَّ جابرًا ذَكَرَ في الحديثِ أنَّهم كانوا بذاتِ الرِّقَاع، وقد كانتْ صلاةُ الخوفِ نزلتْ. وادَّعى الطَّحاويُّ أنَّه قد يجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ منه والفريضةُ حينئذٍ تُصلَّى مرَّتين، وكان ذلك في أوَّلِ الإسلام ثمَّ نُسِخ.
          تاسعُها: رُوِيَ عن جابرٍ ((أنَّه صلعم صلَّى أيضًا فَرَكَعَ في الصَّفِّ المتقدِّمِ رَكعةً كاملةً ثُمَّ تأخَّروا، ثمَّ تقدَّمَ الآخَرون فركَعَ بهم ثانيةً كذلك، فكانتْ لرسولِ الله صلعم رَكعتين وللنَّاسِ رَكعةً ركعةً)) ويجوز أن تكونَ هذه صِفةٌ أخرى، وقد أسلَفْنَا عن أحمدَ أنَّ أحاديثَ صلاةِ الخوفِ صِحَاحٌ كلُّها، وهو قولُ الطَّبَرِيِّ وطائفةٍ مِن أهلِ الحديثِ.
          العاشرُ: الضَّرْبُ في الآيةِ الَّتي ذَكَرَها البُخاريُّ السَّفرُ، وهذه الآياتُ نزلَتْ في عُسْفان بين الظُّهر والعصر كما أخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ مِن حديثِ أبي عيَّاش الزُّرَقيِّ السَّالِفِ.
          وقولُه: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] أي: ولْيَأْخُذِ الباقون أسلِحَتَهم.
          وقولُه: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] يحتمل أنْ يكونَ للجميعِ وأنْ يكونَ لِمَن لم يُصَلِّ.
          الحادي عشَرَ: الخلافُ في صلاةِ الخَوفِ في ثلاثَةِ مواضِعَ: في جوازِ فعلِها الآنَ، وهل تُفعَلُ في الحَضَرِ؟ وفي صِفَتِهَا. وقد عرفتَ ذلكَ، وانفَرَدَ ابن الماجِشُون فمَنَعَها في الحَضَر تمسُّكًا بظاهِرِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء:101].
          الثَّاني عَشَرَ: قولُه في الحديث: (فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ) أي حاذيْنَاهُم، وفي «الصِّحاح»: وقد آزيتُهُ إذا حاذيتُه، ولا تَقُل وَازَيْتُهُ، وأقرَّه ابنُ التِّينِ في «شرحه».