التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الجعائل والحملان في السبيل

          ░119▒ باب: الجَعَائِلِ وَالحُمْلَانِ فِي السَّبِيلِ.
          وَقَالَ مُجَاهِدٌ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أريد الغَزْوَ، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِي، قُلْتُ: أَوْسَعَ الله عَلَيَّ قَالَ: إِنَّ غِنَاكَ لَكَ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِي فِي هَذَا الوَجْهِ، وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا المَالِ لِيُجَاهِدُوا ثُمَّ لَا يُجَاهِدُونَ فَمَنْ فعل فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حتَّى نأخذ منه ما أخذ.
          وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ الله فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ. /
          2970- 2971- ثُمَّ ذكر فيه حديث عمرَ مِنْ طريقين عنه في فرسه، وقوله ◙: (وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ) وقد سلف [خ¦1489].
          2972- وحديث أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ وَلَكِنْ لَا أَجِدُ حَمُولَةً وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ الله فَقُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ).
          الشَّرح: ما أراده ابن عمرَ ☻ هو على ما وصفه ولو مع الغنى، وليس مِنَ الزَّكاة، وما قاله والده ظاهرٌ، لأنَّه إنَّما أعطي على الخروج ولم يُوجَد، وكان ابن المسيِّب يقول إذا أُعطي الإنسان شيئًا في الغزو: إذا بلغتَ رأس مغزاك فهو لك. وقول طاوسٍ ومجاهدٍ: (فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) معناه: إذا تمَّ ما أُعطي عليه مضى فعلُه فيه، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ.
          وأراد البُخَاريُّ بالجعائل أن يُخرِج الرَّجل شيئًا مِنْ ماله يتطوَّع به في سبيل الله كما فعل ابن عمرَ، أو يعين به مَنْ لا مال له مِنَ الغازين، كالفرَس الَّذي حمل عليه عمرُ في سبيل الله وهو حسنٌ مرغَّبٌ فيه، وليس مِنْ باب الجعائل الَّتي كرهها العلماء، فقال مالكٌ: أكره أن يُؤاجر الرَّجل نفسه أو فرسه في سبيل الله، وكره أن يعطيَه الوالي الجُعل على أن يتقدَّم إلى الحصن، ولا تُكره الجعائل لأهل العطاء، لأنَّ العطاء مأخوذٌ على هذا الوجه.
          قال مالكٌ: لا بأس بالجعائل في البعوث، لم يزل النَّاس يتجاعلون عندنا بالمدينة يجعل القاعد للخارج إذا كانوا مِنْ أهل ديوانٍ واحدٍ، لأنَّ عليهم سدَّ الثُّغور، وأصحاب أبي حَنيفةَ يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوَّةٌ أو في بيت المال ما يفي بذلك، فإن لم يكن لهم قوَّةٌ ولا مالٌ فلا بأس أن يجهِّز بعضُهم بعضًا على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا الموضع ينبغي أن يكون وفاقًا لقول مالكٍ، وقد روى أَيُّوب عن ابن سِيرين عن ابن عمرَ قال: كان القاعد يمنح الغازيَ، فأمَّا أن يبيعَ الرَّجل غزوَهُ فلا أدري ما هو، وأدَّى القاعد للخارج مئة دينارٍ في بعثٍ أيَّام عمرَ، وكان مسروقٌ يجعل عن نفسه إذا خرج البعثُ.
          وقال الشَّافعيُّ: لا يجوز أن يغزوَ بجُعلٍ يأخذه مِنْ رجلٍ، وأردُّه إن غزا به، وإنَّما أُجيزُه مِنَ السُّلطان دون غيره لأنَّه يغزو بشيءٍ مِنْ حقِّه، واحتجَّ بأنَّ الجهاد فرضٌ على الكفاية، فمَنْ فعله وقع عن فرضِه، فلا يجوز أن يستحقَّ على غيره عِوضًا.
          قال المهلَّب: وقول طاوسٍ ومجاهدٍ السَّالفُ يخرج مِنْ حديث عمرَ في الفرس، لأنَّه وضع عنده في الجهاد فأخذ ثمنَه وانتفع به، وإنَّما باعه الرَّجل لأنَّه لم يكن حبسًا وإنَّما كان حُملانًا للجهاد صدقةً، لقول النَّبيِّ صلعم: ((لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ)) وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبَيرِ خلافُ قول طاوسٍ ومجاهدٍ، قال ابن عبَّاسٍ: أنفقها في الكَراع والسِّلاح، وقال ابن الزُّبَيرِ: أنفقها في سبيل الله، وقال النَّخَعيُّ: يُعطَون أحبَّ إليَّ مِنْ أن يأخذوا.
          قال ابن المنيِّر: كلُّ مَنْ أخذ مالًا مِنْ بيت المال على عملٍ فإذا أهمل العمل ردَّ ما أخذ بالقضاء، وكذلك الأخذ منه على عملٍ لا يتأهَّل له ولا يُلتفت إلى تخييل أنَّ الأصل مِنْ مال بيت المال الإباحةُ للمسلمين، لأنَّا نقول: الأخذ منه على وجهين: أنَّ الآخِذَ مسلمٌ فله نصيبٌ كان على وجهٍ، والآخر على عملٍ وإنَّما يستحقُّ بوفائه.
          وفي حديث عمرَ وأبي هريرة: الحمل على الخيل في سبيل الله.
          ومعنى (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ) أنَّهم كانوا يقتدون به فيخرجون على العُسر واليسر ولا يتخلَّفون عنه، لحِرصهم على اتِّباعه ورغبتهم في امتثال سيرته.