التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

          ░20▒ بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ.
          1188- ذكر فيه ثلاثة أحاديثَ: حديث قَزَعَة قَالَ: (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَرْبَعًا، _قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلعم_ وَكَانَ قَدْ غَزَا مَعَهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً).
          1189- ثانيها: حديث سعيدٍ عن أبي هُرَيرةَ: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى).
          1190- ثالثها: حديث أبي عبد الله الأغرِّ_واسمه سَلمانُ_ عن أبي هُرَيرةَ أيضًا: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ).
          الشرح: حديث أبي سعيدٍ أتى به في الباب بعده مطوَّلًا، وفي آخره: ((وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِد)) كما سيأتي في الحجِّ [خ¦1864] والصوم أيضًا [خ¦1995]، ولم يخرِّجه غيرُه مجموعًا بتمامه مِن طريق قَزَعة عن أبي سعيدٍ. وفي بعض نسخ البخاريِّ إيرادُه آخر الباب، وكذا ذكره أبو نُعَيمٍ، وأخرجه مسلمٌ مقطَّعًا، قطعةٌ في الحجِّ: ((لا تسافر المرأة...)) إلى آخره، ومثلها مِن حديث أبي صالحٍ عنه، وقطعةٌ في الصيام، وهي النهي عن صوم العيدين، وأخرجاه مِن حديث يحيى بن عُمَارةَ عن أبي سعيدٍ، وقطعةٌ في: ((لا صلاة بعد الصبح...)) مِن حديث عطاء بن يزيدَ عن أبي سعيدٍ، وأخرجه البخاريُّ أيضًا كذلك، وابنُ ماجه مِن حديث قَزَعة عنه، وقطعة الباب ((لاَ تُشَدُّ...)) أخرجها هنا مختصرًا بدونها.
          قال الحُمَيديُّ: أَهمَلَ، ولم يبيِّن تمامه. وأخرجها مسلمٌ مِن حديث قَزَعةَ أيضًا في الحجِّ، وابنُ ماجه والتِّرمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ. وذكر الدَّارَقُطْنِيُّ أنَّه اختُلف فيه على قَزَعةَ، فذكره، ثمَّ قال: والصحيح قول مَن قال: قَزَعةُ عن أبي سعيدٍ. وقال الدَّاوديُّ: ذكر حديث أبي سعيدٍ ولم يَذكُر ما فيه، ثمَّ أتى بحديث أبي هُرَيرةَ بعدُ. يعني أنَّهما جميعًا حدَّثا بالحديث. وقد ذكره بعدُ في باب: مسجد بيت المقدس، وذكر الأربع وأنَّهنَّ أعجبْنَه.
          قال ابن التِّين: وأضاف إليهنَّ ابنُ مَسْلَمةَ رابعًا وهو: مسجد قُباءٍ.
          وحديث أبي هُرَيرةَ الأوَّل أخرجه مسلمٌ أيضًا، وأخرجه مسلمٌ أيضًا مِن حديث سلمانَ الأغرِّ، عن أبي هُرَيرةَ بلفظ: ((إنَّما يُسافَر إلى ثلاثة مساجدَ: الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياءَ)).
          وشيخ البخاريِّ فيه عليٌّ هو: ابن المدينيِّ، وشيخُه سُفْيان هو: ابن عُيَينةَ. قال الدَّارَقُطْنِيُّ: تفرَّد به الزُّهريُّ واختُلِف عنه فذكره، ثم قال: وكلُّها محفوظةٌ عنه. وحديثه الثاني أخرجه مسلمٌ أيضًا، وقد رواه عن أبي هُرَيرةَ غيرُ الأغرِّ، رواه عنه سعيدُ بن المسيِّب وأبو صالحٍ، والوليد بن رباحٍ، وعبد الله بن إبراهيمَ بن قَارِظٍ وأبو سَلَمةَ وعطاءٌ.
          قال أبو عُمَرَ: لم يُختَلف على مالكٍ في إسناد هذا الحديث في «الموطَّأ» عن زيد بن رباحٍ وعُبَيد الله بن عبد الله الأغرِّ، عن أبي عبد الله الأغرِّ عن أبي هُرَيرةَ. ورواه محمَّد بن مَسْلَمةَ المخزوميُّ عن مالكٍ، عن ابن شهابٍ عن أنس وهو غلطٌ فاحشٌ وإسناده مقلوبٌ، ولا يصحُّ فيه عن مالكٍ إلَّا حديثه في «الموطَّأ» عن زيدٍ. كما سلف.
          ورُوي عن أبي هُرَيرةَ مِن طُرقٍ متواترةٍ كلُّها صِحَاحٌ ثابتةٌ، وطرَّقه الدَّارَقُطْنِيُّ فأبلغ، ورواه ابن عُمَرَ وميمونة، وطرَّقه الدَّارَقُطْنِيُّ، وجابُر وابنُ الزُّبير وإسناده حسنٌ أخرجه أحمد، وأبو ذرٍّ أخرجه الطَّحاويُّ.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليها مِن أوجهٍ.
          أحدها: قوله: (مَسْجِدِ الْأَقْصَى) هو مِن باب إضافة الموصوف إلى صفته، وقد أجازه الكوفيُّون، وتأوَّله البصريُّون على الحذف. أي: مسجدِ المكان الأقصى، وسُمِّي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام.
          ثانيها: فيه فضيلة هذه المساجد الثلاثة وميزتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ‰، وتفضيل الصَّلاة فيها، وشدُّ الرحال _أي: سروجِ الجمال_ إلى هذه المساجد الثلاثة، وإعمالُ الْمَطِيِّ إليها مشروع قطعًا.
          واختلفوا في الشَّدِّ والإعمال إلى غيرِها، كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة، ونحوِ ذلك، فقال الجوينيُّ: يحرُم شدُّ الرِّحال إلى غيرها. وهو الذي أشار القاضي حسين إلى اختياره، والصحيح عند أصحابنا، وهو مختار الإمام والمحقِّقين: أنَّه لا يحرُم ولا يُكره، قالوا: والمراد: أنَّ الفضيلة الثابتة إنَّما هي في شَدِّ الرِّحال إلى هذه الثلاثة خاصَّةً.
          وقال ابن بطَّالٍ: هذا الحديث في النهي عن إعمال الْمَطِيِّ، إنَّما هو عند العلماء فيمَن نذر على نفسه الصَّلاة في مسجدٍ مِن سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة.
          قال مالكٌ: مَن نذر صلاةً في مسجد لا يَصلُ إليه إلَّا براحلةٍ فإنَّه يُصَلِّي في بلده إلَّا أن ينذر ذلك في المساجد / الثلاثة، فعليه السير إليها، وأمَّا مَن أراد الصَّلاة في مساجد الصالحين والتبرُّكَ بها متطوِّعًا بذلك، فمباحٌ له قصدها بإعمال المطيِّ وغيرِه، ولا يَتوجَّهُ إليه النهيُ في الحديث.
          وقال الخطَّابيُّ: اللفظ لفظ خبرٍ ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان مِن الصَّلاة في البقاع التي يُتبرَّك فيها، يريد أنَّه لا يلزم الوفاء بشيءٍ مِن ذلك غير هذه المساجد.
          وقال ابن الجوزيِّ: اختلف العلماء فيما إذا نذر أن يُصَلِّيَ في هذه المساجد الثلاثة، فمذهب أحمدَ أنَّه يلزمه، وقال أبو حنيفةَ لا يلزمه بل يُصَلِّي حيث شاء. وعن الشافعيِّ كالمذهبين. انتهى.
          ولا يُعترض بأنَّ أبا هُرَيرةَ أعمل المطيَّ إلى الطُّور، فلمَّا انصرف لقيه بَصْرةُ بن أبي بَصْرةَ، فأنكر عليه خروجَه وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، سمعتُ النَّبيَّ صلعم يقول: ((لا تُعمَل الْمَطِيُّ إلَّا إلى ثلاثة مساجدَ)). فدلَّ أنَّ مذهب بَصْرةَ حملُ الحديث على العموم في النهي عن إعمال المطيِّ إلى غير المساجد الثلاثة على كلِّ حالٍ، فدخل فيه الناذِرُ والمتطوُّع لأنَّ بَصْرةَ إنَّما أنكر على أبي هُرَيرةَ خروجَه إلى الطُّور لأنَّ أبا هُرَيرةَ كان مِن أهل المدينة التي فيها أحدُ المساجد الثلاثة التي أُمِر بإعمال المطيِّ إليها، ومَن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان.
          وليس في الحديث أنَّ أبا هُرَيرةَ نذر السَّير إلى الطور، وإنَّما ظاهره أنَّه خرج متطوِّعًا إليه، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل مِن الطور لأنَّ مسجد المدينة ومسجد بيت المقدس أفضلُ مِن الطُّور.
          وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة فنذر المشي إلى بيت المقدس، فقال مالكٌ: يمشي ويركب. زاد الأوزاعيُّ: ويَتصدَّقُ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابه: يُصَلِّي في مسجد المدينة أو مكَّة لأنَّهما أفضل منه. وقال سعيد بن المسيِّب: يقومان مقام مسجد بيت المقدس. وقال الشافعيُّ: يمشي إلى مسجد المدينة والأقصى إذا نذر ذلك، ولا يتبيِّنُ لي وجوبه لأنَّ البِرَّ بإتيان بيت الله فرضٌ، والبِرُّ بإتيان هذين نافلةٌ. وقال ابن المنذر: مَن نذر المشي إلى المسجد الحرام والأقصى وجب عليه ذلك لأنَّ الوفاء به طاعة، وإن نذر الأقصى إن شاء مشى إليه، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام، لحديث جابرٍ ((أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ صلعم: إنِّي نذرتُ إن فتح الله عليك مكَّةَ أن أصلِّيَ في بيت المقدس قال: صلِّ ههنا. ثلاثًا)).
          وقال أبو يوسفَ: لا يقوم الأقصى مقام المسجد الحرام. وحكى الطَّحاويّ عن أبي حنيفةَ ومحمَّدٍ: أنَّ مَن جعل لله عليه أن يُصَلِّيَ في مكانٍ فصلَّى في غيره أجزأه. واحتَجَّ لهم الطَّحاويُّ بأنَّ معنى حديث ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام)) أنَّ المراد به الفريضة لا النَّافلة، لقوله صلعم: ((خيرُ صلاةِ المرء في بيته إلَّا المكتوبةَ)).
          وقال ابن التِّين: هذا الحديث دليلٌ لنا على الشافعيِّ، فإنَّه أعمل المطيَّ إليهما، والصَّلاة فيهما قُربةٌ، فوجب أن يلزم بالنذرِ كالمسجدِ الحرام، وانفصل بعضهم بأن قال: قد تُشَدُّ الرِّحال إلى المسجد الحرام فرضًا للحجِّ أو العُمرة، وفي مسجد المدينة للهجرة في حياته، وكانت واجبةً على الكفاية في قول بعض العلماء، فأمَّا إلى بيت المقدس فهي فضيلةٌ.
          وقد يتأوَّل الحديث على أنَّه لا يعتكف إلَّا في هذه المساجد الثلاثة فيرحل إليها، وهو قول بعض السلف.
          فرع: إذا لزم المضيُّ إليهما، فهل يلزمه المشيُ؟ في «المدوَّنة»: يأتيهما راكبًا. وقال ابن وهبٍ: ماشيًا وإن بعُد. وقيل: إن كان قريبًا بالأميال مَشَى. وقيل: لا يمشي وإن كان ميلًا، وأمَّا المسجد الحرام فإنَّه يأتيه ماشيًا.
          ثالثها: اختلف العلماء في تأويل قوله صلعم: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ). ومعناه كما قال أبو عُمَرَ، فتأوَّله قومٌ، منهم ابن نافعٍ صاحب مالكٍ على أنَّ الصَّلاة في مسجد رسول الله صلعم أفضل مِن الصَّلاة في المسجد الحرام بدون ألف درجةٍ، وأفضلُ مِن الصَّلاة في سائر المساجد بألف صلاةٍ، وقال به جماعةٌ مِن المالكيِّين، ورواه بعضهم عن مالكٍ.
          وذكر أبو يحيى السَّاجيُّ قال: اختلف العلماء في تفضيل مكَّةَ على المدينة، فقال الشافعيُّ: مكَّةُ أفضل البقاع كلِّها، وهو قول عطاءٍ والمكِّيِّين والكوفيِّين. وقال مالكٌ والمدنيُّون: المدينة أفضل مِن مكَّةَ. واختلف أهل البصرة والبغداديُّون في ذلك، فطائفةٌ يقولون: مكَّة، وطائفةٌ يقولون: المدينة. وعامَّةُ أهل الأثر والفقه أنَّ الصَّلاة في المسجد الحرام أفضل مِن الصَّلاة في مسجد رسول الله صلعم بمائة صلاةٍ. وقال القُرْطبيُّ: اختُلف في استثناء المسجد الحرام، هل ذلك أنَّ المسجد أفضل مِن مسجده صلعم؟ أو هو لأنَّ المسجد الحرام أفضل مِن غير مسجده؟ فإنَّه أفضل المساجد كلِّها والجوامع.
          وهذا الخلاف في أيِّ البلدين أفضل؟ فذهب عُمَرُ وبعضُ الصَّحابة ومالكٌ وأكثر المدنيِّين إلى تفضيل المدينة، وحملوا الاستثناءَ على تفضيل الصَّلاة في مسجد المدينة بألف صلاةٍ على سائر المساجد، إلَّا المسجد الحرام فبأقلَّ مِن الألف، واحتجُّوا بما قال عمر: صلاةٌ في المسجد الحرام خيرٌ مِن مئة صلاةٍ فيما سواه. ولا يقول عمر هذا مِن تِلقاء نفسه، ولا مِن اجتهاده، فعلى هذا يكون فضيلة مسجده على المسجد الحرام بتسعمائة، وعلى غيره بألفٍ.
          وذهب الكوفيُّون والمكِّيُّون وابن وهبٍ وابن حبيبٍ مِن أصحابنا إلى تفضيل مكَّةَ، واحتجُّوا بما زاد قاسم بن أصبغَ وغيرُه في هذا الحديث مِن رواية عبد الله بن الزُّبير بعد قوله: (إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ) قال: ((وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من صلاةٍ في مسجدي هذا بمئة صلاةٍ)).
          قال: وهذا الحديث رواه عَبْدُ بنُ حُميدٍ / وقال فيه: ((بمئة ألف صلاةٍ))، وهذه الروايات منكرةٌ لم تشتهر عند الحفَّاظ، ولا خرَّجها أصحاب الصحيح، ولا شكَّ أنَّ المسجد الحرام مستثنًى مِن قوله: ((مِن المساجد))، وهي بالاتَّفاق مفضولةٌ، والمستثنى مِن المفضولِ مفضولٌ إذا سُكِت عليه فالمسجد الحرام مفضولٌ، لكنه يُقال: مفضول بألفٍ لأنَّه قد استثناه منها، فلا بدَّ أن يكون له مَزِيَّةٌ على غيره مِن المساجد ولم يُعيِّنها الشرع فيوقَف فيها، أو يُعتمَد على قول عمر.
          قال: ويدلُّ على صِحَّة ما قلناه زيادة عبد الله بن قَارِظٍ بعد قوله: (إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ): ((فإنِّي آخر الأنبياء، ومسجدي آخر المساجد)) فربْطُ الكلام بفاء التعليل مُشعِرٌ بأنَّ مسجده إنما فُضِّل على المساجد كلِّها لأنَّه متأخِّرٌ عنها، ومنسوبٌ إلى نبيٍّ متأخِّرٍ عن الأنبياء في الزمان، فتدبَّره.
          وقال عياضٌ: أجمعوا على أنَّ موضعَ قبره صلعم أفضلُ بِقاع الأرض.
          ومِن دلائل تفضيل مكَّةَ: حديثُ عبد الله بن عَديِّ بن الحمراء أنَّه سمع رسول الله صلعم يقول _وهو واقفٌ على راحلته بمكَّةَ_: ((والله إنَّكِ لخيرُ بلاد الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ)). رواه النَّسائيُّ والتِّرمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ.
          وعن عبد الله بن الزُّبير قال رسول الله صلعم: ((صلاة في مسجدي هذا أفضلُ مِن ألف صلاةٍ فيما سواه مِن المساجد إلَّا المسجدَ الحرام، وصلاةٌ في المسجدِ الحرام أفضلُ مِن مئة صلاةٍ في مسجدي)) حديثٌ حسنٌ رواه أحمد بن حنبل في «مسنده»، والبيهقيُّ وغيرهما بإسنادٍ حسنٍ.
          قال أبو عُمَرَ: وأمَّا تأويل ابن نافعٍ فبعيدٌ عند أهل المعرفة باللسان ويلزمه أن يقول: إنَّ الصَّلاة في مسجد الرسول أفضلُ مِن الصَّلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعفٍ، وتسعة وتسعين ضِعفًا. وإذا كان هكذا، لم يكن للمسجد الحرام فضلٌ على سائر المساجد إلاَّ بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافعٍ.
          ثمَّ ساق بإسناده إلى ابن عُيَينة، عن زياد بن سعدٍ عن أبي عَتِيقٍ: سمعتُ ابن الزُّبير سمعت عمر يقول: ((صلاةٌ في المسجد الحرام خيرٌ مِن مئة ألف صلاةٍ فيما سواه _يعني مِن المساجد_ إلَّا مسجد رسول الله)) فهذا عُمَرُ وابن الزُّبير، ولا مخالفَ لهما من الصَّحابة يقول: تفْضُل الصَّلاة في المسجد الحرام على مسجد المدينة. وتأوَّل بعضُهم هذا الحديث أيضًا عن عُمَرَ على أنَّ الصَّلاة في مسجد المدينة خيرٌ مِن تسعمئةٍ في المسجد الحرام، وهذا تأويلٌ لا يعضده أصلٌ.
          وزعم بعض المتأخِّرين أنَّ الصَّلاة في مسجد المدينة أفضلُ مِن الصَّلاة في المسجد الحرام بمئة صلاةٍ، ومِن غيره بألف صلاةٍ، واحتجَّ بحديث ابنِ الزُّبير عن عُمَرَ المذكور. قال: وهذا لا حُجَّة فيه لأنَّه مختلَفٌ في إسناده وفي لفظِه، وقد خالفه فيه مَن هو أثبتُ منه.
          واستدلُّوا بحديث سليمانَ بن عَتِيقٍ عن ابن الزُّبير، سمعتُ عمر يقول: ((صلاةٌ في المسجد الحرام أفضل مِن ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلَّا مسجد رسول الله صلعم فإنَّها فضيلةٌ عليه بمئة صلاةٍ)). فهذا حديث سليمانَ فيه مِن نقل الثِّقات نصًّا خلاف ما تأوَّلوه.
          وذكر حديث ابن عُمَرَ الذي فيه أنَّ الصَّلاة في المسجد الحرام أفضل مِن مئة صلاةٍ في مسجده صلعم. قال: ورُوي عن أبي الدَّرداء وجابرٍ مثل ذلك بزيادة: ((وفي بيت المقدس بخمسمئة)). وقال عبد الله بن مسعودٍ: ((ما للمرأة أفضلُ مِن صلاةِ بيتها إلَّا المسجدَ الحرام)).
          وهذا تفضيل منه للصلاة فيه على الصَّلاة في مسجد الرسول وقد قال لأصحابه: ((صلاةُ أحدكم في بيته أفضلُ من صلاته في مسجدي هذا إلَّا المكتوبةَ)).
          وقد اتَّفق مالكٌ، وسائر العلماء على أنَّ صلاة الفرض يُبرَز لها في كلِّ بلدٍ إلَّا مكَّةَ فإنَّها تُصلَّى في المسجد الحرام. فهذا عُمَرُ وعليُّ وابن مسعودٍ وأبو الدَّرداء وجابرٌ يفضِّلُون مكِّةَ ومسجدَها، وهم أولى بالتقليد ممن تقدَّمهم.
          واستدلَّ بعض أصحاب مالكٍ على تفضيل المدينة بقوله صلعم: ((ما بين قبري ومنبري روضةٌ مِن رياض الجنَّةِ)) أو ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ...)) الحديث.
          وركَّبوا عليه قوله: (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) ولا دلالة فيه كما قال أبو عمر، لأن قولَه هذا إنما أراد ذمَّ الدنيا والزهدَ فيها، والترغيبَ في الآخرة، فأخبَرَ أنَّ اليسير مِن الجنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا كلِّها، وأراد بذكر السُّوط على التقليل، بل موضعُ نصفِ سوطٍ مِن الجنَّة الباقية خيرٌ مِن الدنيا الفانية. قال: وإنِّي لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلعم إذْ وقف بمكَّة على الحَزْوَرَةِ، وقيل: على الحَجُون، فقال: ((والله إنِّي لأعلم أنَّكِ خيرُ أرض الله، وأحَبُّها إلى الله، ولولا أنَّ أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ)) وهذا حديث صحيحٌ، وقد سلف. وذكره مِن طريق عبد الله بن عَديِّ بن الحمراء، ومِن طريق مَعْمَر عن الزُّهريِّ عن أبي سَلَمةَ عن أبي هُرَيرةَ.
          قال: وقد رُوي عن مالكٍ ما يدلُّ على أنَّ مكَّةَ أفضلُ الأرض كلِّها. لكنَّ المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة. وكان مالكٌ يقول: مِن فَضْلِ المدينة على مكَّةَ: إِنِّي لا أعلم بقعةً فيها قبرُ نبيٍّ معروف غيرها. كأنَّه يريد ما لا يُشَكُّ فيه.
          وعن ابن أبي مُلَيكةَ عن عائِشَةَ قالت: اختَلَفوا في دفن رسول الله صلعم فقال أبو بكرٍ: سمعته يقول: ((لا يُقبَض نبيٌّ إلَّا في أحبِّ الأمكنة إليه)) فقال: ادفنوه حيث قُبض. وفي لفظ: حيث قبضه الله، فإنَّه لم تُقبض روحُه إلَّا في مكان طيِّبٍ.
          وروى ابن عبد البرِّ في أواخر «تمهيده» عن عطاءٍ الخراسانيِّ: أنَّ الملَك ينطلق فيأخذ مِن تراب المكان الذي يُدفن فيه فيذُرُّه على النُّطفة، فيُخلَق مِن التُّراب ومِن النُّطفة، فذلك قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}الآية[طه:55].
          واختُلف هل يُراد بالصَّلاة هنا الفرضُ أو أعمُّ منه؟ وإلى الأوَّلِ ذهب الطَّحاويُّ، وإلى الثاني ذهب مُطرِّف مِن أصحاب مالكٍ. ومذهبنا / أنَّه أعمُّ.
          فتقرَّرَ أن الصَّلاة في المسجد الحرام بمئة ألفٍ _هذا ما نعتقده_ وفي مسجد المدينة بألفٍ. وقد أسلفنا عن الأقصى أنَّها بخمسمائة، وفي حديث أبي ذرٍّ: بمئتين وخمسين صلاةٍ. وفي حديث ميمونةَ: بألفٍ، وهو مِن باب الترقِّي والفضل، كما نبَّه عليه الطَّحاويُّ.
          ثمَّ النَّافلة في البيوت أفضل مِن صلاتها في المساجد الثلاثة. ثمَّ هذا فيما يرجع إلى الثواب، ولا يتعدَّى إلى الإجزاء عن الفوائت، حتَّى لو كان عليه صلاتان فصلَّى في المسجد الحرام صلاةً لم تُجْزِهِ عنهما بالاتفاق. ثمَّ الفضيلة في الصَّلاة في مسجده خاصٌّ بنفس مسجده الذي كان في زَمانِهِ دون ما زِيدَ فيه بعدَه، فيحرصُ المصلِّي على ذلك.
          وقال ابن بطَّالٍ: كِلا الطائفتين في تفضيل مكَّةَ والمدينة يرغِّب لحديث أبي هُرَيرةَ: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا...) إلى آخره. ولا دلالةَ فيه لواحدٍ منهُما، وإنما يُفهم منه أنَّ صلاةً في مسجده صلعم خيرٌ مِن ألف صلاةٍ فيما سواه مِن المساجد.
          ثمَّ استثنى المسجد الحرام، وحُكمُ الاستثناء عند أهل اللسان إخراجُ الشيء ممَّا دخل فيه هو وغيرُه بلفظٍ شاملٍ لهما، وإدخالُه فيما خرج منه هو وغيرُه بلفظٍ شاملٍ لهما.
          وقد مثَّل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناءَ في الحديث بمثال بيَّنَ فيه معناه: فإن قلتَ: اليمنُ أفضل مِن جميع البلاد بألف درجةٍ إلَّا العراق. جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكونَ فاضلًا، وأن يكون مفضولًا، فإن كان مساويًا فقد عُلِم فضلُه، وإن كان فاضلًا أو مفضولًا لم يقدَّر مقدارُ المفاضلة بينهما إلَّا بدليٍل على عدَّةِ درجاتٍ، إمَّا زائدةً على ذلك، أو ناقصةً عنها، فيُحتاج إلى ذكرها.
          واحتجَّ مَن فضَّل مكة مِن طريق النظر: أنَّ الربَّ جلَّ جلاله فَرَضَ على عباده قصْد بيته الحرام مرَّةً في العمر، ولم يفرض عليهم قصدَ مسجد المدينة.
          قالوا: ومِن قول مالكٍ: أنَّ مَن نذر الصَّلاة في مسجد المدينة والمشيَ إليه أنَّه لا يلزمه المشيُ إليه، وعليه أن يأتيَه راكبًا، ومَن نذر المشيَ إلى مكة، فإنَّه يمشي إليها ولا يركب، فدلَّ هذا مِن قوله أنَّ مكة أفضلُ لأنَّه لم يوجب المشي إليها إلا لعظيم حُرمتها وكبيرِ فضلها.
          والمراد بقوله: (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ) أنَّها أكثرُ ثوابًا. قال ابن حبيبٍ: وذلك إذا كان عددُ الرجال المصلِّين فيه دون ذلك، فأمَّا إن كانوا أكثر مِن ذلك فالثواب على عدد تضعيفهم. وكذلك قال في تضعيف صلاة الجماعة بخمسةٍ وعشرين جزءًا في مسجد أو غيرِه على صلاة الفذِّ.
          قال: وفي صلاة المسجد الحرام بمئة ألفٍ فيما سواه، وهذا سلف. وفي مسجد إيلياءَ بخمسمئة على ما سواه، وفي الجامع حيث المنبرُ والخطبةُ بخمس وسبعين على ما سواه من المساجد. قال في ذلك كلِّه: إن كانوا أكثر ممَّا في الموضع مِن التَّضعيف كان التَّضعيفُ على العدد، وإن كانوا أقلَّ أو مثل ذلك فعلى ما جاء فيه. قال: وبذلك جاءت الروايات.
          فائدة: في «الأوسط» للطَّبرانيِّ مِن حديث أبي هُرَيرةَ: ((لا تُشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجِدَ: مسجد الخَيْف، ومسجد الحرام، ومسجدي هذا)) ثمَّ قال: لم يروه عن كلثومٍ إلَّا حمَّاد بن سَلَمةَ. ولم يُذكر مسجد الخِيف في شدِّ الرِّحال إلَّا في هذا الحديث. وقال البخاريُّ: لا يتابع خُثَيم في ذكر مسجد الخَيْف، ولا يُعرف له سماعٌ مِن أبي هُرَيرةَ.
          ومِن الموضوعات مِن طريق عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه: إلحاقُ مسجد الجَنَد بالثلاثة. وقد أسلفنا عن ابن التِّين أنَّ ابن مَسلمةَ أضاف إليهنَّ رابعًا، وهو: مسجد قُبَاءٍ.
          فائدة: فَضَلت مكَّةُ المدينةَ مِن وجوهٍ:
          وجوبُ قصدها للحجِّ والعمرة، وهما واجبان، ووجوبُ الإحرام لهما.
          إقامتُه بمكَّةَ ثلاث عشرة أو خمس عشرة بخلاف المدينة فإنَّه عشر سنين.
          أنَّها أكثرُ طارقًا مِن المدينة سيما مِن الأنبياء والمرسلين آدم فمَن دونه الذين حجُّوها.
          التقبيلُ والاستلام، وجوب استقبال كعبتها حيثما كنَّا.
          حُرمة استدبارِها واستقباِلها عند قضاء الحاجة.
          أنَّ حُرمتَها يوم خلق الله السماوات والأرض.
          بوَّأها تعالى لإبراهيم، وابنه إسماعيل، ومولدًا لسيِّدِ الأُمَّةِ. حرَمًا آمنًا في الجاهلية والإسلام.
          قوله تعالى فيها: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] عبَّر بالمسجد الحرام عن الحرَم كلِّه.
          الاغتسالُ لها، وكذا المدينة.