التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التحنط عند القتال

          ░39▒ (بابُ: التَّحَنُّطِ عِنْدَ القِتَالِ)
          2845- ذكر فيه حديثَ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: _ذَكَرَ يَوْمَ اليَمَامَةِ_ قَالَ: (أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَلَّا تَجِيءَ؟ قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ _يَعْنِي مِنَ الحَنُوطِ_ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ فِي الحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حتَّى نُضَارِبَ القَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ الله _صلعم_ بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ. رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ).
          هذا الحديث مِنْ أفراده، وهذا التَّعليق ادَّعى الحُميديُّ في «جمعه» أنَّ البَرْقَانيَّ وَصله عن العبَّاس بن حمدان بالإسناد، عن قَبِيْصَة بن عُقْبَة عن حمَّاد بن سَلَمة عن ثابتٍ عن أنسٍ بلفظ: انكشفنا يوم اليمامة فجاء ثابت بن قيس بن شَمَّاسٍ فقال: بئس ما عوَّدتم أقرانكم منذ اليوم، وإني أبرأ إليكم ممَّا جاء به هؤلاء القوم وأعوذ بك ممَّا صنع هؤلاء، وخلُّوا بيني وبين أقراننا ساعةً، وقد كان تكفَّن وتحنَّط فقاتل حتَّى قُتل، قال: وقُتل يومئذٍ سبعون مِنَ الأنصار، فكان أنسٌ يقول: يا ربِّ سبعين / مِنَ الأنصار يوم أُحدٍ وسبعين يوم مُؤتة وسبعين يوم بئر مَعونة وسبعين يوم اليمامة. ورواه ابن سعدٍ عن سليمان بن حربٍ وعفَّان، عن حمَّاد بن سَلَمة، ورواه الطَّبَرانيُّ عن عليِّ بن عبد العزيز وأبي مسلمٍ الكَشِّيِّ قالا: حدَّثنا حجَّاج بن مِنهالٍ، ح: وحدَّثنا محمَّد بن العبَّاس المؤدِّب حدَّثنا عفَّان حدَّثنا حمَّاد بن سلمة عن ثابتٍ عن أنسٍ: أنَّ ثَابت بن قيْس بن شَمَّاسٍ جاء يوم اليمامة وقد تحنَّط ونشر أكفانه وقال: اللَّهمَّ إني أبرأ إليك ممَّا جاء به هؤلاء، وأعتذر ممَّا صنع هؤلاء فقُتل، وكانت له درعٌ فسُرقت فرآه رجلٌ فيما يرى النَّائم فقال: إنَّ دِرعي في قِدرٍ تحت كانونٍ في مكان كذا وكذا وأوصاه بوصايا، فطلبوا الدِّرع فوجدوها وأنفذوا الوصايا، وقال الحُميديُّ: كذا فيما عندنا مِنْ كتاب البُخاريِّ أنَّ موسى بن أنسٍ قال: أتى أنسٌ ثابتًا، لم يقل عن أنسٍ، وهو عند البَرْقانيِّ مِنْ حديث موسى بن أنسٍ عن أبيه قال: أتيت ثابتًا.
          وعند ابن سعدٍ: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسديُّ عن أَيُّوب عن ثُمَامة بن عبد الله عن أنسٍ قال: أتيت على ثابتٍ يوم اليمامة... الحديثَ، وحدَّثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاريُّ، حدَّثنا ابن عونٍ، حدَّثنا موسى عن أنسٍ، وعند التِّرمِذيِّ قال أنسٌ: لمَّا انكشف النَّاس يوم اليمامة، قلتُ لثابتٍ... فذكر الحديث، وكان عليه درعٌ نَفِيسةٌ فمرَّ به رجلٌ مِنَ المسلمين فأخذها، وفيه: لمَّا رُئي في المنام ودلَّ على الدِّرع قال: لا تقل هذا منامٌ، فإذا جئت أبا بكرٍ فأعلمْه أنَّ عليَّ مِنَ الدَّين كذا، وفلانٌ مِنْ رقيقي عتيقٌ، وفلانٌ، فأنفذ أبو بكرٍ وصيَّته، ولا نعلم أحدًا أُجِيزت وصيَّتُه بعد موته سواه، وفي كتاب «الرِّدَّة» للواقديِّ بإسناده عن بلالٍ: أنَّه رأى سالمًا مولى أبي حُذيفة وهو قافلٌ إلى المدينة مِنْ غزوة اليمامة: إنَّ درعي مع الرِّفقة الَّذين معهم الفَرس الأبلَقُ تحت قِدرهم فإذا أصبحت فخذها مِنْ هناك وأدِّها إلى أهلي، وإنَّ عليَّ شيئًا مِنْ دَين فمُرهم يقضونه، فأخبرت أبا بكرٍ بذلك فقال: نصدِّق قولك ونقضي عنه دَينه الَّذي ذكرته، وذُكر أنَّ الَّذي رأى ثابتًا أيضًا بلالٌ، وأنَّ الَّذي أخذ الدِّرع رجلٌ مِنْ ضاحية نجدٍ، وكانتْ نفيسةً ورثها مِنْ آبائه، وفيه: إنَّ عبْدَيَّ سعدًا وسالمًا حُرَّان.
          إذا تقرَّر ذلك فالحديث دالٌّ على الأخذ بالشِّدَّة في استهلاك النَّفس وغيرها في ذات الله، وترك الأخذ بالرُّخصة لِمَنْ قدر عليها لأنَّه لا يخلو أن تكون الطَّائفة مِنَ المسلمين الَّتي غزت اليمامة أكثر منهم أو أقلَّ، فإن كانوا أكثر فلا يتعيَّن الفرض على أحدٍ بعينه أن يستهلك نفسه فيه، وإن كانوا أقلَّ وهو المعروف في الأغلب أنَّه لا يغزو جيشٌ أحدًا في عقر داره إلَّا وهم أقلُّ مِنْ أهل الدَّار، فإذا كان هذا فالفِرار مباحٌ، وإن تعذَّر معرفة الأكثر مِنَ الفريقين فإنَّ الفارَّ لا يكون عاصيًا إلَّا باليقين أنَّ عدوَّهم مثلان فأقلَّ، ومَا دام الشَّكُّ فالفرار مباحٌ للمسلمين ذكره المهلَّب، والَّذي نقله الإخباريُّون أنَّ أهل اليمامة كانوا أضعاف المسلمين، وفيه أنَّ التَّطيُّب للموت سُنَّةٌ مِنْ أجل مباشرة الملائكة للميِّت، وفيه اليقين بصحَّة ما هو عليه مِنَ الدِّين، وصحَّة النِّيَّة بالاغتباط في استهلاك نفسه في طاعة الله تعالى، وفيه التَّداعي للقتال لأنَّ أنسًا قال لعمِّه: (مَا يَحْبِسُكَ أَلَّا تَجِيءَ؟).
          وقوله: (بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ) يعني: العدوَّ في تركهم اتِّباعَكم وقتلكم حتَّى اتَّخذتم الفرار عادةً للنَّجاة وطلب الرَّاحة مِنْ مجالدة الأقران، ومعنى (حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ) كَشف.