التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الدعوات

          ♫
          ░░80▒▒ كتاب الدَّعَوَاتِ
          باب قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
          ░1▒ باب ولِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابةٌ
          هذا الباب ذكره ابن بطَّالٍ في أواخر «شرحه» بعد الفتن ولا أدري لِمَ فَعَلَ ذلك، ومعنى الآية: إن شئتُ فَضْلًا منِّي كقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41].
          ورُوي عن ابن عبَّاسٍ ☻: ليس مِن عبدٍ يدعو الله إلَّا استجاب له، وإن كان الذي دعا به رِزقًا له في الدُّنيا أعطاه إيَّاهُ، وإن لم يكن له رزقًا في الدُّنيا ادَّخر له.
          ورُوي: ((ما مِن داعٍ يدعو الله إلَّا كان بين إحدى ثلاثٍ: / إمَّا أن يُستجاب له يُعطى ما سأل، أو يُصرف عنه به، وإمَّا أن يُدَّخَر له، وإما أن يُكفَّر عنه به)).
          ومعنى داخِرين: أذلَّاء صاغِرين.
          ثمَّ قال البخاريُّ: ولكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ، ثمَّ ساق مِن حديث الأعرج عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ أنَّ رسول الله صلعم قال: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ).
          وقال مُعْتَمِرٌ: سمعتُ أبي عن أنسٍ ☺، عن النَّبيِّ صلعم قال: (كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ).
          الشَّرح: هذا التعليق أخرجه مسلمٌ مِن حديث محمَّد بن العلاءِ، حدَّثنا المُعْتَمِرُ به، وعنده في حديث أبي هُرَيْرَةَ: ((وأردتُ إن شاء الله أختبئ دعوتي شفاعةً لأُمَّتِي يوم القيامة)) وفي روايةٍ: ((فتعجَّلَ كلُّ نبيٍّ دعوتَهُ وإنِّي اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة فهي نائِلَةٌ إن شاء الله مَن ماتَ مِن أُمَّتي لا يشرك بالله شيئًا))، وفي روايةٍ: ((لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ دَعَا بها في أُمَّتِهِ فاستُجيب، وأريد أن أدخِّر دعوتي شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة)).
          وهذا مِن حُسن نظرِهِ عليه أفضلُ الصَّلاة والسَّلام حيث اختار أن تكون دعوتُهُ فيما يَبقى، ومِن فضل كرمهِ أن جعلها لأُمَّتِهِ شفاعةً للمُذْنِبين، فكأنَّه صلعم هيَّأ النَّجَائبَ للمُنقطعين ليُلحِقهم بالسَّابقين، نبَّه عليه ابن الجوزيِّ.
          وقوله: (دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ) يحتمل وجهين: أن يكون دَعَا بها لنفسِهِ وهو فيهم، أو دعا بها فيهم إمَّا لصلاحهم أو لهلاكهم.
          ومعنى: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ) أي: أفضلُ دعائِهِ، وكذا قوله: (كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤَالًا)، والسؤال: ما يسأله المرءُ، وقال تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] قُرئ بالهمز وتركِهِ، ولهم دعواتٌ غير ذلك: فالنَّبيُّ صلعم سأل ألَّا تَهلك أمَّته بالسنين فأُعطيها، وسأل أَلَّا يُسلَّط عليهم عدوُّهُم، وسأل أَلَّا يٌجعل بأسُهم بينهم فمُنعها، وجُعل بأسُهُم بينهم كفَّاراتٍ.
          وقوله: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) هذه دعوةٌ تخصُّ كلَّ نبيٍّ لدنياه، مثل قول نوحٍ ◙: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح:26]، ومثل قول زكريَّا ◙: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم:5]، ومثل قول سُلَيْمَانَ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص:35] فاختباؤه صلعم دعوته لأمَّته رأفةٌ بهم ورحمةٌ عليهم لوقت شدَّتهم واحتياجهم وانقطاع أعمالهم، قال عُمَرُ بن عبدِ العزيزِ: لأنَا أخوفُ مِن أنْ أُحرمَ الدُّعاء مِن أنْ أُمنع الإجابة، وقال ابن عُيَينةَ: لو يُسِّر كُفَّارُ جهنَّمَ إلى الدُّعاء بالخروج لخرجوا، ولكنَّهم إنَّما نادوا {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} الآية [المؤمنون:107] وقد عَلِم الله سبحانه أنَّهُم سيعودون لو خرجوا، فلو لم يشترطوا أنَّهُم لا يعودون وأخلصوا الدَّعاء خرجوا.
          فَصْلٌ: أمرَ الله عبادَهُ بالدِّعاء وضَمِن لهم الإجابة في الآية المذكورة، وقيل: المعنى ادعُوني بطاعتكم إيَّاي، أستجبْ لكم في الذي التمستم منِّي بعبادتكم إيَّايَ، ومِن طاعةِ العبدِ ربَّه دعاؤه إيَّاه، ورغبته في حاجته إليه دون ما سواه، والمُخْلِصُ له العبادةَ المتضرِّعُ إليه في حاجتِهِ موقنٌ أنَّ قضاءَها بيدِهِ، متعرِّضٌ لنُجْحِها منه، ومِن عبادته إيَّاه تضرُّعه إليه فيها، وقد روى وكيعٌ عن سُفْيَانَ عن صالحٍ _مولى التَّوْأَمَة_ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: ((مَن لم يَدْعُ الله غَضِبَ عليه)).
          وروى شُعْبَة عن مَنْصُور عن ذرٍّ، عن يُسَيع الحَضْرَمِيِّ، عن النُّعمان بن بَشِيرٍ، عن رسول الله صلعم قال: ((الدُّعاءُ هو العِبَادةُ)) وقرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فسمَّى الدعاءَ عبادةً، وروى الأوزاعيُّ عن الزُّهريِّ عن عُرْوَةَ عن عائِشَةَ ♦، أنَّه صلعم قال: ((إنَّ اللهَ يحبُّ المُلِحِّينَ في الدُّعاء)).
          فإن قلت: قول أبي الدَّرداء: يكفي مِن الدُّعاء مع العملِ ما يكفي مِن الطعام من الملْحِ، وقيل لسُفْيَانَ: ادعُ اللهَ، قال: إنَّ ترك الذُّنوبِ هو الدُّعاء، مخالفٌ لِمَا جاء في فَضْلِ الإلحاح في الدُّعاء، والأمر بالدُّعاء والضَّراعة إلى الله.
          قلتُ: لا؛ لأنَّ الذي جُبلت عليه النفوس: مَن طلبَ حاجةً ممَّن هو ساخِطٌ عليه لأمرٍ تقدَّمَ منه استوجب به سخَطَهُ، أنَّه بالحِرْمان أولى، ممَّن هو عنه راضٍ لطاعته له واجتنابه سخَطَهُ فإذا علم مِن عبدِهِ المطيعِ له حاجةً إليه كَفَاهُ اليسيرَ مِن الدعاء.
          فإن قلت: فما علامة الإجابة؟
          قلتُ: روى شَهْرُ بن حَوْشَبِ أنَّ أمَّ الدَّرداء قالت له: يا شَهْرُ، إنَّ شَفَقَ المؤمن في قلبه كَسَعَفةٍ أحرقْتَها في النَّار، ثمَّ قالت: يا شَهْرُ، أَلَا تَجِدُ القَشْعَرِيرةَ؟ قلت: نعم قالت: فادعُ اللهَ فإنَّ الدُّعاء يُستجاب عند ذلك، وروى ابن وَهْبٍ، عن ابن لَهِيعةٍ، عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخيرِ أنَّه سمع أبا رُهْمٍ السَّمَاعيِّ يقول: ما يشعرُ به عند الدُّعَاءِ العُطَاسُ.
          فَصْلٌ: فإن قلت: فما معنى قوله: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) وقد قال الله تعالى للنَّاس كافَّةً: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فعمَّ كلَّ الدُّعاء، وهذا وعدٌ مِن الله لعبادِهِ وهو لا يُخلفُ الميعاد، وإنَّما خصَّ كلَّ نبيٍّ بدعوةٍ واحدةٍ مستجابةٍ فأينَ فَضْلُ دَرَجةِ النُّبوَّةِ؟ قيل: ليس الأمر كما ظننتَ / ولا تدلُّ الآية على أنَّ كل دعاءٍ مستجابٌ لداعيهِ، وقد قال قَتَادَةُ: إنَّما يُستجاب مِن الدعاء ما وافق القَدَر، وليس الحديث مما يدلُّ أنَّه لا يُستجاب للأنبياء إلَّا دعوةٌ واحدةٌ، وقد أُجيبت لسيِّدِنا رسول الله صلعم دعواتٌ بأسانيدَ ثابتةٍ كما سلف [خ¦1982]، ومنها دعاؤه على المشركين بسبعٍ كسبع يُوسُفَ، ودعاؤه على صناديدِ قُرَيشٍ المعاندين له فقُتلوا يوم بدرٍ، وغير ذلك ممَّا يَكْثُرُ إحصاؤه ممَّا أُجيب مِن دعائه، بل لم يبلغنا أنَّه رُدَّ مِن دعائه إلَّا سؤالُه ألَّا يجعل بأسَ أُمَّتِهِ بينهم خاصَّةً كما سلف [خ¦3176] لِمَا سبق في أمَّ الكتاب مِن كون ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
          فَصْلٌ: قد سلف معنى قوله: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) وعبارة ابن بطَّالٍ: يريد أنَّ لكلِّ نبيٍّ دعوةً عند الله مِن رفيع الدَّرجة، وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبَّ مِن الأمور، ويبلِّغه أُمنيَّتَهُ فيدعو في ذلك وهو عالمٌ بالإجابة، على ما ثبت عنه أنَّ جبريلَ قال: ((يا محمَّدُ إن أردت أن يحوِّلَ اللهُ لك جبالَ تِهَامَةَ ذَهَبًا فَعَلَ))، وخيَّره الله بين أن يكون نبيًّا عبدًا أو نبيًّا ملكًا فاختار الآخرةَ على الدُّنيا، وليست هذِهِ الدَّارُ لأحدٍ مِن النَّاس، فإنَّما أُمرنا بالدُّعاء راجين الإجابةَ غيرَ قاطعين عليها ليقفوا تحت الرَّجاء والخوف.
          فَصْلٌ: وفي هذا الحديث بيانُ فضيلةِ نبيِّنَا صلعم على سائر الأنبياء _صلوات الله وسلامه عليهم_ حين آثر أمَّتَهُ بما خصَّه اللهُ به مِن إجابة الدَّعوة بالشَّفاعة له، ولم يجعل ذلك في خاصَّةِ نفسه وأهلِ بيتهِ، فجزاه الله عن أمَّتِهِ أفضلَ الجزاءِ، وصلَّى عليه أطيبَ الصَّلاة، كما وصفَهُ الله {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].