التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحور العين وصفتهن

          ░6▒ (بابُ: الحُورِ العِينِ، وَصِفَتِهِنَّ يحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ، شَدِيدَةُ سَوَادِ العَيْنِ، شَدِيدَةُ بَيَاضِ العَيْنِ: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] أَنْكَحْنَاهُمْ).
          2795- ثُمَّ ساق حديثَ أبي إسحاقَ عن حُمَيْدٍ عن أنسٍ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى).
          2796- (وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قيدٍ _يَعْنِي سَوْطَهُ_ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلأتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا).
          الشَّرح: القطعة الأولى أخرجها مسلمٌ، ومِنْ عند قوله: (وَلَقَابُ...) إلى آخره مِنْ أفراد البُخاريِّ. ومعنى قوله: (يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ) يتحيَّر البصرُ فيها لِحُسْنها، يُقال: حَارَ يَحَارُ، وأصله حَيَرَ وليس اشتقاقه مِنِ اشتقاق الحُور كما ظنَّه البُخاريُّ لأنَّ الحُور مِنْ حَوَر، والحِيرة مِنْ حَير، / نبَّه عليه ابن التِّيْنِ، واللُّغة تساعده.
          وقول البُخاريِّ: شَدِيدَةُ سَوَادِ العَيْنِ وَبَيَاضِهَا، زادَ غيره: إذا كانتْ بيضاءَ وأصل الحَوَر البياضُ، وَكذلك قيل لنساء الحاضرة: الحَوَارِيَّات لبياض ألوانهنَّ وثيابهنَّ، إلَّا أنَّ العرب لا تستعمله إلَّا للبيضاء الشَّديدةِ سوادِ الحدقة في شدِّة بياضها، قالَ ابنُ سِيْدَهْ في «محكَمه»: الحَوَر هُو أن يشتدَّ بياضُ بياضِ العين وسوادُ سوادِها وتستديرَ حدقتُها وترقَّ جفونُها ويبيضَّ ما حوالَيها، وقيل: الحَوَر: شدَّة سواد المُقلة في شدَّة بياضها في شدَّة بياض الجسد، ولا تكون أدماءُ حوراءَ، وقال أبو عمرَ: والحَوَر: أنْ تسودَّ العينُ كلُّها مثلَ الظِّباء والبقر، وليس في بني آدمَ حورٌ، وإنَّما قيل للنِّساء: حُور العيون لأنَّهنَّ يُشبَّهن بالظِّباء والبقر، وقال كراعٌ: الحَوَرُ: أنْ يكون البياض محْدِقًا بالسَّواد كلِّه، وإنَّما يكون هذا في البقر والظِّباء ثُمَّ يُستعار للنَّاس، وهذا إنَّما حكاه أبو عُبيدٍ في البَرَجِ غير أنَّه لم يقل: إنَّما يكون في الظِّباء والبقر، وقال الأصمعيُّ: لا أدري ما الحَوَرُ في العَين؟ وقد حَوِرَ حَوَرًا واحْوَرَّ، وهو أَحْوَرُ، وامرأةٌ حَوْرَاءُ وعينٌ حَوْرَاءُ، والجمع حُورٌ، فأمَّا قوله:
عَيْنَاءُ حَوْرَاءُ مِنَ العِينِ الحِيرْ
          فعلى الإِتْباع لعِينٍ، والحَوراءُ: البيضاء لا يقصد بذلك حَوَرُ عَيْنِها، والأعرابُ تُسمِّي نساءَ الأمصار حَواريَّاتٍ لبياضهنَّ وتباعُدِهنَّ عن قَشَف الأعرابيَّة بنظافتهنَّ، وقد سلف.
          ويُحتمل أنَّ البُخاريَّ أراد أنَّ الطَّرْفَ يَحار فيهنَّ ولا يهتدي سبيلًا لفَرْط حُسْنِهنَّ، لا أنَّه أراد الاشتقاق، فلأنْ كان كذلك فلا إيراد، و(الْعِيْنِ) قال الضَّحَّاك: هي الواسعة العَيْنِ واحدها عَيْنَاءُ، وذكر العلماء أنَّ الحُورَ على أصنافٍ مصنَّفةٍ صغارٍ وكبارٍ، وعلى ما اشتهت نفسُ أهل الجنَّة، وذكر ابن وهبٍ عن محمَّد بن كعبٍ القُرَظيِّ أنَّه قال: والَّذي لا إله إلَّا هو لو أنَّ امرأةً مِنَ الحُور أَطْلَعتْ سوارًا لها لأطفأ نورُ سوارها نورَ الشَّمس والقمر، فكيف المُسَوَّرة؟! وإنْ خلق الله شيئًا تلبسه إلَّا عليه مثلُ مَا عليها مِنْ ثيابٍ وحُلِيٍّ، وقال أبو هريرة: إنَّ في الجنة حوراءَ يُقال لها العيناءُ إذا مشت مشى حولها سبعون ألفَ وصيفةٍ عن يمينها، وعن يسارها كذلك، وهي تقول: أين الآمرون بالمعروف والنَّاهون عن المنكر؟ وقال ابن عبَّاسٍ: في الجنَّة حوراءُ يُقال لها العَيِّنة لو بزَقت في البحر لعَذُب ماؤه.
          وقال _◙_: ((رأيتُ ليلةَ الإسراءِ حوراءَ جَبِيْنُها كالهلالِ، في رَأْسِها مئةُ ضَفِيْرةٍ، مَا بينَ الضَّفِيْرةِ والضَّفِيْرةِ سبعونَ ألفَ ذؤابةٍ، والذَّوائبُ أَضْوَأُ مِنَ البدرِ، وخَلخَالها مُكَلَّلٌ بالدُّرِّ، وصنوفِ الجواهر، عَلى جبينها سطران: مكلَّلٌ بالدُّرِّ والجوهر، في الأوَّل: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وفي الثَّاني: مَنْ أراد مثلي فليعمل بطاعة ربِّي _╡_ فقال لي جبريلُ: هَذِهِ وأمثَالُها لأمَّتك)).
          وقال ابن مَسعودٍ: إنَّ الحوراءَ لَيُرى مخُّ ساقها مِنْ وراء اللَّحم والعَظم ومِنْ تحتِه سبعون حُلَّةً كما يُرى الشَّراب في الزُّجاج الأبيض، ورُوي أنَّه _◙_ سُئِل عن الحُور مِنْ أيِّ شيءٍ خُلِقْنَ؟ فقال: ((مِنْ ثلاثة أشياءَ أسفلُهنَّ مِنَ المسك، وأوسطُهنَّ مِنَ العنبر، وأعلاهنَّ مِنَ الكافور، وحواجبُهنَّ سوادُ خطٍّ في نورٍ)) وفي لفظٍ: ((سألت جبريلَ عن كيفية خلقهنَّ، فقال: يخلقُهنَّ ربُّ العالمين مِنْ قُضبان العنبر والزَّعفران، مضروباتٌ عليهنَّ الخيامُ، أوَّل ما يُخلق منهنَّ نهدٌ مِنْ مسكٍ أذفرَ أبيض عليه يلتئم البدنُ)). وقال ابن عبَّاسٍ: ((خُلقت الحوراء مِنْ أصابع رجليها إلى ركبتيها مِنَ الزَّعفران، ومِنْ ركبتيها إلى ثديها مِنَ المسك الأذفر، ومِنْ ثديها إلى عنقها مِنَ العنبر الأشهب، ومِنْ عنقها وثَمَّ مِنَ الكافور الأبيض، تلبس سبعون ألف حُلَّةٍ مثل شقائق النُّعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهُها ساطعًا كما تتلألأ الشَّمس لأهل الدُّنيا، وإذا أقبلت تُرى كبدُها مِنْ رقَّة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابةٍ مِنَ المسك، لكلِّ ذؤابةٍ منها وصيفةٌ ترفع ذيلها)).
          ومَا ذكره في معنى ({زَوَّجْنَاهُمْ}... أَنْكَحْنَاهُمْ) سيأتي الكلام عليه في بابه [خ¦4820].
          وقِيْد الرُّمْح: قدرُه وقَيْسُه، والنَّصِيْفُ: الخمار قاله صاحب «العين»، قال النابغة:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ                     وَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِاليَدِ
          وقيل: الْمِعْجَر ذكره الهرويُّ.
          فائدةٌ أسلفنا بعضها: قال الأزهريُّ في «تهذيبه» عن النَّضْر: الشَّهيد: الحيُّ، وقال ابن الأنباريِّ: سُمِّي لأنَّ الله وملائكته شهودٌ له بالجنَّة، وقيل: لأنَّه يشهد يوم القيامة مع نبيِّنا على الأمم الخالية، وقال الكسائيُّ: أشهد الرَّجل: إذا استُشهد في سبيل الله فهو مُشهَد بفتح الهاء، وقيل: لأنَّ أزواجهم أُحضرت دار السَّلام وأزواج غيرهم لا تشهدها إلى يوم القيامة، وقال في «الجامع»: العرب تكسر الشِّين، وذلك إذا كان يأتي فعيل حرف حلقٍ، ومنهم مَنْ كسر وإن لم يكن حرف حلقٍ، وقال في «المغيث»: سُمِّي شهيدًا لسقوطه بالأرض وهي الشَّاهدة، وقيل: لأنَّه يبيِّن ما به وأخلاقه ببذله روحه في الطَّاعة مِنْ قوله: {شَهِدَ اللهُ} أي: بَيَّن وأخبر وأعلم، وقيل: لأنَّه يشهد عند ربِّه، أي: يحضُر، أو لأنَّه يشهد الملكوت، / فعيلٌ بمعنى مفعولٍ.
          فائدةٌ أخرى: قال المهلَّب: إنَّما ذكر حديث أنسٍ في الباب لأنَّ المعنى الَّذي يتمنَّى الشَّهيد مِنْ أجله أن يرجع إلى الدُّنيا فيُقتل هو لما يرى ما يُعطي الله الشهداءَ مِنَ النَّعيم ويرزقه مِنَ الحور العين، وكلُّ واحدةٍ منهنَّ لو اطَّلَعَت إلى الدُّنيا لأضاءت الدُّنيا كلُّها ليستزيد مِنْ كرامة الله وتنعيمه وفضله، وفي ذلك حضٌّ على طلب الشَّهادة وترغيبٌ فيها.