التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الذبائح والصيد

          ░░72▒▒ كتابُ الصَّيْدُ والذَّبَائِحُ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الصيْدِ.
          ░1▒ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إلى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94]. / وقولِه تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاخْشَوْنِ} [المائدة:1-3] وقال ابن عبَّاسٍ: العُقُود العُهُود، ما أَحَلَّ وحرَّمَ {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة:1] الخنزير. {يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة:2]: يَحْمِلَنَّكُمْ، {شَنَآنُ} [المائدة:2]: عَدَاوَةُ {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة:3]: تُخْنَقُ فَتَمُوتُ، {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3]: تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا أهلُها فَتَمُوتُ، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة:3]: تَتَرَدى مِنَ الجَبَلِ، {وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3]: تُنْطَحُ الشَّاةُ، فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ.
          5475- ثُمَّ ساقَ حديث عَدِيِّ بن حاتمٍ ☺: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلعم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، قَالَ: (مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهْوَ وَقِيذٌ)، وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ، فَقَالَ: (مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْه، فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْبِ ذَكَاته، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ _أَوْ كِلاَبِكَ_ كَلْبًا غَيْرَهُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ _وَقَدْ قَتَلَهُ_ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ أَوْ كِلَابِكَ وَلَمْ تَذْكُرْ عَلَى غَيْرِهِ).
          الشَّرح: هذا الحديث سلف في البُيُوع [خ¦2054] ويأتي في التوحيد [خ¦7397]، وكرَّره هنا مَتْنًا وأخرجه باقي الجماعة، ولَمَّا ذكَرَ مالكٌ الآية الأوَّلى قال: كلُّ ما تناولَهُ الإنسان بيده أو برُمَحهِ أو بشيءٍ مِن سلاحهِ فأنفذَهُ وبَلَغ مَقَاتِلَهُ فهو صَيْدٌ.
          قال مُجَاهِدٌ: والذي تنالهُ الأيدي الفِرَاخ والبَيْض، والذي تناله الرِّماح ممَّا كان كبيرًا فاستدلَّ بهذه الآية على إباحة الصَّيد وعلى منعِهِ.
          والأنعام: الإبلُ والبقرُ والغنمُ، وقال قَابُوس بن أبي ظَبْيَانَ: ذَبحنا بقرةً، فأخذَ الغِلْمان مِن بطنها ولدًا ضَخْمًا قد أشعَرَ فَشَووه ثمَّ أتوا به أبا ظبَيْانَ فقال: أخبرنا ابن عبَّاسٍ _☻_ أنَّ هذا {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}. والأوَّل أبينُ؛ لأنَّ بعدَهُ {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة:1] وليس في الأجنَّةِ ما يُسْتثنى، وقِيل لها بهيمةٌ لأنَّها أُبهمت عن التَّميُّز.
          وقولُه: ({وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}) أي: مُحرِمُون، وواحد حُرُم: حَرَام، والشَّعائر: الهَدَايا، أي: مُعلَّمة، وَشَعِيرةٌ بمعنى: مشْعرة، وقال مُجَاهِدٌ: {شَعَائِرَ اللهِ}: الصَّفا والمَرْوَة والحَرَم. فالمعنى على هذا: لا تُحِلُّوا الصَّيد في الحرم، والتقدير: لا تُحِلُّو لأنفسكم شَعَائِرَ الله. فمَن قال: هي: البُدْنُ، فالآية عنده منسوخةٌ، قال الشَّعْبِيُّ: ليس في المائدة آيةٌ منسوخةٌ إلَّا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ} [المائدة:2] وقال قَتَادَةُ: نَسَخَتها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] وكانوا مُنعوا مِن قِتَالهم في الشَّهر الحرام، وإذا كانوا آمِّينَ البيت الحَرَام.
          وقولُه: ({وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}) هو رَجَبٌ.
          وقولُه: ({وَلَا الْهَدْيَ}) واحد الهَدْيِ: هَدْيَة مثل: تَمْرة وتَمْر.
          وقولُه: ({وَلَا الْقَلَائِدَ}) قال الضَّحَّاك وعَطَاءٌ: كانوا يأخذون مِن شَجَر الحَرَم، فلا يقربُون إذا زُوي عليهم.
          وقولُه: ({يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [الحشر:8]) قال مُجَاهِدٌ: الأجرُ والتِّجارةُ.
          وقولُه: ({وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}) أمرٌ بعد حَظْرٍ وليس بحتْمٍ.
          وقول ابن عبَّاسٍ: (العُقُودُ...) إلى آخرِه. أخرجه إسماعيلُ بن أبي زِيَادٍ الشَّاميُّ في «تفسيرِه» عنه، وقد فسَّر {يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:2] على العداوى، وقرأ الأعمشُ بضمِّ الياء، وتُقرأ ((شنئان)) بفتح النون وسكونها، وأنكرَ السُّكون مَن قال: لا يكون المصدر على فعلان.
          وقولُه: ({حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}) هو بسكون الياء وتشديدها، قال فريقٌ مِن اللُّغويين: هما بمعنًى. وقِيل: الْمَيْتَة: التي ماتت والْمَيِّتَة: التي لم تَمُت بعدُ.
          ورُوي أنَّهم كانوا يجعلون الدَّم في المَبَاعر ثمَّ يَشْوونها ويأكلونها، فحرَّم الله تعالى الدَّمَ المسفُوحَ: وهو المصْبُوبَ. وقد فسَّر ({الْمُنْخَنِقَةُ}): وكذا {الْمَوْقُوذَةُ} فقال: وَقَذَهُ وأوقذَهُ، والمَوْقُوذَةُ مِن: وَقَذَهُ، وقولُه: (بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا). مِن: أَوْقذ.
          وقولُه: ({وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}) أي: افترسَهُ فأكلَ بعضَهُ، وقرأ الحَسَن بإسكان الباء؛ استثقالًا للضمَّةِ، وهي قراءة حفص عن عاصمٍ.
          وقولُه: ({إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}) أصل التَّذْكية في اللُّغة: التَّمام، واختُلِف في هذا الاستثناء فقِيل: معناه إلَّا ما أدركتم مِن هذه المسمَّيات ذَكَاتَه فَذَكَّيْتُمُوه، وقال الشَّافِعيُّ: يؤكَلُ. وقال القاضي إسماعيلُ: معنى الآية: لكن ما ذَكَّيْتُم مِن غير هذه المذكورات فهو حلالٌ، وقال: مثل قوله تعالى: {طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1-3].
          فَصْلٌ: الاصطيادُ مباحٌ لمن اصطادَ للاكتساب والحاجة والانتفاع بالأكْلِ أو الثَّمنِ، واختُلِف فيمَن صاده للهو وتمكَّن مِن قَصْد تَذْكِيته والإباحة والانتفاع، فكَرِهه مالكٌ وقال: إن كان مِن شأنِه الصَّيد للذَّةٍ يجوز شهادتُه إن كان لم يُضَيِّع فريضةً وشبهها.
          وأجازه اللَّيث وابن عبد الحكم، فإن فَعَلَه بغير نِيَّة التَّذكية فهو حَرَامٌ؛ لأنَّه فسادٌ في الأرض وإتلافُ نفسٍ عبثًا، وقد نهى ◙ عن قَتْلِ الحيوان إلَّا لمَأْكَلَةٍ، ونهى أيضًا عن الإكثار مِن الصَّيد، ففي حديث ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((مَن سَكَن الباديةَ فقد جَفَا، ومَن اتَّبع الصيد غَفَلَ، ومَن لَزِمَ السُّلْطَان افتتنَ)). أخرجه التِّرْمِذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ. وأعلَّه الكَرَابيسيُّ بأبي مُوسَى أحد رُواته وقال: حديثه ليس بالقائم.
          وروي أيضًا مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ ☺ بإسنادٍ ضعيفٍ. وروي أيضًا مِن حديثِ البراء بن عازِبٍ، قال الدَّارقطنِيُّ: تفرَّد به شَرِيكٌ.
          فَصْلٌ: حديث عَدِيٍّ هذا أخرجه هنا عن أبي نُعَيمٍ: حَدَّثَنا زكَرَيَّا، عن عَامِرٍ، عنه، وسلف في الطَّهارة [خ¦175]، في باب الماء الذي يُغسل به شَعَر الإنسان، وفي أوائل البُيُوع في باب تفسير المُشَبَّهاتِ [خ¦2054] مِن حديثِ شُعْبَةَ، عن ابن أبي السَّفَر، عن الشَّعْبِيِّ، عنه، ثُمَّ ذكرَه مِن حديثِ بيانٍ عن الشَّعْبِيِّ بلفظ: ((وإذا أرسلتَ كِلَابكَ المُعَلَّمَة وذكرت اسم الله فكُلْ)).
          واعترض ابن المنيِّر فقال: ليس في الذي ذَكَرَهُ تعرُّض المترجم لها إلَّا آخر الحديث، فعدَّهُ بيانًا لِمَا أجملتْهُ الأدِلَّة مِن التسمية، وكذلك أدخل الجميع تحت الترجمة، وعند أهل الأُصُول نظرٌ في المجمَلِ إذا اقترنت قرينَةٌ لفظيَّةٌ مبيِّنةٌ هل يكون الدليل المجمَل معها أو إيَّاها خاصَّةً.
          وذكره البُخارِيُّ بألفاظٍ أُخرَ ستأتي. ولمُسْلِمٍ: ((كُلْ ما خَزَقَ، وإذا أرسلتَ كلبكَ، فإن أَمْسَكَ عليك فأدركتَهُ حيًّا فاذبحهُ، وإن أَدْرَكْتَه قد قَتَل ولم يأكُلْ منه فَكُلْه، وإن وجدتَ مع كلبكَ كلبًا غيرَه وقد قَتَلَ: فلا تَأكُل)). وذكره الإسْمَاعيلِيُّ مِن طُرقٍ منها: طريق يحيى بن سَعِيدٍ، عن زكريَّا بن أبي زَائِدَةَ؛ حَدَّثَنا عامِرٌ، حَدَّثَنا عَدِيٌّ. ثمَّ قال: ذكرتُه لقوله: حَدَّثَنا عامِرٌ، حَدَّثَنا عَدِيٌّ. قال: سألت. الحديث.
          وذكره الطَّحاويُّ في «اختلاف العلماء» مِن حديثِ سعيدِ بن جُبَيْرٍ، عن عَدِيٍّ: سألتُ رسول الله صلعم فقلت: إنَّا أهل صَيدٍ، يَرْمِي أحدُنا الصَّيدَ فيغيبُ عنه / الليلة والليلتين، ثمَّ يَجِد أثرَهُ بعدما وضح، فيجِدُ فيه سَهْمًا. قال: ((إذا وجدتَ سَهْمكَ فيه ولم تَجِد به أثرَ سَبُعٍ، وعَلِمتَ أنَّ سَهْمكَ قَتَله فَكُلْ منه)). ولأبي داودَ: ((إذا رميتَ بِسَهْمكَ فَوَجَدته مِن الغدِ ولم تَجِده في ماءٍ ولا فيه أثرٌ غير سَهْمك)). وفي لفظٍ: ((ما علَّمتَ مِن كَلْبٍ أو بازٍ فَكُل ممَّا أَمْسَكْنَ عليك))، قلت: وإن قَتَلَه قال: ((إذا لم يأكُلْ منه شيئًا فإنَّما أَمْسِكْهُ عليك)). وفي لفظٍ: أحدنا يَرْمي الصَّيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثمَّ يجده ميِّتًا وفيه سهمُهُ أيأكل؟! قال: ((نعم إن شاء)).
          ولابن وَهْبٍ في «مُسنده» _بإسنادٍ لا بأس به_ قلت: يا رسول الله، إنَّ أحدنا يَصِيدُ الصَّيد ولم يكن معه شيءٌ يُذكِّيه به إلَّا مَرْوةٌ أو شَقَّةُ عصاةٍ، فقال: ((أَمِرَّ الدَّم بما شئت واذكُرْ اسم الله تعالى)). ولابن مَنِيعٍ البَغَويِّ في «معجمه»: مِن حديثِ الأعمش، عن إبراهيمَ، عن عَدِيٍّ: قال لي رسول الله صلعم: ((إذا رميتَهُ بِسَهْمكَ وسمَّيت فَخَزَق فكُلْ، وإن لم يَخزِق فلا تأكل، ولا تأكل مِن البُنْدُقةِ إلَّا ما ذكَّيتَ، ولا يأكل مِن المِعْرَاضِ إلَّا ما ذَكَّيتم))، ولابن أبي شيبة في «مصنَّفه»: ((إن شَرِب مِن دمهِ فلا تأكُلْ، فإنه لم يعلَّم ما علمتَّه))، ومِن حديثِ مُجَالدٍ عن عامرٍ عنه: سألتُ رسول الله صلعم عن صيد البازي فقال: ((ما أَمْسَكَ عليك فَكُل)).
          فَصْلٌ: اختلف العلماء في التسمية على الصَّيد والذَّبِيحة: فرُوي عن نافعٍ مولى ابن عُمَرَ ومُحَمَّد بن سِيرينَ، والشَّعْبِيّ أنَّها فريضةٌ، فمن تركها عامدًا أو ساهيًا لم تُؤكَل، وهو قول أبي ثورٍ وأهل الظَّاهر. وذهب مالكٌ والثَّوريّ وأبو حنيفة وأصحابُه إلى أنَّه إن تركَها عامدًا لم تُؤكَل، وإن تركها ناسيًا أُكِلت، قال مالكٌ: هو بمنزلةٍ مَن ذَبَح ونَسِيَ، يأكل ويُسَمِّي.
          قال ابن المنذر: وهو قول ابن عبَّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ وابن المسيِّب والحَسَن بن صالحٍ وطَاوُسٍ وعَطَاءٍ والحَسَن البَصْريِّ والنَّخَعِيِّ وابن أبي ليلى وجعفرِ بن مُحَمَّدٍ والحكم ورَبِيعة وأحمد وإسحاق.
          ورواه في «المصنَّف» عن الزهريِّ وقَتَادَة، وقال أشهبُ: إن لم يتركْها استخفافًا أُكِلَت. وقال عيسى وأصبغُ: هي حرامٌ عند العَمْد. وقال الشَّافِعيُّ: يؤكلان عَمْدًا ونِسْيانًا. رُوي ذلك عن أبي هُرَيْرَةَ وابن عبَّاسٍ وعَطَاءٍ. وقال ابن عبَّاسٍ: لا يضُرَّك، إنَّما ذبحتَ بِدِينكَ.
          وعن أحمدَ روايةٌ _وهي المذهب كما قال في «المغني» _ أنَّها شرطٌ إن تركها عَمْدًا أو سَهْوًا فهو مَيْتةٌ. ورواية: إنْ تركها على إرسال السَّهم ناسيًا أكَلَ، وإن تركها على الكَلْب أو العَمْد لم تؤكل. وقال ابن المنذر: التسمية على الذَّبْح والصَّيد واجبةٌ بدِلالة الكتاب والسُّنَّة.
          واحتجَّ أصحاب الشَّافِعيِّ بأنَّ المجوسيَّ لو سمَّى الله لم يَنْتَفع بتسميتِه لأنَّ المُراعَى دِينُه، وكذا المسلمُ إذا تركَها عامدًا لا يضرُّهُ لأنَّ المُراعَى دِينُه، وبهذا قال سعيدُ بن المسيِّب وعَطَاءٌ وابن أبي ليلى كما نقله ابن بطَّالٍ، وكان الأَبْهَرِيُّ وابن الجَهْم يقولان: إنَّ قول مالكٍ أنَّ مَن تعمَّد ترك التسمية لم تؤكل كراهةً وتنزيهًا، ووافقهما ابن القصَّار.
          واستدلَّ ابن القصَّار على عدم وجوبها بقولِه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فأمر بأكل ذلك، ثمَّ عطف على الأكل بقولِه: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] والهاء في {عَلَيْهِ} ضمير الأكل، لأنَّه أقربُ مذكورٍ، لا يُقَال: الهاء في {عَلَيْهِ} عائدةٌ على الإرسال إذ لو كانت شرطًا لَذُكِرت قبلَه ولم يذكرها بعده، ولَمَا قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] وقال تقدَّم الأكل: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ}، لم يخلُ أن يريد بالتسمية على الإمساك الذي قد حصل، فإذا أَمْسَك علينا حينئذٍ سمَّى، أو يريد التسميةَ على الأكل فبطَلَ أن يريد بالتسمية بعد الإمساك علينا مِن غير أكلٍ لأنَّه ليس بقولٍ لأحد؛ لأنَّ النَّاس على قولين: إمَّا أن تكون التسمية قبل أو عند الأكل، وإنَّما أمر الله تعالى بنسخِ أمر الجاهليَّة التي كانت تُذكَر اسم طواغيتها على صيدِها وذبائحِها.
          وقد روى مالكٌ عن هِشَام بن عُرْوةَ عن أبيه قال: سُئِل رسول الله صلعم فقيل: يا رسول الله: إنَّ ناسًا مِن أهل البادية يأتوننا بلُحمان، لا ندري أَسَمُّوا الله عليها أم لا؟ فقال ◙: ((سَمُّوا الله عليها وكُلُوا))، وسيأتي في البُخارِيِّ [خ¦7398] مِن حديثِ أسامة بن حفصٍ، عن هِشَامٍ، عن أبيه، عن عَائِشَة ♦.
          واحتجَّ مَن أوجبها بحديث الباب، حيث علَّل له بأن قال: إنَّما سمَّيت على كلبك ولم تُسمِّ على غيرِه، فأباح أكل الصَّيد الذي يَجِد عليه كلبهُ لأنَّه ذَكَرَ الله عليه، فدليله أنَّه إذا لم يُسَمِّ فلا يأكل. أجاب المخالف أنَّا إنْ قلنا بدليل الخطاب فإنَّا نقول: إن لم يُسَمِّ فلا يأكل؛ كراهيةً وتنزيهًا لِمَا أسلفناه من الأدلَّةِ.
          واحتجَّ أيضًا بالآية، ومِن المعنى: أنَّه شيءٌ قد ورَدَ الشَّرع فيه أنَّه فِسْقٌ يجب تحريمُه، أصلُهُ سائر الفُسُوق، وجوابُه: أنَّ المراد به {مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} [المائدة:3]. احتجَّ أصحاب الشَّافِعيِّ بقولِه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] إلى قولِه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] فأباح المذكَّى ولم يذكر التسمية.
          فإن قلتَ: لا يكون مذكًّى إلَّا بالتسمية. قلتُ: الذَّكَاة في اللُّغة: الشَّقُّ، وقد وجد.
          وقال ابن حَزْمٍ: احتج المالكيُّون والحنفيُّون بما رُوِّينا مِن جهةِ سعيد بن منصورٍ: حَدَّثَنا عيسى بن يُونُس: حَدَّثَنا الأحوصُ بن حَكِيمٍ، عن راشِدٍ، عن النَّبِيِّ صلعم قال: ((ذبيحةُ المسلمِ حلالٌ وإن لم يُسَمِّ إذا لم يتعمَّد)) وهو مُرسَلٌ، والأحوص ليس بشيءٍ، وراشدٌ ضعيفٌ. وبخبٍر آخر مِن جهةِ وكيعٍ، حَدَّثَنا ثورٌ الشَّاميُّ، عن الصَّلْت _مولى سُوَيْدٍ_ قال رسول الله صلعم: ((ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن نَسِي أن يذكر الله))، وهذا مُرسَلٌ والصَّلْت مجهولٌ. واحتجَّوا بقولِه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] وقال ◙: ((رُفِع عن أُمَّتِي الخطأ والنِّسيان)).
          فَصْلٌ: قال ابن المنذر: وثبتَ أنَّ رسول الله صلعم كان يقول إذا ذبَحَ: ((باسم الله والله أكبر)) قال ابن المنذر: وكان ابن عُمَرَ يقول ذلك، وبه قال أحمدُ وأصحاب الرأي، وقال اللَّيثُ: لا يذكر أحدًا ولا يُصَلِّي على رسول الله صلعم، وأنكر الشَّافِعيُّ ذلك وقال: لا أرى بأسًا أن يُصَلِّي.
          فَصْلٌ: سؤال عَدِيٍّ يحتمل أن يكون لمعرفة طلب الحُكم قبل الإقدام / عليه، وقد قال بعضُ أهل العِلْم: لا يجوز الإقدام على الفعل إلَّا بعد معرفة الحُكم. ويحتمِلُ أن يكون عَلِم أصل الإباحة، وسأل عن أمورٍ اقتضت عنده الشكَّ في بعض الصُّور أو قيامِ مانعٍ مِن الإباحة التي عَلِم أصلها.
          فَصْلٌ: اختلف العلماء في ذَكَاة ما سلف في الآية مِن المتردِّيَة والنَّطِيحة والمَوْقُوذة والمُنْخَنِقة. فَذُكِر ابن حبيبٍ عن ابن الماجِشُون وابن عبد الحكم أنَّ ما أصاب هذه مِن نَثْر الدِّماغ والحَشْوة أو قَرْض المصران أو شقِّ الأَوْدَاجِ وانقطاع النُّخَاع فلا يؤكلُ وإن ذُكِّيت، فأمَّا كسْرُ الرأس ولم يُنثر الدِّماغ أو شقَّ الجوفَ ولم تَنْتَثِر الحَشْوةُ ولا انشقَّ المُصْرَان أو كُسِر الصُّلب ولم ينقطع النُّخَاع، فهذه تؤكَل إن ذُكِّيت إن أدرك الرُّوح فيها ولم تزهق أنفسها، فإن لم يكن مِن هذه المَقَاتل شيءٌ ويَئِس لها مِن الحياة، وأشكَلَ أمرُها فذُبحت فلا تُؤكَل وإن طرَفَت بعينِها واستفاض نفسُها عند الذَّبْح، وقد كان أصبغ وابن القاسم يُحِلَّان أكلَها ولا يَرَيَان دقَّ العُنُق مقتلًا حتَّى ينقطِعَ النُّخَاع، قالا: وهو المخُّ الأبيضُ الذي في داخل العُنُق والظَّهْر، وليس النُّخَاع عندنا إلَّا دقَّ العُنُق وإن لم ينقطِع المخُّ. كذلك قال ابن الماجِشُون ومُطَرِّفٌ عن مالكٍ، قال ابن حبيبٍ: وأمَّا انكسار الصُلب ففيه يحتاج إلى انقطاع المُخِّ الذي في الفَقَار، فإن انقطع فهو مَقْتلٌ وإن لم ينقطِعَ فليس بمقتلٍ، لأنَّه قد يبرأَ على حَدَثٍ ويعيش، وقال أبو يُوسُف والحَسَن بن حيٍّ بقول ابن الماجِشُون وابن عبد الحكم قالا: إذا بلغ التردِّي وشِبهه حالًا لا تعيش مِن مِثله لم تُؤكَل وإن ذُكِّيت قبل الموت.
          واحتجَّ ابن حبيبٍ لهذا القول فقال: تأويل قولِه تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] يعني: في الحياة القائمة فمات بتذكيتكم إلَّا في حال اليأس منها؛ لأنَّ الذَّكَاة لا تقع عليها وإن تحرَّكت؛ لأنَّ تلك الحركة إلى الموت مِن الذي قد سبق إليها لأنَّه هو الذي أماتها، فأجرى الشَّفرة عليها وتلك حالها لا يُحِلُّها ولا يُذَكِّيها، كما أنَّ المذبوحة التي قد قطَعَتِ الشَّفرةُ حُلْقومَها وأَوْدَاجها إذا سقط عليها جدارٌ قبل زهقِ نفسها أو أصابها غرقٌ أو تردِّي لا يضرُّها ولا يحرِّمها؛ لأنَّ الذي سبق إليها مِن التَّذكية قبل التردِّي أو غيره هو الذي أماتها وأقامها.
          وفيها قولٌ آخر: روى الشَّعْبِيُّ، عن الحارث عن عليٍّ ☺ قال: إذا أدركتَ ذَكَاة المَوْقُوذَةِ والمتردِّية والنَّطِيحَةِ، وهي تحرِّكُ يدًا أو رِجْلًا فَكُلْها.
          وعن ابن عبَّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ ☺ مثلُه، وإليه ذهب النَّخَعِيُّ والشَّعْبِيُّ وطَاوُسٌ والحَسَنُ وقَتَادَةُ وأبو حنيفة والثَّوريُّ، وقالوا: تُدرَك ذَكَاتُه وفيه حياةٌ ما كانت، فإنَّه ذَكِيٌّ إذا ذُكِّيَ قبل أن يموت. وهو قول الأوزاعيِّ واللَّيثِ والشَّافِعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، وعليه الجمهور.
          واحتجَّ له القاضي إسماعيل، وذكر تأويل قَتَادَة وأصحابِه في قولِه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] قالوا: يعني: مِن هذه إذا طَرَفَت بعينِها أو حرَّكت ذَنَبَها أو أُذُنها أو ركَضَت برجْلِها فذكِّ وكُلْ. واحتجَّ بعض الفقهاء بأنَّ عُمَر ☺ كانت جِرَاحته مثقلةً وصحَّت عهودُه وأوامرُه، ولو قتلَهُ قاتلٌ في ذلك الوقت كان عليه القَودُ، قال الطَّحاويُّ: ولم يَخْتَلِفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المُثْقِلَة التي قد تعيشُ معها مدَّةً قصيرةً أو طويلةً أنَّ ذَكَاتها الذَّبْح، فكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردِّيَة ونحوها.
          وقال إسماعيلُ بن إسحاقَ: بلَغَني عن بعض مَن يتكلَّم في الفِقه أنَّ قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] إنَّما هو على ما أكلَه السَّبُعُ خاصَّةً، وأحسبُهُ توهَّم ذلك لأنَّ الاستثناء يلي ما أكل السَّوابع، وإنَّما وقع في الاستثناء على ما ذكر في الآية كما قال قَتَادَة: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي: ولكن ما ذَكَّيْتُم، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُس} [يُونُس:98] يعني: ولكن قومُ يُونُسَ لَمَّا آمنوا كشفنا عنهم، وإنَّما كان أهل الجاهليَّة يأكلون كلَّ ما مات وكُلَّ ما قُتل، فأعلَمَ الله تعالى المُسْلِمين أنَّ المقتولة لا تحِلُّ إلَّا بالتَّذْكِية، وأنَّ المُنْخَنِقَة والمَوْقُوذَة والمُتَرَدِّيَة والنَّطِيحَة وما أَكَلَ السَّبُع حرامٌ كلُّه، وهي لا تُسمَّى مَوقُوذَةً حتَّى تموت بالذي فُعل بها، وكذلك المتردِّية والنَّطِيحَةُ وما أكل السَّبُع، ولو أنَّ متردِّيَةً تردَّت فلم تمُتْ مِن تَردِّيها، أو شاةً عضَّها سَبُعٌ أو أكَلَ مِن لحمِها ولم تَمُت من ذلك، لَمَا كانت داخلةً في هذا الحكم، ولَمَا سُمِّيت أَكِيلةَ السَّبُع لأنَّه لم يقتلْها، وإنَّما تُسمِّي العرب أَكِيلةَ السَّبُع التي قتلَها فأكلَ منها وبقيَ منها، فإنَّ العرب تقول للباقي هذه أَكِيلة السَّبُع فنُهوا عن ذلك الباقي، وأعلموا أنَّ قتْل السَّبُع وغيرُه ممَّا ذَكَر لا يقوم مقام التَّذكية، وإن كان ذلك كلُّه قتلًا؛ لأنَّ في التَّذكية التي أمر الله بها خُصُوصًا في تحليل الذَّبِيحة. وقال أبو عُبَيْدٍ: أَكِيلةُ السَّبُع هو الذي صادَهُ السَّبُع فأكلَ منه وبقي بعضُه، وإنَّما هو فَرِيسةٌ. والنُّصُب: حِجارةٌ حول الكعبة، كان يَذْبَح عليها أهلُ الجاهليَّة.
          فَصْلٌ: في حديث عَدِيٍّ فوائد: أوَّلها: أنَّ قتل الكَلْب المعلَّم ذكاةٌ. ثانيها: أنَّه إذا أكلَ فليس بمعلَّم، وهذا مذهب الشَّافِعيِّ وأبي حنيفةَ كما ستعلمُه. ثالثُها: إذا شكَّ في الذَّكَاة فلا يأكل؛ لأنَّ الأصل أنَّه حرامٌ إلَّا بَذَكَاةٍ، فإذا خالطَ غير كلبه صار في شكٍّ مِن ذَكَاتهِ، وهذا مذهب مالكٍ. رابعُها: أنَّ عدم التسمية يمنع الأكل؛ لتعليلهِ في المنع بقولِه: ((فإنَّما سمَّيت على كلبِكَ ولم تُسمِّ على غيره)). خامسُها: أنَّ محلَّ الآية السالفة {وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] هو أن يُصِيب على الوجه المعتاد وهو حدُّ الرُّمح.
          والمِعْرَاض: خشبةٌ ثقيلةٌ في طرفِها حَدِيدةٌ يُرمَى الصَّيد بها، وقد يكون بغير حَدِيدةٍ، فما أصاب بحدِّه فهو وجهُ ذَكَاةٍ فيُؤكل، وما أصاب بِعَرْضِهِ فهو وَقِيذٌ. وعبارة الهَرَوِيِّ: هو سَهْمٌ لا رِيشَ فيه ولا نَصْل. وقال ابن دُرَيدٍ: هو سهمٌ طويلٌ له أربعُ قُذَذٍ رِقَاق، فإذا رُمِيَ به اعترضَ. وقِيل: هو عُودٌ رقيقُ الطَّرَفين غليظ الوَسَط، فإذا رُمِي به ذهبَ مُسْتَويًا. وقال ابن الجَوزِيِّ: هو نصْلٌ عريضٌ له ثِقَلٌ ورزانةٌ.
          وفي «الموطَّأ» أنَّ القاسم بن مُحَمَّدٍ كان يَكْرَه ما قتل المعراض والبُنْدُقة، لعلَّه يريد بِعَرْضِهِ؛ لأنَّه بيَّنَهُ ◙ في حديث عَدِيٍّ هذا. وقال في «المعونة»: المعارض: خشبةٌ عريضةٌ في رأسها كالزُّجِّ، يُلْقِيها الفارس على الصَّيد، فرُبَّما أصابته الحَدِيدة فَجَرَحت / وأَسَالت دمَهُ فيُؤكل لأنَّه كالسَّيف والرُّمْح، وربَّما أصابتْه الخَشَبةُ فَترِضُّهُ أو تَشْدَخهُ، فيكون وَقِيذًا فلا يؤكلُ، وقال أبو سُلَيْمَانَ: المعارض: نَصْلٌ عريضٌ له ثِقَلٌ ورَزَانةٌ، وكأنَّ ابن الجَوزِيِّ أخذ منه.
          فَصْلٌ: قولُه ◙: (فَإِنَّ أَخْذَ الكلِّبِ ذَكاتُه) قد يُؤخَذ منه أنَّ الكَلْب لا يُشترط في صِفَة تَعْليمِهِ أن لا يأكل، وهو شرطٌ عند أبي حنيفةَ والشَّافِعيِّ خِلافًا لمالكٍ وبقولِه قال سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ وسعدُ بن أبي وَقَّاصٍ وعليٌّ وابن عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ، ومِن التابعين: سعيدُ بن المسيِّب وسُلَيْمَان بن يَسَارٍ والحَسَن والزُّهْرِيُّ وربيعةُ، وهو قول مالكٍ واللَّيثِ والأَوْزَاعيِّ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4]، ومِن القياس: ذَكَاةٌ يُسْتَباح بها الصَّيد، فلا يفسُد بأكلهِ منهِ أصله إذا ذُبِحَ.
          وتعلَّق الأوَّلون بقولِه في الباب الآتي: ((فإن أكلَ فلا تأكُلْ، فإنَّه لم يُمسِكْ عليك إنَّما أَمْسِكَ على نفسِهِ)) قال الأوَّلون: هو عامٌ، فيُحمل على الذي أدركه ميِّتًا مِن الجري أو الصَّدمة يأكلُ منه، فإنَّه قد صار إلى صِفةٍ لا يتعلَّق بها الإرسال والإمساك علينا، فلذلك لم يكن مُمْسِكًا عليه، يوضِّحُه قولُه: (مَا أَمسَكَ عَلَيْكَ فَكُله، فَإِنَّ أَخْذَ الكلِّبِ ذَكاةٌ). والحديث واحدٌ.
          ويُحتمَلُ أن يريد بقولِه: ((فإن أكلَ فلا تأكُلْ)) ألَّا يُؤخَذ منه غير مجرَّد الأكلِ دونَ إرسال الصَّيد، ويكون قوله: ((فإن أكلَ فلا تأكُل)). مقطوعًا ممَّا قبلَه.
          ومعنى: إمساكه علينا _عند القاضي أبي الحَسَن_ أن يُمْسِك بإرسالنا؛ لأنَّ الكلِّب لا نيَّةَ له ولا يصِحُّ منه مَيْزُ هذا، وإنَّما يتقصَّد بالتعليم، فإذا كان الاعتبار بأن يُمسِك علينا وعلى نفسِه، وكان الحكم مختلفًا بذلك وجب أن يتميَّز بذلك بِنِيَّة مَن له نِيَّةٌ وهو مُرسِلُهُ، فإذا أرسلَهُ فقد أمسكَ عليه، وإن لم يُرْسلِه فلم يُمسِكْه عليه.
          وقال ابن حبيبٍ: معنى: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، أي: ممَّا صِدْنَ لكم. وقال القاضي في «شرح الرسالة»: في حديث عَدِيٍّ خِلافٌ لأنَّ هذه اللفظة يقال: ذكرَها الشَّعْبِيُّ ولم يذكر هِشَامٌ وابن أبي مَطَرٍ على أنَّه مُعَارَضٌ بما روى أبو ثَعْلبةَ الخُشَنيُّ أنَّه قال النَّبِيُّ صلعم: ((كُلْ وإن أَكَلَ منه)) أخرجه أبو داود ولم يضعِّفُهُ، فيُحمَل حديث عَدِيٍّ على التنزيه، وحديث أبي ثَعْلبةَ على الجواز؛ قالوا: وكان عَدِيٌّ موسَّعًا عليه فأفتاه بالكفِّ تورُّعًا، وأبو ثَعْلبَةَ كان محتاجًا فأفتاه بالجواز.
          قال أبو الحَسَن: وما كان مِن طريقِ همَّامٍ والشَّعْبِيِّ أثبتُ ممَّا يُروى عن عَدِيٍّ، ولم يُختَلف على همَّامٍ واختُلِف على الشَّعْبِيِّ، وقد قال بعدُ: ((فإنِّي أخافُ أن يكون ممَّا أَمْسَك على نفسهِ)) وهذا عِلَّةٌ فيه.
          قلت: وفي إسناد أبي داودَ: داودُ بن عَمْرٍو الدِّمشْقِيُّ، وثَّقَه يحيى بن مَعِينٍ، وفي رواية الأَزْديِّ: مشهورٌ. وقال أحمد: حديثه مقاربٌ. وقال أبو زٌرعة: لا بأس به. وقال ابن عَدِيٍّ: لا أرى بروايته بأسًا. وقال أبو داودَ: صالحٌ. وقال أبو حاتمٍ: شيخٌ. وقال العِجْليُّ: ليس بالقَويِّ. وذكره ابن حبَّان في «ثقاته»، وكذا ابن شَاهينٍ وابن خَلْفُون، وقال الدَّارقطنِيُّ: يُعْتَبر به، وقال العِجْليُّ يُكتَب حديثُه. هذا ما نعرفُه في ترجمته.
          وأمَّا ابن حَزْمٍ فَغَلا وقال: هذا حديث لا يصِحُّ، وداودُ هذا ضعيفٌ، ضعَّفه أحمد وقد ذُكِر بالكذب، ثمَّ قال: فإن لجُّوا وقالوا: هو ثِقَةٌ: قلنا: لا عليكم وثَّقْتُمُوه هنا، وأمَّا نحن فلا نحتجُّ به ولا نَقبلُه.
          وعند ابن حَزْمٍ: مِن حديثِ الثَّوريِّ، عن سِمَاكٍ، عن مُرَيِّ بن قَطَرِيٍّ عن عَدِيٍّ، قلتُ: وإن أكلَ، قال: نعم. ولابن سعْدٍ عن شيخِه: حَدَّثَنا مُحَمَّد بن عبد الله ابن أخي الزُّهْرِيِّ، عن أبي عُمر الطَّائيِّ عن أبي النُّعْمَان، عن أبيه _وهو ابن سعْدِ هُذَيم_ قلت: يا رسول الله، إنَّا أصحاب قَنْصٍ فقال: ((إذا أرسلتَ كلبَكَ المُعَلَّم وذكرتَ اسم الله فَقَتَلَ فَكُل))، قلنا: وإن أكلَ نأكل؟ قال: ((نعم)). وصحَّ عن ابن عُمَرَ قال: ((كُلْ ممَّا أكلَ منه كَلْبُكَ المعلَّم)).
          واحتجَّ بعض المالكيَّة بالإجماع على أنَّه إذا وُجِدَ الكلْبُ ساعةَ أخذٍ أنَّه يؤخَذ مِن فِيهِ ويُؤكَل، فلو كان أكلُهُ منه يمنعُ مِن أكلِه لوَقَفَ حتَّى ينظُرَ هل يأكل أم لا. قاله في «المعونة»، وفي «القُنْيَة» للحَنَفِيِّة: لو أرسل كلبَهُ فأخَذَ صيدًا كثيرًا بتسمية واحدةٍ بغير اشتغال الكلِّب بشيءٍ ولا ترْكٍ، يحِلُّ الكلُ.