التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: نصرت بالرعب مسيرة شهر

          ░122▒ بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) /
          وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ} [آل عمران:151]. قَالَهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلعم. [انظر:335]
          2977- ثُمَّ ساق حديث أبي هريرة ☺ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ الله صلعم وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا).
          2978- وحديث ابن عبَّاسٍ ☻ (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ الله صلعم فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ).
          الشَّرح: المناسبة في دخول حديث أبي سفيان هنا هذه اللَّفظة: (إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ) لأنَّ بين الحجاز والشَّام مسيرةَ شهرٍ وأكثر، نبَّه عليه ابن المنيِّر.
          وتعليق جابرٍ أسنده في موضعٍ آخر، وفي روايةٍ: ((شهرًا أمامي وشهرًا خلفي)) ذكرتها في «الخصائص»، وخُصَّ بالشَّهرين لأنَّ الله تعالى خصَّ نبيَّنا بخصائصَ لم يشركه غيره، فكأنَّ الرُّعب يحصل في هذه المدَّة ذهابًا، وإن حصل لسليمان في الرِّيح، غدوُّها شهرٌ ورواحها شهرٌ، ونصرُه بالرُّعب ممَّا خصَّه الله تعالى به وفضَّله ولم يؤتَه أحدٌ غيره.
          قال المهلَّب: وقد رأينا ذلك عِيانًا، أخبرنا الأَصيليُّ قال: افتتحنا بلدةً ثُمَّ صحَّ عندنا بعدُ أنَّ أهل القُسْطَنطينيَّة ساعة بلوغهم الخبر صاروا على سورها وتحصَّنوا على أكثر مِنْ شهرين منها.
          وفيه دليلٌ _كما قال الخَطَّابيُّ_ أنَّ الفيء لرسول الله صلعم يضعه حيث شاء، لأنَّه وصل إليه بالنُّصرة الَّتي أُوتيَها مِنْ قبل الرُّعب الَّذي أُلقي في قلوبهم منه، والفيء: كلُّ مال لم يوجَف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، وهو ما جلا عنه أهلُه وتركوه مِنْ أجل الرُّعب، وكذا ما صالحوا عليه مِنْ جزيةٍ أو خَراجٍ مِنْ وجوه الأموال.
          وأمَّا جوامع الكلم فهو القرآن، لأنَّه تأتي الآية منه في معانٍ مختلفةٍ بتأويلاتٍ، وكلٌّ يؤدِّي إلى بِرٍّ لمتأوِّله والآخذ به، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وهذا يدلُّ أنَّ الكتاب جوامعُ الكلم، وكقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فلو أنَّ هذا نزل في تدبير الدُّنيا كلِّها والآخرة لكفاهما، وكذا قال ابن التِّينِ: إنَّ المراد بجوامع الكلم القرآنُ، جمع الله فيه مِنَ الألفاظ اليسيرة معانيَ كثيرةً، ومنه ما جاء في صفته: يتكلَّم بجوامع الكَلِم، يعني أنَّه كثير المعاني قليلُ الألفاظ، وقال عمرُ بن عبد العزيز: عجبت لِمَنْ لاحن النَّاسَ كيف لا يعرف جوامع الكلم؟ يقول: كيف لا يقتصر على الوجيز ويترك الفُضول، وقال ابن شِهابٍ فيما ذكره الإسماعيليُّ: بلغني أنَّ جوامع الكَلِم أنَّ الله يجمع له الأمور الكثيرة الَّتي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الأمرين أو نحو ذلك، وقال الخَطَّابيُّ: معناه إيجازُ الكلام في إشباع المعاني.
          وفيه الحثُّ على حسن التَّفهيم والاستنباط لاستخراج تلك المعاني وتبيين تلك الدَّقائق المودَعة فيها.
          وقوله: (أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ) لا شكَّ أنَّ العرب كانت أقلَّ الأمم أموالًا، فبشَّرهم بأنَّها تصير أموال كسرى وقيصرَ إليهم، وهم الَّذين يملكون الخزائن، وقال ابن التِّينِ: يحتمل أن يريد هذا وهو ما فُتح لأمَّته بعده فغنموه واستباحوا خزائن الملوك المدَّخرة، وهو ما جزم به ابن بَطَّالٍ.
          ويحتمل أن يريد الأرض الَّتي فيها المعادن، وكذلك قال أبو هريرة: (وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا) أي: تستخرجونها وتثيرونها مِنْ مواضعها، يُقال: نَثَلْتُ البئرَ وانتثَلْتُها إذا استخرجتَ ترابها، وهو التَّنْثيل، وكذلك: نَثَلْتُ كِنَانتي: استخرجت ما فيها مِنَ النَّبل، وقيل: النَّثْل: تركُ الشَّيء مرَّةً واحدةً، وفي روايةٍ: ((وأنتم تَرْغَثُونها)) أي: تستخرجون دَرَّها وترضعونها.
          ومعنى الحديث أنَّه صلعم ذهب ولم ينلْ منها شيئًا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثُمَّ أنتم تَنْثلونها على حسب ما وعدكم.
          وهذا الحديث في معنى حديث مُصعب بن عُميرٍ الَّذي مضى ولم يأخذ مِنَ الدُّنيا زهدًا فيها، فكذلك رسول الله صلعم.
          وفيه دلالةٌ على أنَّ للأئمَّة استخراجَ المعادن وإعطاءها لِمَنْ يعمل فيها ويطلب نيلها.