التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تمني الشهادة

          ░7▒ (بابُ: تَمَنِّي الشَّهَادَةِ)
          2797- ذكر فيه حديث أبي هريرة: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ _صلعم_ يَقُولُ: وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ).
          2798- وحديثَ أنسٍ: (خَطَبَ النَّبِيُّ _صلعم_ فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا، قَالَ أَيُّوب: أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ).
          الشَّرح: الحديث الأوَّل أخرجه مسلمٌ، والثَّاني مِنْ أفراده ويأتي في غزوة مُؤْتة [خ¦4262]، وفيه: ((حَتَّى أخذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ حَتَى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ)) وفي بعض طُرقه أنَّه _◙_ سمَّاهم قبل أن يأتيَ خبرهم، وأخْذُ خالدٍ الرَّاية هو منْ باب التَّمنِّي، إقامَةً للفعل مقام القول، وفيه أنَّه _عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام_ كان يتمنَّى مِنْ أفعال الخير ما يعلم أنَّه لا يُعْطاه حرصًا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشَّاكرين وبذلًا لنفسه في مرضاة ربِّه وإعلاء كلمة دينه، ورغبةً في الازدياد مِنْ ثواب ربِّه ولتتأسَّى به أمَّتُه في ذلك، وقد يُثاب المرء على نيَّته لحديث: ((إنَّ اللهَ قَدْ أَوقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ)) وسيأتي في كتاب التَّمنِّي [خ¦7226] وما بعده ما تمنَّاه الصَّالحون ممَّا لا سبيل إلى كونه.
          وفيه إباحةُ القَسَم بالله عَلى كلِّ ما يعتقده المرء ممَّا يحتاج فيه إلى يمينٍ ومَا لا يحتاج، وكثيرًا ما كان يقول في كلامه: ((لا ومقلِّبِ القلوب)) لأنَّ اليمين بالله توحيدٌ وتعظيم له تعالى، وإنَّما يُكره تعمُّد الحِنث.
          وفيه أنَّ الجهاد ليس بفرضٍ معيَّنٍ على كلِّ أحدٍ، ولو كان معيَّنًا ما تخلَّف الشَّارع ولا أباح لغيره التَّخلُّف عنه ولو شقَّ على أمَّته إذا كانوا يطيقونه، هذا إذا كان العدوُّ لم يفجأ المسلمين في دارهم ولا ظهر عليهم، وإلَّا فهو عينٌ على كلِّ مَنْ له قوَّةٌ، وفيه أنَّه يجوز للإمام والعالم تركُ فعل الطَّاعة إذا لم يُطق أصحابُه ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر عليه هو بها إلى وقت قدرة الجميع عليها، وذلك مِنْ كرم الصُّحبة وأدب الأخلاق.
          وفيه عِظمُ فضل الشَّهادة ولذلك قال _◙_: (وَمَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) لعلمه بما صاروا إليه مِنْ رفيع المنزلة والتَّرغيب في الجهاد والإخبار عن جزيل فضله.
          وقوله: (ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا) يحتمل كما قال ابن التِّيْنِ حكاية أنَّه قاله قبل نزول: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وقيل بعده، والخبر على المبالغة في فضل الجهاد والقتل فيه، قال: وهذا أشبهُ، ورأيت مَنْ ينقل أنَّ قوله: (لَوَدِدْتُ) مِنْ كلام أبي هريرة وهو بعيدٌ، وفي «صحيح الحاكم» مِنْ حديث أنسٍ _وقال: على شرط مسلمٍ_: ((أَسْأَلُكَ يا ربِّ أنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيا فَأُقْتَلَ في سَبِيْلِكَ عَشْرَ مراتٍ)) لما يرى فضل الشَّهادة، وله عن جابرٍ صحيحًا: كان _◙_ إذا ذُكر أصحاب أُحدٍ قال: ((والله لوددتُ أني غُودرت مع أصحابي بنُحص الجبل)).
          وحديث قتل زيدٍ وجعفرٍ يأتي إنْ شاء الله _تعالى_ في المغازي [خ¦4262]، وتقدَّم لك هنا أنَّ فيه الخُطبةَ في الفتح وفي نعيٍ يأتي وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ثمانٍ بعثهم إلى مؤتة مِنْ أرض الشَّام، فالتقَوا مع هِرَقْلَ في جموعه، يُقال: مئة ألفٍ غير مَنِ انضمَّ إليه مِنَ المستعربة، فاجتمعوا بقريةٍ يُقال لها: مُؤْتة، فمات مَنْ سمَّى رسولُ الله، ثُمَّ اتَّفق المسلمون على خالدٍ ففتح الله عليه وقتلهم، وقدم البشيرُ بذلك إلى رسول الله _صلعم_ وقد أخبرهم بذلك قبل قدومه، وكان فتح مكَّة في ذلك العام بعد ذلك، وفيه الولاية عند الضَّرورة مِنْ غير إمرة الأمير الأعظم.
          وقوله: (وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) أي تذرفان الدَّمع.