التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من ينكب في سبيل الله

          ░9▒ (بابُ: مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللهِ)
          2801- ذكر فيه حديثَ إسحاقَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: (بَعَثَ رسولُ اللهِ _صلعم_ أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ...) الحديثَ في قتلهم، وهم القرَّاء وأنَّه دَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ، ويأتي في المغازي [خ¦4088].
          2802- وحديثَ جُندُبِ بن سفيان: (أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ كَانَ فِي بَعْضِ المَشَاهِدِ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ؟                     وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ).
          وقوله: (مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) وهمٌ، وصوابه ((مِنَ الأنصار)) كما ثبت في «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث ثابتٍ عن أنسٍ لأنَّ بني سُلَيْمٍ هم الَّذين قتلوا السَّبعين المذكورين كمَّا نبَّه عليه الدِّمْياطيُّ، ومِنْ خطِّه نقلتُ، وإنَّما دعا عليهم في القُنوت في الخمس لأجل غدرهم وقبيح نَكْثِهم بعد تأمينهم، وَقد سلف في القنوت [خ¦1003]، ويأتي في الغزوات [خ¦4086]، وتركَ الدُّعاءَ عليهم لِمَا أُعطي في دعائه مِنَ الإجابة، قيل: قُتِل يوم معونة سبعون ويوم أُحدٍ كذلك ويوم اليمامة في خلافة الصِّدِّيق كذلك سبعون، وآنس الله نبيَّه بما أنزل الله عليه في حقِّهم: {أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا} ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فيُؤخذ منه جوازُ الدُّعاء على أهل الغدر وانتهاكِ المحارم والإعلانُ باسمهم والتَّصريحُ بذكرهم.
          وجاء مِنْ حديث أنسٍ في باب: قول الله _تعالى_: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169] أنَّه دعا عليهم ثلاثين صباحًا [خ¦2814]، وهنا فدعا عليهم أربعين صباحًا، وفي «المسند»:قنتَ رسولُ الله _صلعم_ عِشْرِينَ يومًا.
          وقوله: (لَقِينَا رَبَّنَا) يُقال: الأرواح يُعْرَج بها إلى الله فتسجد له ثُمَّ يُهبط بها لمعاينة الملَكين وتصير أرواح الشُّهداء إلى الجنَّة، وحديث جُنْدُب بن سفيان دالٌّ على أنَّ كلَّ ما أُصيب به المجاهد في سبيل الله مِنْ نكبةٍ أو غيره فإنَّ له أجرَ ذلك على قدر نيَّته واحتسابه.
          وقوله:
(هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ                     ............)
          إلى آخره هو رجزٌ موزونٌ، وقد يقعُ على لِسانه _◙_ مقدارُ البيت مِنَ الشِّعر أو البيتين مِنَ الرَّجز، كقوله _صلعم_:
((أَنَا النَّبيُّ لَا كَذِبْ                     أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ))
          فلو كان هذا شعرًا لكان خلاف قوله _تعالى_: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] والله يتعالى أنْ يقع شيءٌ مِنْ خبره أو يوجدَ عَلى خلاف ما أَخبر به، وهذا مِنَ الحِجاج اللَّازم لأهل السُّنَّة والجماعة، ويُقال للملحدين: إنَّ مَا وقع مِنْ كلامه الموزون في النَّادر مِنْ غير قصدٍ فليس بشعرٍ لأنَّ ذلك غيرُ ممتنعٍ على أحدٍ مِنَ العامَّة والباعة أنْ يقع له كلامٌ موزون، فلا يكون بذلك شعرًا مثل قولهم:
اِسْقِنِي فِي الكُوزِ مَاءً يَا فُلَانْ                     وَٱسْرِجِ البَغْلَ وَجِئْنِي بِالطَّعَامْ
          وقولهم:
مَنْ يَشْتَرِي بَاذِنْجَانْ؟                     ................
          فهذا المقدار ليس بشِعرٍ، والرَّجَز ليس بشعرٍ، ذكره القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب وغيره، وقال ابن التِّيْنِ: هذا الشِّعر لابن رَوَاحة، قال: وقد اختَلف النَّاسُ في هذا وشبهِه مِنَ الرَّجز الَّذي جرى على لسانه، فقيل: ليس بشعرٍ، وقيل: قاله حكايةً والآية نفتْ صَنْعَتَهُ، ونفى قومٌ أن يكون البيتُ الواحد شعرًا، حكاه القزَّاز، وقال قومٌ: الرَّجزُ شعرٌ، وقيل: إنَّه أمرٌ اتَّفاقيٌّ لم يُقصَد، وقد وقع في القرآن: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] وقيل: معنى الآية لا يلزمه هذا الاسمُ وَلا يوجِب أنْ يكون شاعرًا.
          والرِّواية المعروفة _كما قال النَّوويُّ_ كسرُ التَّاء وسكَّنها بعضُهم، ووقع في مسلمٍ: ((كان _◙_ فِي غَارٍ فَنُكِبَتْ إِصْبَعُهُ)) قال عِياضٌ: لعلَّه غازيًا فتصحَّف، قال: ويحتمل أن يريد بالغار هنا الجيش لا الكهف، وجعلهما ابن العربيِّ واقعتين: واحدةً في غزوةٍ وأخرى في كهفٍ، وقال بعضُهم: لمَّا دعا _◙_ للوليد بن الوليد باع مالًا له بالطَّائف، وهاجر على رجليه إلى المدينة فقدِمها وقد تقطَّعت رجلاه وأصابعُه، فقال:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ                     ...............
          إلى آخره.
يَا نَفْسُ إِلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي...............
          ومات في زمنه ◙.
          فائدةٌ: في الإصبع عشر لغاتٍ: بتثليث الهمزة مع تثليث الباء، والعاشرة: أُصْبُوعٌ، واقتصر منها ابن التِّيْنِ على أربعةٍ تَبَعًا لابن قُتيبة.