التوضيح لشرح الجامع البخاري

أبواب تقصير الصلاة

          ░░18▒▒ أَبْوَابُ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ.
          ░1▒ بَابُ مَا جَاءَ في التَّقْصِيرِ وَكَم يُقِيمُ حتَّى يَقْصُرَ؟
          يُقال قَصَرْتُ الصَّلاة وقَصَّرْتُها وَأَقْصَرْتُها.
          ذكر فيه حديثين:
          1080- أحدهما: عن ابن عبَّاسٍ قال: (أَقَامَ النَّبِيُّ صلعم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا).
          1081- الثاني: حديث أنسٍ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلعم مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا).
          الشرح: لا شكَّ أنَّ الصَّلاة فُرضت بمكَّة، والقصر كان في السنة الرابعة مِن الهجرة كما نبَّه عليه ابن الأثير في «شرح المسند».
          وحديث ابن عبَّاسٍ هذا أخرجه البخاريُّ منفردًا به عن عكرمة عنه، وفي روايةٍ له في المغازي: ((أقام بمكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا)) وفي أخرى له: ((أَقَمْنَا مع النَّبِيِّ صلعم)). وأخرجه أبو داودَ وابنُ ماجه والنَّسائيُّ مِن حديث عُبَيد الله بن عبد الله عنه بلفظٍ: ((أَقَامَ بمكَّةَ خَمْسَ عَشْرَة يَقْصُرُ الصَّلَاةَ)) قال أبو داودَ: رواه عنه جماعاتٌ بإسقاط ابن عبَّاسٍ، قال البيهقيُّ: وهو الصحيحُ.
          واختُلف عن عكرمةَ فرواه عاصم الأَحْول وحُصَينُ عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ: ((تسعة عشر)) كما سلف، / وكذا أخرجه ابن ماجه، وأخرجه التِّرْمذيُّ وقال صحيحٌ بلفظ: ((سَافَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم سَفَرًا، فَصَلَّى تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ)) وأبو داود بلفظ: ((تَسْعَ عَشْرَة)). ورواه عن عِكرمة عبَّادُ بن منصورٍ قال: ((أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم زَمَنَ الفَتْحِ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ)) أخرجه البيهقيُّ، واختُلف على عاصمٍ عن عِكرمةَ، فرواه ابن المبارك وأبو شهابٍ وأبو عَوَانةَ في إحدى الروايتين: ((تسع عشر))، ورواه خَلَفُ بن هشام وحَفْصُ بن غِيَاثٍ فقالا: ((سبع عشرة)). واختُلِف على أبي معاويةَ عن عاصمٍ، وأكثر الروايات عنه: ((تسع عشرة)) رواها عنه أبو خَيْثَمة وغيره. ورواه عثمان بن أبي شَيبةَ، عن أبي معاويةَ فقال: ((سبع عشرة)).
          واختُلِف على أبي عَوَانةَ، فرواه جماعاتٌ عنه عنهما فقال: ((تسع عشرة))، ورواه لُوَيْنٌ، عن أبي عَوَانة عنهما فقال: ((سبع عشرة))، ورواه المعلَّى بن أسدٍ عن أبي عَوَانةَ عن عاصمٍ: ((سبع عشرة)). قال البيهقيُّ: وأصحُّها عندي: تسع عشرة، وهي التي أوردها البخاريُّ، وعبد الله بن المبارك أحفظ مَن رواه عن عاصمٍ.
          ورواه عن عكرمةَ عبد الرحمن الأصبهانيُّ فقال: عن عكرمةَ عن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ رَسُول اللهِ صلعم أقامَ سَبْعَ عَشرَةَ بمكَّةَ يَقْصُرُ الصَّلاةَ)). ورواه عِمْرَان بن حُصَينٍ أيضًا قال: ((غزوتُ مع النَّبِيِّ صلعم، وشَهِدْتُ مَعَه الفَتْحَ فَأَقَام بِمَكَّة ثمانيَ عَشْرَة لا يُصلِّي إلَّا ركعتين، يقولُ: يا أَهْلَ البَلَدِ، صَلُّوا أربعًا فإنَّا سَفْرٌ)) أخرجه أبو داود، وفي إسناده عليُّ بن زيد بن جُدْعَانَ متكلَّمٌ فيه، وأخرج له مسلمُ متابعةً.
          ورواه ابن عمر أيضًا ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَقَامَ سَبْعَ عَشْرةَ يُصلِّي رَكْعَتَين مُحَاصِرًا الطَّائفَ)) أخرجه البيهقيُّ من طريقِ ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوبَ عن حُمَيدٍ، عن رجلٍ عن ابن عمر به.
          قال البيهقيُّ: ويمكن الجمع بين الروايات بأنَّ مَن روى تسع عشرة عدَّ يوم الدخول ويوم الخروج، ومَن روى ثمان عشرة لم يعدَّ أحدهما، ومَن روى سبع عشرة لم يعدَّهما، وهذا الحديث كان في فتح مكَّة كما سلَف مصرَّحًا به.
          وأمَّا حديث أنسٍ فأخرجه مسلمٌ والأربعة، وكان في حَجَّة الوداع، فإنَّه دخل يوم الأحد صبيحة رابعة ذي الحِجَّة، وبات بالمحصَّب ليلة الأربعاء، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة وخرج صبيحتها وهو الرابع عشر.
          إذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في المسافر ينوي الإقامة ببلدٍ لأجل حاجةٍ يتوقَّعُها ولا يعلم نَجازها على سبعة عشر قولًا:
          أحدها: بوضع رَحلِهِ فيها، قال ابن حَزْمٍ عن ابن جُبَيرٍ أنَّه قال: إذا وضعتَ رَحْلكَ بأرضٍ فأتمَّ.
          ثانيها: بإقامة يومٍ وليلةٍ، حكاه ابن بطَّالٍ عن ربيعةَ، قال: وهو شاذٌّ بعيد.
          ثالثها: ثلاثة أيَّامٍ، قاله ابن المسيِّب في روايةٍ.
          رابعها: أربعة، رُويَ عن مالكٍ والشافعيِّ وعن أحمدَ أيضًا، وعن عثمان، وروى مالكٌ عن عطاءٍ الخراسانيِّ أنَّه سمع سعيد بن المسيِّب قال: مَن أجمع إقامة أربع ليالٍ وهو مسافر أتمَّ الصَّلاةَ، وهو أحدُ أقواله.
          قال وكيع: حدَّثنا هشامٌ عن قَتَادةَ، عن سعيد بن المسيِّب قال: إذا أقمت أربعًا فصلِّ أربعًا، قال مالكٌ: وذلك أحبُّ ما سمعتُ إليَّ، قال أبو عمر: ودلَّ ذلك على أنَّه سمع الخلاف. وذكر ابن وهبٍ قال: ذلك أحسن ما سمعت، والذي لم يزل عليه أهل العلم عندنا أنَّ مَن أجمع إقامة أربع ليالٍ وهو مسافرٌ أتمَّ.
          قال أبو عمر: وإلى هذا ذهب الشافعيُّ، وهو قوله وقول أصحابه، وبه قال أبو ثورٍ.
          قال الشافعيُّ: إذا أزمع المسافر أن يقيم بموضعٍ أربعةَ أيَّامٍ ولياليهنَّ أتمَّ الصلاة، ولا يحسبُ مِن ذلك يوم نزوله ولا يوم ظعنه. قلتُ: هذا قولٌ عنه ليس الفتوى عليه، وحكى إمام الحرمين عنه أربعة أيَّامٍ ولحظة.
          قال ابن بطَّالٍ: وهذا القول أصحُّ المذاهب في هذه المسألة. قلتُ: إن كان معتمده الوجود، فما يعمل في باقي الأحاديث.. تسعة عشر ونحوها؟.
          واختُلِف في المدَّةِ المذكورة، فقال ابن القاسم: أربعة أيَّام كاملة، قال عنه عيسى: ولا يعتدُّ بيوم دخوله إلَّا أن يدخل في قوله. وقال عبد الملك وسُحنُون ومحمَّدٌ: إذا نوى مقام زمان تجب فيه عشرون صلاة أتمَّ، لأنه ◙ صلَّى بمكَّة إحدى وعشرين صلاةً، لأنَّهُ دخل يوم الرابع بعد صلاة الصبح وخرج يوم التروية قبل صلاة الظهر، وظاهر كلام القاضي عبد الوهَّاب أنَّ القولين سواءٌ، لأنَّه قال: وإن نوى المسافر أربعة أيَّام أو ما يُصلِّي فيه عشرين صلاةً.
          وقال ابن مَسْلَمة: مَن قَدِم مكَّة ينوي الإقامة بها وهو يريد الحجَّ، وبينه وبين الخروج إلى منىً أقلُّ مِن أربعة أيَّامٍ أنَّه يَقْصُرُ حتَّى يرجع إلى مكَّة.
          وقال مالكٌ في «مختصر ما ليس في المختصر»: يتمُّ الصلاة بمكَّة، وما أسلفناه من أنَّه ◙ صلَّى بمكَّة إحدى وعشرين ذكره الشيخ أبو الحسن في «تبصرته» وهو لا يصحُّ، إنَّما صلَّى عشرين لأنَّه صلَّى الصبح رابع ذي الحِجَّة بذي طُوىً، وظهر الثامن بمنىً كذا في البخاريِّ بعد هذا وبالجملة فالخبر رادٌّ على مَن قال: إنَّ مَن نوى مُقام زمان يُصلِّي فيه عشرين صلاةً يُتمُّ.
          خامسها: أكثر مِن أربعة أيَّامٍ قاله داود، وحكاه ابن رشدٍ عن أحمدَ.
          سادسها: أن ينوي اثنتين وعشرين صلاةً، ذكره في «المغني»، وجعله المذهب ومثله في «المحلَّى»، ونقل ابن المنذر عنه إحدى وعشرين صلاةً.
          سابعها: عشرة أيَّامٍ، رُويَ عن عليٍّ والحسن بن صالح / ومحمَّد بن عليٍّ أبي جعفر، نقله ابن عبد البرِّ عنهم، وحكاه ابن بطَّالٍ عن ابن عبَّاسٍ أيضًا.
          ثامنها: اثني عشر يومًا، نقله ابن عبد البرِّ عن ابن عمر، وهو أحد أقواله، روى مالكٌ عن الزُّهريِّ عن سالمٍ عن أبيه أنَّهُ كان يقول: أُصَلِّي صلاة المسافر ما لم أُجمع مُكثًا، وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة، ورُويَ عن الأوزاعيِّ مثل ذلك، ذكره التِّرْمذيُّ عنه.
          قال ابن بطَّالٍ: ولا حُجَّة له لأنَّه ◙ وأصحابه لم يتمَّ أحدٌ منهم في هذا المقدار.
          تاسعها: ثلاثة عشر يومًا، رُوي أيضًا عن الأوزاعيِّ، نقله ابن عبد البرِّ عنه.
          عاشرها: خمسة عشر يومًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ويُروى عن ابن عبَّاسٍ كما سلف في الحديث. وحكاه ابن بطَّالٍ عن ابن عُمَرَ والثوريِّ والليثَ، ولم أرَ مَن قال بها مِن أصحابنا، مع أنَّ الخلاف راجعٌ إلى ما ورد مِن ذلك، وقد أسلفنا أنَّ الصحيح إرسالها، وفيه مع ذلك عنعنة ابن إسحاق، لكن رواه النَّسائيُّ بدونها، وروى مجاهد عن ابن عمر وابن عبَّاسٍ أنَّهما قالا: إذا قدمتَ بلدًا وأنت مسافرٌ وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلةً فأكمل الصَّلاة.
          الحادي عشر: سِتَّة عشر يومًا، وهو مرويٌّ عن الليث أيضًا.
          الثاني عشر: سبعة عشر يومًا، وهو قول للشافعيِّ للحديث السَّالف، وقد صحَّحه ابن حبَّانَ.
          الثالث عشر: ثمانية عشر يومًا، وهو أصحُّ أقوال الشافعيِّ اعتمادًا منه على حديث عِمْرَان بن حُصَيْنٍ السالف لسلامته مِن الاختلاف فإنَّه لم يروَ إلَّا هكذا، بخلاف حديث ابن عبَّاسٍ فإنَّ روايته تنوَّعت كما سلف، لكن في سنده عليُّ بن زيد بن جُدْعَانَ، وهو متكلَّمٌ فيه كما سلف.
          الرابع عشر: تسعة عشر يومًا، وهو الصحيح عن ابن عبَّاسٍ كما مرَّ، قاله إسحاق كما نقله التِّرْمذيُّ عنه، وهو أحد أقوال الشافعيِّ، وهو القويُّ عندي وبه أفتي لأنَّ الباب باب اتِّباع، وهذا أصحُّ ما ورد فلا مَعدل عنه.
          الخامس عشر: عشرون يومًا، وفيه: حديث في غزوة تبوكَ أخرجه أحمد وأبو داود مِن حديث جابر، وصحَّحه ابن حبَّان، وهو أحد أقوال الشافعيِّ.
          السادس عشر: يَقْصُرُ حتَّى يأتي مِصرًا مِن الأمصار، قاله الحسن البصريُّ كما نقله عنه ابن عبد البرِّ وقال: لا نعلم أحدًا قاله غيره.
          السابع عشر: يَقْصُرُ مطلقًا، وحُكي عن مالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، وهو أحد أقوال الشافعيِّ، ونقله البغويُّ عن أكثر أهل العلم، وحكى التِّرْمذيُّ الإجماع عليه قياسًا على المقدار الذي ورد، لأنَّ الظاهر أنَّه لو استمرت الإقامة على ذلك استمرَّ القَصْر؛ لأنَّ الصَّحابة أقاموا بِرَامَهُرْمُزَ تسعةَ أشهرٍ يَقْصُرون الصَّلاة. وأقام أنسٌ مع عبد الملك بن مروان بالشَّام شهرين يَقْصُرُ الصَّلاة. وأقام ابنُ عُمَر ومَن معه بأذربيجانَ سِتَّة أشهرٍ في غزاةٍ يقصر الصَّلاة وقد أُرِيحَ عليهم الثلج، روى الكلَّ البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ.
          وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ ((أنَّه ◙ أقام أربعين يومًا بخيبرَ يقصر الصَّلاة)) فضعيفٌ، قال إمام الحرمين: هذا القول يقرب مِن القطعيَّات، قال: وقد أقام أنس بن مالكٍ سنةً أو سنتين بنيسابورَ يقصر، وأقام علقمة بخوارزمَ سنتين يقصر، وكذا عبد الرحمن بن سَمُرَة بكابلَ سنتين يقصُرُ، فدلَّ ذلك مِن فعلهم مع عدم الإنكار على أنَّه إجماعٌ، ولأنَّه عازمٌ على الرحيل غير ناوي الإقامة، فجاز له القصر كما في الثمانية عشر.
          وروى ابن أبي شَيبة عن ابن عبَّاسٍ قال: إن أقمت في بلدٍ خمسة أشهر، فقصِّر الصَّلاة.
          وعن عبد الرحمن قال: أقمنا مع سعد بن مالكٍ شهرين بعمان يقصُرُ الصَّلاة ونحن نُتمُّ، فقلنا له، فقال: نحن أعلم، وعن أبي الْمِنْهَال عن رجلٍ مِن عنزة، قلتُ لابن عبَّاسٍ: إنِّي أقيمُ بالمدينة حولًا لا أشدُّ على سفرٍ. فقال: صلِّ ركعتين.
          وإذا جمع الخلاف عندنا في حال القتال وغيره ورُكِّبت بعض الوجوه مع بعضٍ واختصرتَ قلتَ: في ذلك ثمانية عشر قولًا وَوَجهًا: ثلاثة أيام، أربعة، سبعة عشر، ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرين، أبدًا، يقصر مِن غير حاجةِ قتالٍ ثلاثة، ومِن حاجته سبعة عشر، مِن حاجة غير قتالٍ ثلاثة ومنها ثمانية عشر، مِن حاجة غير قتال ثلاثة ومنها تسعة عشر، مِن عدمها ثلاثة ومنها عشرون، مِن عدمها ثلاثة ومنها أبدًا، والثالث عشر إلى السابع عشر: مِن عدمها أربعة ومِن حاجته سبعة عشر، أو ثمانية عشر، أو تسعة عشر، أو عشرون، أو أبدًا.
          والثامن عشر: يقصُرُ مِن غير حاجة قتالٍ ثمانية عشر يومًا، ومِن حاجة قتالٍ يقصر أبدًا. كذا جمع الخلاف ابن الرِّفْعة، ولا بدَّ مِن تحريره فليُتأمَّل.
          قال ابن التِّين: وإقامة الشَّارع تسعة عشر يقصر يحتمل أنَّه لم ينوِ إقامة أربعة أيَّامٍ، أو أقام ذلك في أرض العدو حيث لا يملك الإقامة، وجعل ابن عبَّاسٍ تسعة عشر هذا مِن رأيه.
          وقوله: (إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا) سمَّى الإقامة بالمصر سفرًا لأنَّه في حكم المسافر، وكأنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أنَّ الأصل في الصَّلاة الإتمام، فلا يقصر إلَّا ما جاء فيه نصٌّ، واعتمد البخاريُّ كلام ابن عبَّاس. قال الخطَّابيُّ: وهو الصحيح لأنَّه جمع حكاية فعل الشارع.
          وبقول ابن عبَّاسٍ قال الشافعيُّ إلا أنَّهُ شرط وجود الخوف، ولو كانت العلَّة الخوف ما حدَّ تسعة عشر. كذا نُقل عنه، وهو غريبٌ في اشتراط الخوف وتحديده بتسعة عشر.
          وقول أنس: (أَقَمْنَا عَشْرًا) قال أبو عبد الملك: هو ما تأوَّلنا أنَّه لم ينوِ إقامة أربعة أيَّامٍ، ولكن يمنعه ما يعترضه مِن الشغل حتَّى مضى عشر، وغيره تأوَّله على أنَّهم قدموا لِصُبحِ رابعةٍ، فمُقامهم بمكَّة دون أربعة / أيَّامٍ، وقول ابن عبَّاسٍ: أقمنا تسعة عشر، وقول أنسٍ: أقمنا عشرًا يحتمل أن يكونا موطنين. قلتُ: بلا شكٍّ كما أسلفته لك.
          قال الدَّاوديُّ: وليس هذا كلُّه إلَّا في عام الفتح، لأنّه لم يُقِم في حَجَّتهِ بعد أن فرغ منها وأقام في الفتح قبل خروجه إلى هوازن والطائف مدَّةً، وأقام بعد رجوعه إلى مكَّة.
          وإمَّا أن يكون أحدهما في موطن غير الآخر، أو يكون أحدهما حفظ ما لم يحفظه الآخر.
          أمَّا قول أنسٍ فقال مالكٌ: هو في حِجَّة الوداع، وقد شهدها أنسٌ وابن عبَّاسٍ، ولا يُحفظ أنَّ ابن عبَّاسٍ شهد الفتح، وكان حينئذٍ ابن إحدى عشرة سنةً وأشهر.
          قلتُ: القضية متعدِّدة قطعًا، فقضيَّةُ ابن عبَّاسٍ في الفتح وأنسٍ في حِجَّة الوداع.
          وقال ابن بطَّالٍ: إنَّما أقام الشارع تسعة عشر يومًا يقصر، لأنَّه كان محاصَرًا في حصار الطائف أو حربِ هوازن، فجعل ابن عبَّاسٍ هذه المدَّة حدًّا بين التقصير والإتمام.
          قال المهلَّب: والفقهاء لا يتأوَّلون هذا الحديث كما تأوَّلَهُ ابن عبَّاسٍ، ويقولون: إنَّه كانَ ◙ في هذه المدَّة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ غير عازمٍ على الاستقرار، لأنَّه كان ينتظر الفَتح ثمَّ يرحل بعد ذلك، فظنَّ ابن عبَّاسٍ أنَّ التقصير لازمٌ إلى هذه المدَّة، ثمَّ ما بعد ذلك حضَر يتمُّ فيه، ولم يراع نيَّته في ذلك، ثمَّ روى حديث إقامته بتبوكَ يقصُرُ عشرين ليلةً.
          وروى ابن عيينةَ، عن ابن أبي نَجِيح أنَّه سأل سالم بن عبد الله: كيف كان ابن عمر يصنع؟ قال: إذا أجمع المكث أتمَّ، وإذا أقام اليوم وغدًا قصر الصَّلاة وإن مكث عشرين ليلة. والعلماء مجمعون على هذا لا يختلفون فيه. قلتُ: وأين الإجماع وقد علمت الخلاف الطويل الذي سقته؟!
          وتأوَّل الفقهاء حديث أنسٍ أيضًا أنَّ إقامته بمكَّة لا استيطانًا لها لئلَّا تكون رجوعًا في الهجرة، وقد رُويَ عن ابن عبَّاس أيضًا أنَّ مَن نوى إقامة عشر ليالٍ أنَّه يُتِمُّ الصَّلاة، وهو قولٌ له آخر خلاف تأويله للحديث، ولا أعلم أحدًا مِن أئمَّة الفتوى قال بحديث ابن عبَّاسٍ، وجعل تِسعة عشر يومًا حَدًّا للتقصير، فهو مذهبٌ له انفرد به.
          قلتُ: لكن الصحيح عنه تسعة عشر كما أسلفناه، ونقلَه التِّرْمذيُّ عن إسحاق ثمَّ ذكر رواية ابن عبَّاسٍ: سبع عشرة، ثمَّ قال: وإنَّما جاء هذا الحديث _والله أعلم_ مِن الرواة.
          قال: ولم يَقُل: سبع عشرة أحدٌ من الفقهاء أيضًا إلَّا الشافعيَّ فإنَّه قال: مَن أقام بدار الحرب خاصَّةً سبع عشرة ليلةً قصر.
          قلتُ: مرويٌّ عن الليث، والمفتى به مِن مذهب الشافعيِّ ثمانية عشر كما أسلفناه.
          قال: وتأوَّل الفقهاء حديث أنسٍ أنَّ إقامته بها عشرًا كانت بنيَّة الرحيل، وكانت العوائق تمنعه مِن ذلك، فما كان على نِيَّة الرَّحيل، فإنَّه يقصر فيه وإن أقام مدةً طويلةً بإجماع العلماء، وقد سلف لك ما في هذا الإجماع.
          وفي حديث ابن عبَّاسٍ مِن الفقه ما ذهب إليه مالكٌ وأبو حنيفة وأحدُ قولي الشافعيِّ أنَّ مَن كان بأرض العدوِّ مِن المسلمين، ونوى إقامة مدَّةٍ يُتِمُّ المسافر في مثلها الصَّلاة أنَّه يقصر الصَّلاة، لأنَّه لا يدري متى يرحل.
          قال ابن القصَّار: والقول الثاني للشافعيِّ الذي خالف فيه الفقهاء قال: إن كان المقيمون بدار الحرب ينتظرون الرجوع كلَّ يومٍ، فإنَّه يجوز لهم أن يقصروا إلى سبعة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا، فإذا جاوزوا هذا المقدار أتمُّوا، واحتجَّ بأنَّ الشارع أقام بهوازن هذه المدَّة يقصُرُ.
          وقول الأوَّل الموافق للفقهاء أولى، لأنَّ إقامة مَن كان بدار الحرب ليست إقامةً صحيحةً، وإنَّما هي موقوفةٌ لِمَا يتَّفِق لهم مِن الفتح، لأنَّ أرض العدوِّ ليست بدار إقامة للمسلمين.
          وقد روى جابرٌ أنَّه ◙ أقام بتبوكَ عشرين يومًا يقصر الصَّلاة، وأقام ابن عمر بأذربيجانَ سِتَّة أشهرٍ يحارب ويقصُرُ، وأقام أنسٌ بنيسابورَ سنتين يقصُرُ الصَّلاة، وفعله جماعةٌ مِن الصحابة.