التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الفرائض

          ♫
          ░░85▒▒ كِتَابُ الفَرَائِضِ
          ░1▒ وَقَوْلِ اللهِ ╡: {يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ}إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:11-12] /
          6723- ثمَّ ساقَ حَديثَ جَابِرٍ ☺: (مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم وَأَبُو بَكْرٍ ☺ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ).
          الشَّرح: (الفَرَائِضِ) جمع فَرِيضةٍ فَعِيلةٌ مِن الفَرْضِ وهو التَّقديرُ؛ لأنَّ سُهمانَ الوَرَثةِ مقدَّرَةٌ، وَمِنْهُ قولُه تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] أو الحزُّ، وَمِنْهُ قولُه تَعَالَى: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7] أَي مُقتَطَعًا محدودًا، أو الوجوبُ والإلزامُ، أقوالٌ. ويُقالُ للعالِم بها: فَرَضِيٌ وفارِضٌ وفَريضٌ، كعالِمٍ وعَلِيمٍ، حكاه صاحب «المحكم» عن ابن الأعرابيِّ.
          فَصْلٌ: فأمَّا الآيَة فمعنى: {يُوصِيكُمُ}يَفْرِضُ عليكم، كقولِه: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:151] ومَن له فرضٌ بُدِئَ به، فإنْ فَضَل للعاصبِ عَلَى حسبهِ. والولدُ يشملُ وَلَد الصُّلْبِ ذكرًا كَانَ أو أنثى وولدَ الابنِ وبني الابنِ، وَكذلك الَّذِين يُنسَبون بآبائهم إليه مِن الذُّكورِ والإناثِ بحسب القُربِ.
          فإنْ كان في ولَدِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ حَجَبَ وَلَدَ الوَلَدِ، وإِلَّا بُدِئَ ببنتِ الصُّلْبِ فأُعطيتِ النِّصفَ؛ والبنتين فصاعدًا الثُّلُثان، ثمَّ مَا بقِيَ فلِوَلَدِ الابنِ عند الاستواءِ، أو كَانَ الذَّكرُ فيمَن أسفل مِن بناتِ البنين فللذَكَرِ مِثْلُ حظِّ الأُنْثَيينِ.
          قال إسماعيلُ بن إسحاقَ: لم يذكُرِ اللهُ الاثْنَتَينِ في كتابِه، فكان في قولِه تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] دليلٌ أنَّه إذا كَان ذكرًا وأنثى للذَّكر الثُّلثان وللأنثى الثُّلُثُ، فإذا وجبَ لها مع الذَّكَرِ الثُّلُثُ كان الثُّلُثُ لها مع الأنثى أوكدَ، فاحتيجَ إلى ذِكْرِ ما فوق الاثنَتَيْنِ ولم يُحْتَجْ إلى ذِكر الاثنتين، وقيل: {فَوْقَ}فِي قَوْلُهُ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}زائدةٌ، كقولِه: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12].
          وقال المبرِّدُ: فِي الآيَةِ نفْسِها دليلٌ أَنَّ لِلأُنثَيَيْنِ الثُّلثينِ لأنَّه قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] وأقلُّ العددِ ذَكَرٌ وأُنثى، فإِذَا كَانَ للواحدةِ الثُّلُثُ دلَّ عَلَى أَنَّ للاثنتين الثُّلثين، ولأنَّ لِبِنْتِ الابنِ مع بنتِ الصُّلْبِ السُّدُسُ تكملةَ الثُّلثينِ لأنَّها تقوم مقامَ البنتِ الباقيةِ فِي استغراقِ الثُّلُثينِ.
          ومع هَذَا كلِّه فقد صحَّ مِن حَدِيْثِ جابرٍ ☺: أنَّه ◙ ((أعطى البنتَينِ الثُّلثين)) أخرجه أبو داودَ والتِّرمذِيُّ. وخالفَ ابنُ عبَّاسٍ، فقال: للبنتين النِّصفُ.
          فَصْلٌ: وقولُه تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] يعني بِـ {أَبَوَيْهِ}أبوي الميِّت، وسواءٌ فيه الوالدُ والوالدةُ لا يُزاد واحدٌ منهما عَلى السُّدُسِ، ويَشملُ الوَلدُ الذَّكرَ والأنثى، الواحدَ والجماعةَ، وأمَّا زيادتُه عَلَى ذَلِكَ مع البنتِ وَبنتِ الابنِ فمِن بَابِ الجمعِ بين الفرضِ والتَّعصيب لِقُرْبِه.
          قال إسماعيلُ بْن إسحاقَ: وَلم يُذكَرْ فرضُهما إذا كان للميِّتِ زوجٌ أو زوجةٌ، وَحُكمُه أَنْ يعطَى الزَّوجُ إمَّا النَّصفَ وَإمَّا الرُّبُعَ، والزَّوجةُ إمَّا الرُّبُعَ وإمَّا الثُّمُنَ، ثمَّ يُنظَرُ إِلَى مَا بقيَ لأنَّ النَّقيصة لَمَّا دخلتْ عليهما مِن قِبَلِ الزَّوجِ أو الزَّوجةِ وجبَ أَنْ تكون داخلةً عليهما عَلَى قَدْر حِصَصِهِمَا.
          فَصْلٌ: وقولُه تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] قال مالكٌ: مضتِ السُّنَّةُ أنَّ الإخوةَ اثنانِ فصاعدًا، وَعلى هذا حَمَلَهُ أهل العلم، وقد رُوي في الحديثِ: ((الاثنانِ فما فوقَهُما جماعةٌ)) وَقد جاء في القرآن لفظُ الجمع للاثنينِ، قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4].
          وقام الإجماع عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذا تُوُفِّي وَتَرَك ابنتيهِ أو أختيْهِ لأبيه فَلهما الثُّلثان، فإنْ تَرَكَ منهما أكثرَ مِن اثنتينِ لم يزدْنَ عَلى الثُّلُثين، فاستوى فِي ذَلِكَ حال الاثنتين وأكثر منهما، فدلَّ أنَّ الاثنين في معنى الجماعة لأنَّ الجمع إنَّما سُمِّي لأنَّه جَمْعُ شيءٍ إلى شيءٍ فإذا جُمِعَ إنسانٌ إلى إنسانٍ فقد جمع.
          ودليلٌ آخرُ: وهو قولُه تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:176] وقد أجمعتِ الأُمَّةُ أنَّ للأخِ الواحدِ مع الأختِ الواحدةِ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] فقد دَخَلَا في لفظ الجماعة بنصِّ القرآن.
          وشذَّ ابنُ عبَّاسٍ فقال: الإخوة الَّذين عَنَى اللهُ بقولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11] ثلاثةٌ فصاعدًا، وكان يُنكر أن تُحجَبَ الأمُّ عن الثُّلُثِ مع الأبِ بأقلَّ مِن ثلاثةِ إخوةٍ، وكان يقولُ في أبوينِ وأخوينِ: للأمِّ الثُّلُثُ وللأبِ ما بقِي كما قال أهلُ العلم في أبوينِ وأخٍ واحدٍ، وقولُ جُملَةِ أهلِ العلم في أبوين وأخوينِ: للأمِّ السُّدُسُ وباقي المالِ للأب، ولا يُوجَدُ في جميعِ الفرائضِ عَلى مذهبِ زيدِ بن ثابتٍ مسألةٌ يَحجُبُ فيها مَن لا يَرِثُ غيرُ هذِه.
          واختلف العلماء لِمَ نقصتِ الأمُّ عن الثُّلُثِ بمصيرِ إخوةِ الميِّت معها اثنينِ فصاعدًا؟ فقالت طائفةٌ: نقصتِ الأمُّ وزِيدَ الأبُ لأنَّ على الأبِ مُؤنَتَهم وإنكاحَهم دون أُمِّهم، رُوي ذلك عن قَتَادةَ. وقالت طائفةٌ: إنَّما حَجَبَ الإخوةُ الأمَّ عن الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ لِيكونَ لهم دونَ أمِّهِم. رواه طَاوُسٌ عن ابن عبَّاسٍ.
          قال الطَّبريُّ: وأَوْلَى الأقوالِ بالصَّواب أنْ يُقال: إنَّ اللهَ تعالى إنَّما فَرَضَ للأمِّ مع الإخوةِ السُّدُسَ لِمَا هو أعلم به مِن مصلحةِ خَلْقهِ، وقد يجوز أنْ يكونَ لِمَا ألزَمَ الآباءَ لأولادِهم، وَقد يجوز أنْ يكونَ لغيرِ ذلك، وَليس ذلك ممَّا كُلِّفْنا عِلمَهُ وإنَّما أُمِرْنا بالعملِ بما عَلِمْنا، ومَا رواه طَاوُسٌ عن ابنِ عبَّاسٍ مخالفٌ للأمَّة لأنَّه لا خلاف بين الجميع أنَّه لا ميراثَ لأَخِ الميِّت مع والدِه فبانَ فسادُهُ.
          وكذا قال ابنُ التِّين: أجمعتِ الفقهاءُ عَلَى أَنَّ الإخوةَ اثنان فصاعدًا، إِلَّا ابنُ عبَّاسٍ فإنَّه قَالَ: ثلاثةٌ فصاعدًا، ورُوِيَ نحوُه عَن مُعاذٍ، قَالَ: ورُوِيَ عَن مالكٍ فِي زوجٍ وأمٍّ وجدٍّ وأخوينِ لأمٍّ وأخوينِ لأبٍ أنَّه جَعَلَ للجدِّ الثُّلُثَ وقَالَ: هُوَ حَجَبَ الأخوين للأمِّ عَنْهُ، ولولا هُوَ لكان لهما دون الأخوين للأبِ، قَالَ: وقد رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه كَانَ يجعلُ لِلإخوةِ مِن الأبِ السُّدُسَ الَّذِين حجبُوا الأمَّ عَنْهُ.
          واختُلف عَلَى قَوْلِه: هَل يكونُ للإخوةِ مِن الأمِّ خاصَّةً أو لجميعِ الإخوةِ؟ فإِذَا قلنا لجميعِهم، هَلْ تُقسَمُ عَلَى عددِ الرُّؤوسِ أو للذَّكرِ مِثْلُ حظِّ الأُنْثَيين؟
          فَصْلٌ: وقولُه تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النَّساء:11] رَوَى التِّرمِذِيُّ والحاكم مِن حَدِيْثِ عليٍّ ☺ قَالَ: إنَّكم تقرؤون هذه الآيَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}وإنَّ رَسُوْل الله صلعم قضى بالدَّين قبل الوصيَّةِ. وفيه الحارثُ الأعورُ، ويَعْضُدُه الإجماعُ / عَلَى مقتضاهُ وَلا عِبرةَ بمن شذَّ، و{أَوْ}هُنَا للإباحةِ.
          فَصْلٌ: وقَوْلُهُ: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء:11] قال ابنُ عبَّاسٍ: فِي الدُّنيا، وقال غيرُه: إِذَا كَانَ الابنُ أرفعَ درجةً مِن الأبِ سَأل اللهَ أَنْ يَلْحَقَهُ، وكذلك الأبُ إِذَا كَانَ الابنُ أرفعَ درجةً منه، وقيل: آباؤكم وأبناؤكم الَّذِين أوصاكم الله بقسمةِ الميراثِ بينَهم أعطُوهم حقوقَهم؛ فإنَّكم لا تدرون أيُّهم أقربُ لكم نفعًا فِي الدِّين والدُّنيا، الولدُ أو الوالدُ.
          فَصْلٌ: والكَلَالةُ تقدَّم الكلامُ عليها فِي التَّفسير فِي تفسيرِ سورةِ النِّساء ونَقْلُ الإجماعِ عَلَى أَنَّ المراد بهذه الآيَةِ الإخوةُ للأمِّ، وأكثرُهم عَلَى أنَّها مَن لا ولدَ له ولا والدَ، وهو قولُ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعليٍّ وزيدٍ وابنِ مسعودٍ والمدنيِّينَ والبصريِّين والكوفيِّين وابنِ عبَّاسٍ، ورُوِيَ عَنْهُ وعَن ابنِ عُمَرَ: مَن لا ولدَ له.
          واختَلَفَ النَّاسُ بعدَهم فِي اسمِها، فقال البصريُّون ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ: إنَّه اسمٌ للميِّت إِذَا لم يخلِّف وَلدًا. وقال المدنيُّون والكوفيون: هُوَ اسمٌ للورثةِ الَّذِين لَا وَلَدَ فيهم وَلا والد، وَاختاره الطَّبريُّ لحديثِ جابرٍ فِي الباب وحَدِيْثِ سعدٍ: ليس يَرِثُني إِلَّا كلالةً.
          قال إسماعيلُ: وَلم يختلف العلماءُ أنَّ قولَه تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] أنَّهم الإخوةُ للأمِّ، وقال تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ}الآية [النساء:176] فلم يختلفوا في أنَّ هؤلاءِ الإخوةُ للأبِ كانت أُمُّهم واحدةً أو كانت الأُمَّهاتُ شتَّى، والدَّليلُ على إبانةِ هؤلاء مِن أولئك قولُهُ تعالى في هؤلاء: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] إذْ كانوا يأخذون بالأبِ، وجَعَل لهم المالَ كلَّه في بعضِ الحالات، وقال في الآخرين: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:11] فَجَعَلَ الذَّكرَ والأُنثى سواءً إذْ كانوا يأخذون بالأمِّ خاصَّةً فَقَصَرهم على الثُّلُثِ.
          قال مالكٌ: والأمرُ المُجْمَعُ عليه عندنا أنَّ الإخوةَ للأمِّ لا يَرِثون مَع الولدِ وَلا مَع ولدِ الابنِ ذَكَرًا كان أو أنثى شيئًا، وَلا مع الأبِ وَلا مع الجدِّ أبِ الأبِ شيئًا، ويَرِثون فيما سوى ذلك للواحدِ منهم السُّدُسُ على ما سلف.
          فَصْلٌ: رُوِيَ عَن ابنِ عبَّاسٍ ☻ فِي عَوْلِ الفَرائضِ أنَّه كَانَ لا يُعيلُ فريضةً، ولا نعلم أحدًا مِن الصَّحابة وافقَهُ عليه، وَكان يُنكِرُ أَنْ يكون جُعِل فِي مالٍ نِصْفٌ ونِصْفٌ وثُلُثٌ، وَكان يَرَى فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا وقع أَنْ يُعطى أوَّلًا أصحابُ الفرائض ومَن لا يزولُ فِي حالٍ ويُعطَى الآخَرُ مَا بقِي، مثالُهُ: زوجٌ وأمٌّ وأختٌ لأبيها بُدِئَ بالأوَّلينِ كاملًا لأنَّ كُلًّا منهما لا يُزالانِ عَن فرضٍ إلَّا إِلَى فرضٍ بخلاف الأختِ فإنَّها تزولُ مِن فرضٍ إِلَى غيرِه، فلا تُعطَى فِي بعضِ الأحوالِ شيئًا، فكان هَذَا كما وصفْنا.
          وأمَّا الآخرون فأشركوا بين أصحابِ الفرائضِ كلِّهم وَحاصُّوا بينهم، وهو الَّذي أجمع عليه أهلُ العلم لأنَّ كلَّ واحدٍ قد فُرِضَ له فريضةٌ فليس يَجِبُ أنْ يزيلَه عنها إلَّا مَن يَحْجبُه عَنها فالتَّحاصُّ متعيِّنٌ، وَلو أَنَّ رجلًا أوصى بنصفِ مالِه لرجُلٍ وبنصفِ مالِه لِآخرَ وبثُلُثِه لآخَرَ فأجاز الورثةُ ذَلِكَ وجبَ التَّحاصُّ، فيَضرِبُ صاحبُ النِّصْفِ بثلاثةِ أسهمٍ وصاحبُ النِّصفِ الآخَرِ بِثلاثةٍ، وصاحبُ الثُّلُثِ بسهمين، فإنْ لَمْ يُجِزِ الورثةُ ذلك تحاصُّوا في الثُّلُثِ عَلى هذه السِّهام.
          فَصْلٌ: حَدِيْثُ جابرٍ ☺ سَلفَ [خ¦5676] قال المهلَّب: وَفيه دليلٌ أنَّه لا يجوزُ لِأحَدٍ أنْ يقضِيَ بالاجتهادِ في مَسألةٍ مَا دام يجدُ سبيلًا إِلى النُّصوصِ وَكيف وجْهُ استعمالِها، وَلو جازَ أنْ يجتهدَ في محضَرِ الشَّارع دُونَ أنْ يشاورَهُ لَمَا قال له: (كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟) وَكذلك لو جاز للشَّارعِ أنْ يجتهدَ رأيَهُ فيما لم ينزِلْ عليه فيه قرآنٌ لَأَمَرَه بما ظهَرَ له، ولكنْ سكتَ عنه حتَّى يُلقَّى الأمرَ مِن شارِعِه تعالى، فهذا مِن أقوى شيءٍ في سؤالِ العلماء وتَرْكِ الاجتهادِ في موضعٍ يجبُ فيه الاقتداءُ بمَن تقدَّمَ وبالأعلمِ فالأعلم.
          فَصْلٌ ذكَرَهُ ابنُ هُبَيرةَ فِي «إشراقه»، إجماعُ الأربعةِ عليه كلِّه: الأنبياءُ لَا يُورَثون وما خلَّفوه صَدَقةٌ تُصرَفُ إِلَى المصالِح.
          وأسبابُ الإرثِ فِي غيرِهم ثلاثةٌ: قَرَابةٌ وَهي الرَّحِمُ، وَنِكاحٌ، وَولاءٌ، وعامٌّ وهو الإسلام. وموانعُه ثلاثةٌ: رِقٌّ، وَقتْلُ العَمْدِ بغيرِ حقٍّ، وَاختلافُ دِينٍ.
          والوارثون مِن الرِّجالِ عَشَرَةٌ، ومِن النِّساءِ سبعةٌ، وهم مقَدَّمون عَلَى ذوي الأرحام، ثمَّ منهم عَصَبةٌ وذو فَرْضٍ، فَالذُّكورُ كلُّهم عَصَبةٌ إِلَّا الزَّوجَ، والأخَ مِن الأمِّ، والأبَ والجدَّ مع الابنِ وابنهِ، والإناثُ كلُّهنُّ ذواتُ فروضٍ إِلَّا المولاةَ المعتِقَةَ، وَالأخواتُ معَ البناتِ عَصَبةٌ لهنَّ مَا فَضَلَ وليست لهنَّ فريضةٌ معهنَّ، ومَن يعصِّبُها أخوها أو ابنُ عمِّها.
          وإنَّ هؤلاء يَرِثون فِي حالٍ ويُحجَبون حَجْبَ إسقاطٍ فِي حالٍ سِوى خمسةٍ: الزَّوجانِ، والأبوانِ وولدُ الصُّلْبِ. وأربعةٌ مِن الذُّكور يَرِثون أربعًا مِن النِّساءِ وَلا تَرِثُهُمُ النِّساء مطلقًا: ابنُ الأخِ يَرِثُ عمَّتَه ولا تَرِثه، والعمُّ يَرِثُ بنتَ أخيه ولا تَرِثُه، وابنُ العمِّ يَرِثُ ابنةَ عمِّه ولا تَرِثُه، والمولى المعتِقُ يَرِث عَتِيقتَه وَلا تَرِثُه.
          امرأتانِ تَرِثانِ رَجُلَينِ دونَهما: أمُّ الأبِ تَرِثُ ابنَ بِنْتِها ولا يَرِثُها، والمولاةُ المعتِقَةُ تَرِثُ عتيقَها ولا يَرِثُها.
          أربعةٌ ذكورٌ يُعصِّبُون أخواتِهم ويمنعونهنَّ الفرْضَ ويقتسمون مَا بَقِيَ للذَّكرِ مِثْلُ حظِّ الأنثيين: البنونُ وبنوهم وإنْ سَفَلُوا، والإخوةُ الأشقَّاءُ ومِن الأبِ. وَلا يُراعَى فِي تعصيبِ الذُّكورِ والإناثِ الإضرارُ بهنَّ ولا التَّوفيرُ عليهنَّ، ومَن عَدَا هؤلاءِ مِن العَصَباتِ ينفردُ ذكورُهم بالميراثِ دون الإناثِ كبني الإخوةِ والأعمامِ وبنيهِم، وَهَذَا العِلمُ له كتبٌ مؤلَّفةٌ فلا نُطَوِّلُ به وقد ذكرْتُ مُهِمَّها في «شرح فرائضِ الوسيط» في مجلدٍ، فسارِعْ إليه.