التوضيح لشرح الجامع البخاري

أبواب الاعتكاف

          ♫
          ░░33▒▒ أَبْوَابُ الاعتِكَافِ
          ░1▒ بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ وَالِاعْتِكَافِ فِي المَسَاجِدِ كُلِّهَا
          لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} الآية [البقرة:187].
          2025- 2026- 2027- ذَكَرَ فِيْهِ ثَلاثةَ أحاديثَ:
          أَحَدُهَا: حَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ).
          ثَانِيْهَا: حديثُ عَائِشَةَ مثلَه: (حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ).
          ثَالِثُهَا: حديثُ أَبِي سَعِيْدٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ). الحديثَ بطوِ، وقَدْ سَلَفَ.
          وحديثُ عَائِشَةَ وابنِ عُمَرَ أخرجَهما مُسْلِمٌ أَيْضًا، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وحديثُ اعتكافِه العَشْرِ الأَوسَطِ قبلَ بِنَائِه بعَائِشَةَ.
          والاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ عَلَى الشَّيءِ والمُقامُ عَلَيْهِ، وِمْنُه: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138] أي: يُقِيمُونَ، يُقَالُ: عَكَفَ يَعْكُفُ: إِذَا أَقَامَ، وفي الشَّرْعِ: إقامةٌ مخصوصةٌ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ: إنِّي لَأَمْكُثُ فِي المسجِدِ السَّاعَةَ وما أَمكُثُ إلَّا لأَعتَكِفَ، قَالَ عَطَاءٌ: وهُوَ اعتِكَافٌ مَا مَكَثَ فِيْهِ، وإنْ جَلَسَ فِي المسجِدِ احتسابَ الخيرِ فَهُوَ مُعتَكِفٌ وإِلَّا فَلَا.
          والمباشرةُ فِي الآيةِ: الجماعُ عندَ الأكثرين، وقِيْلَ: المُقَدِّمَاتُ. وقَامَ الإجماعُ عَلَى أنَّ الاعتكافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مسجدٍ لهذهِ الآيةِ، ولَا عبرةَ بمخالفةِ ابنِ لُبَابَةَ المالكيِّ فِيْهِ لشُذُوذِه.
          وقولُه: (فِي المَسَاجِدِ كُلِّهَا) أَشَارَ بِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ باختصاصِه ببعضِ المَسَاجِدِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: لَا اعتِكَافَ إلَّا فِي المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: مَسجِدِ مَكَّةَ والمدينةِ والأَقْصَى، وقَالَ سَعِيْدُ بنُ المُسَيِّبِ: لَا اعتِكَافَ إلَّا في مَسجِدِ نَبِيٍّ، وفي «الصَّومِ» لابنِ أَبِي عَاصِمٍ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حُذَيْفَةَ: لَا اعتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلعم.
          قُلْتُ: ورَوَى الحَارِثُ عَنْ عليٍّ: لَا اعتِكَافَ إلَّا فِي المَسجِدِ الحرامِ ومَسجِدِ المدينةِ، وذَهَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى أنَّ الآيةَ خَرَجَتْ عَلَى نوعٍ مِنَ المساجدِ وهُوَ مَا بَنَاه نَبِيٌّ، لأنَّ الآيةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم وهُوَ مُعتَكِفٌ فِي مَسجدِهِ فكَانَ القَصْدُ والإِشَارَةُ إِلَى نوعِ تلكَ المَسَاجِدِ مِمَّا بَنَاهُ نَبِيٌّ.
          وذَهَبَتْ طائفةٌ إِلَى أنَّه لَا يَصِحُّ الاعتِكَافُ إلَّا فِي مسجدٍ تُقَامُ فِيْهِ الجمعةُ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابنِ مَسْعُوْدٍ وعُرْوَةَ وعَطَاءٍ والحَسَنِ والزُّهْرِيِّ، وهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي «المُدَوَّنَةِ» قَالَ: أمَّا مَنْ تَلْزَمُهُ الجُمُعَةُ فلا يَعْتَكِفُ إلَّا فِي الجَامِعِ، قَالَ: وأقلُّ الاعتكافِ عَشَرَةُ أيَّامٍ، ورَوَى عَنْهُ ابنُ القَاسِمُ: لَا بَأْسَ بِهِ يَوْمًا ويومينِ، وقَدْ رُوِيَ أنَّ أقلَّه يومٌ وليلةٌ.
          وقَالَ فِي «المُدَوَّنَةِ»: لَا أَرَى أنْ يَعْتَكِفَ أقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أيَّامٍ، فإِنْ نَذَرَ دُوْنَهَا لَزِمَهُ، وعندَنا يَصِحُّ اعتِكَافُ قَدْرٍ يُسَمَّى عُكُوفًا، وضَابِطُهُ مُكْثٌ يَزِيدُ عَلَى طمأنينةِ الرُّكُوعِ أَدْنَى زيادةٍ، ومِنْ أَصْحَابِنَا مَنِ اكتَفَى بالمرورِ بِلَا لُبْثٍ. وقَالَتْ طَائِفَةٌ: الاعتِكَافُ فِي كلِّ مسجِدٍ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّخَعِيِّ وأَبِي سَلَمَةَ والشَّعْبِيِّ، وهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيْفَةَ والثَّوْرِيِّ والشَّافِعِيِّ _فِي الجديدِ_ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُدَ والجمهورِ، والبُخَارِيِّ حَيْثُ استَدَلَّ بالآيةِ وعُمُومِها فِي سَائِرِ المساجِدِ، وهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي «المُوَطَّأِ» قَالَ: لَا أُرَاهُ كُرِهَ الاعتِكَافَ فِي المَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيْهَا إلَّا كراهيةَ أن يَخْرُجَ المُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعتَكَفَ فِيْهِ إِلَى الجُمُعَةِ، فإنْ كَانَ مَسجِدًا لَا يُجَمَّعُ فِيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إتيانُ الجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ فلَا أَرَى بَأْسًا بالِاعْتِكَافِ فِيْهِ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة:187] فعَمَّ المَسَاجِدَ كلَّها ولَمْ يَخُصَّ مِنْهَا شيئًا، ونَحوُه قَولُ الشَّافِعِيِّ: المسجدُ الجَامِعُ أَحَبُّ إليَّ وإن اعتَكَفَ فِي غيرِه فَمِنَ الجمعةِ إِلَى الجمعةِ.
          قُلْتُ: عُلِّلَ بأُمُورٍ: كَثْرَةِ الجماعةِ واستغنائِه عَنِ الخُرُوجِ إِلَى الجمعةِ، وللإجماعِ عَلَيْهِ، إذْ قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَصِحُّ الاعتِكَافُ فِي غيرِه، وبِهِ قَالَ الحَكَمُ وحَمَّادٌ، وأَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ فِي القديمِ إِلَى اشتراطِهِ.
          وقَالَ الجُوَيْنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: الجماعةُ إِذَا كَانَتْ فِي بعضِ مَسَاجِدِ العَشَائِرِ أكثرَ مِنْ جماعةِ الجَامِعِ فالمَسْجِدُ أَولَى مِنْهُ، وعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أنَّ الاعتِكَافَ الوَاجِبَ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُه فِي غيرِ مسجدِ الجماعةِ، والنَّفْلُ يَجُوزُ أَدَاؤُه فِي غيرِهِ.
          فَرْعٌ: قَدْ يَتَعَيَّنُ الجَامِعُ فِي صورةٍ وهِيَ: مَا إِذَا نَذَرَ اعتِكَافَ مُدَّةٍ متتابعةٍ تَتَخَلَّلُهَا جُمُعَةٌ وهُوَ مِنْ أهلِها فإنَّ الخُرُوجَ لَهَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الأصحِّ، قَالَهُ القَاضِي الحُسَيْنُ.
          فَرْعٌ: يَصِحُّ فِي سَطْحِ المَسْجِدِ وَرَحَبَتِهِ.
          فَائِدَةٌ: قولُه: (وَكَانَ المَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ) قَالَ صَاحِبُ «العينِ»: العَرِيشُ: شِبْهُ الهَوْدَجِ، وعَرْشُ البَيتِ: سَقفُه. وقَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَانَ الجريدُ قَدْ بُسِطَ فَوقَ الجُذُوعِ بِلَا طِينٍ فكَانَ المَطَرُ يَسْقُطُ دَاخِلَ المَسجِدِ، وكَانَ ◙ لَمَّا بَنَى مَسجِدَه أَخْرَجَ قُبُورَ المشركينَ فَقَطَعَ النَّخْلَ الَّتِي كانَتْ فِيْهِ، فَجَعَلَ مِنْهَا سَوَارِيَ وجُذُوعًا وأَلْقَى الجَرِيْدَ عَلَيْهَا، فَقِيْلَ لَهُ بعدَ ذلكَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ ألَا تَبْنِيْهِ؟ قَالَ: ((عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوْسَى)).
          فَرْعٌ: الجديدُ مِنْ قَولَيِ الشَّافِعِيِّ: أنَّه لَا يَصِحُّ اعتِكَافُ المرأةِ / فِي مَسجِدِ بيتِها، وهُوَ المُعْتَزَلُ المُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ، ووَافَقَنَا مَالِكٌ وأحمدُ، والقَدِيمُ وِفَاقًا لأَبِي حَنِيْفَةَ: نَعَمْ، وبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ والثَّوْرِيُّ وابنُ عُلَيَّةَ، وعَلَى هَذَا ففي صِحَّةِ اعتِكَافِ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدِ بيتِهِ وَجْهَانِ: أصحُّهما المَنْعُ.
          فَرْعٌ: للمُعتَكِفِ قراءةُ القرآنِ والحديثِ والعلمِ وأُمُورِ الدِّينِ وسَمَاعُ العلمِ، خِلَافًا لمالكٍ، وعَنِ ابنِ القَاسِمِ: لَا يَجُوزُ لَهُ عِيَادَةُ المريضِ ولَا مُدَارَسَةُ العِلْمِ، ولَا الصَّلَاةُ عَلَى الجِنَازَةِ خِلَافًا لابنِ وَهْبٍ.
          فَرْعٌ: لَا بَأْسَ بِتَطْيِيْبِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي «الأمِّ»: ولَا بَأْسَ بأنْ يَقُصَّ فِيْهِ لِأَنَّهُ وعْظٌ وتَذْكِيْرٌ.
          فَرْعٌ: فِي «شرحِ الهدايةِ»: أنَّه يُكْرَهُ الَّتعلِيمُ فِي المَسْجِدِ بأَجْرٍ، وكَذَا كِتَابَةُ المُصْحَفِ بأَجْرٍ، وقِيْلَ: إنْ كَانَ الخَيَّاطُ يَحْفَظُ المَسْجِدَ فلَا بَأْسَ بأنْ يَخِيْطَ فِيْهِ.
          فَائِدَةٌ: قَامَ الإِجْمَاعُ عَلَى أنَّ الاعتِكَافَ لَا يَجِبُ إلَّا بالنَّذْرِ.
          فَرْعٌ: مَنْ نَوَى اعتِكَافَ مُدَّةٍ، وشَرَعَ فِيْهَا فلَهُ الخُرُوجُ مِنْهَا خِلَافًا لمالكٍ، وادَّعَى ابنُ عَبْدِ البَرِّ عَدَمَ اختلافِ الفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وأنَّ القَضَاءَ لازمٌ عندَ جميعِ العُلَمَاءِ، فإنْ لم يَشْرَعْ فالقَضَاءُ مُسْتَحَبٌّ، ومِنَ العُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَهُ إنْ لم يَدْخُلْ فِيْهِ، واحتَجَّ بحديثِ عَائِشَةَ: (كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ...) الحديثَ. وفِيْهِ: فأتَى مُعْتَكَفَهُ ((فَلَمَّا اعْتَكَفَ أَفْطَرَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ))، وهُوَ قَوْلُ غريبٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمَّا قَطَعَ اعتِكَافَهُ مِنْ أَجْلِ أزواجِه قَضَاهُ عَلَى مَذهَبِ مَنْ يَرَى قَضَاءَ التَّطَوُّع إِذَا قَطَعَهُ، قُلْتُ: لَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِيْهِ.