التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الجنائز

          بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسِّر وأعن بسم الله الرحمن الرحيم.
          ░░23▒▒ كِتَابُ الجَنَائِزِ.
          هي بفتحِ الجيم مِن جَنَزَ إذا سَتَرَ، جَمْعُ جنازةٍ بفتْحِ الجيمِ وكسْرِها.
          ░1▒ بابٌ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ.
          وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مِفْتَاحُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ.
          1237- ثُمَّ ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي ╡، فَأَخْبَرَنِي _أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي_ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ) قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ).
          1238- وحديثَ شَقِيقٍ عن عَبْدِ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ) وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ.
          الشرح: ترجمةُ البابِ بعضٌ مِن حديثٍ صحيحٍ أخرجهُ أبو داودَ عن معاذِ بنِ جَبَلٍ ☺ قالَ رسول الله صلعم: ((مَنْ كان آخرُ كلامِهِ لا إله إلَّا اللهُ دخل الجنَّة)) قال الحاكم: صحيحُ الإسنادِ.
          ولأبي زُرعةَ عند وفاتِه فيه حكايةٌ أخبرنا بها الوجيه العَوفيُّ السَّكَنْدَرِيُّ المعمِّرُ مشافهةً عن ابن رَوَاجٍ عَامَّةً، أخبرَنَا السِّلَفيُّ أخبرنا أبو عليٍّ البَرَدَانيُّ حدَّثَنا إبراهيمُ بن هنَّادٍ النَّسفيُّ حدَّثَنا أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن محمَّدٍ القطَّان حدَّثنا أبو عبد الله محمَّد بن مسلم بن وَارَةَ الرَّازيُّ قال: حضرتُ مع أبي حاتمٍ محمَّدِ بن إدريس الرَّازيِّ عند أبي زُرْعَةَ الرَّازيِّ وهو في النَّزْعِ فقلتُ لأبي حاتمٍ: تعال حتَّى نلقِّنَهُ الشهادَةَ، فقال أبو حاتمٍ: إنِّي لأستحي مِن أبي زُرعةَ أنْ ألقِّنَهُ الشَّهادةَ ولكنْ تعالَ حتَّى نتذاكرَ الحديثَ فلعلَّه إذا سمِعَهُ يقول، فبدأتُ فقلتُ: حدَّثَنا أبو عاصمٍ النَّبيلُ حدَّثنا عبدُ الحميد بن جعفرٍ، فأُرتِج عليَّ الحديث حتَّى كأنِّي ما سمعْتُه ولا قرأتُه، فبدأ أبو حاتمٍ فقال: حدَّثنا محمَّد بن بشَّارٍ حدَّثنا أبو عاصمٍ النَّبيل عن عبدِ الحميد بن جعفرٍ، فأُرتج عليه كأنَّه ما قرأه، فبدأ أبو زُرعةَ فقال: حدَّثنا محمَّد بن بشَّارٍ حدَّثنا أبو عاصمٍ النَّبيل حدَّثنا عبد الحميد بن جعفرٍ عن صالحِ بن أبي عَرِيبٍ عن كثير بن مُرَّةٍ عن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله صلعم: ((مَنْ كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلهَ إلَّا الله)) وخرجتْ روحُه مع الهاء قبلَ أنْ يقولَ: ((دَخَلَ الجنَّةَ)) وذلك سنةَ اثنتينِ وستِّينَ ومِئَتينِ.
          وقولُ وهبٍ وقع في حديثٍ مرفوعٍ إلى رسولِ الله صلعم رواهُ البيهقيُّ مِن حديثِ معاذِ بن جبلٍ أنَّ رسولَ الله صلعم قال له حين بعثه إلى اليمن: ((إنَّكَ ستأتي أهلَ كتابٍ فيسألونكَ عن مِفتاحِ الجَّنِةِ، فقل: شهادةُ أن لا إله إلَّا الله، ولكنْ مفتاحٌ بلا أسنانٍ، فإنْ جئتَ بمفتاحٍ له أسنانٌ فُتِحَ لك، وإلَّا لم يُفتحْ لك)).
          وفي «سيرة ابن إسحاقَ»: لَمَّا أرسلَ العلاءَ بنَ الحضرميِّ: ((إذا سُئلتَ عن مفتاحِ الجنَّةِ، فقل: مفتاحها لا إله إلَّا الله)) وفي «مسند أبي داود الطَّيالسيِّ» مِن حديثِ أبي يَحيى القتَّات عن مجاهدٍ عن جابرٍ مرفوعًا: ((مفتاحُ الجنَّةِ الصَّلاةُ)) وذَكَرَ أبو نُعَيمٍ في كتابِه «أحوال الموحِّدين الموقنين» أنَّ أسنانَ هذا المفتاحِ هي الطاعاتُ الواجبةُ مِن القيامِ بطاعةِ الله تعالى وتأديتِها والمفارقةِ للمعاصي ومجانبتِها.
          وكذا قال ابنُ بطَّالٍ: إنَّه أرادَ بالأسنانِ القواعدَ الَّتي يُبْنَى الإسلامُ عليها الَّتي هي كمالُ الإيمانِ ودعائمُه خلاف قولِ الغاليةِ مِن الْمُرْجِئةِ والجَهْمِيَّةِ الَّذين يقولون إنَّ الفرائضَ ليست إيمانًا، وقد سمَّاها اللهُ تعالى إيمانًا بقولِه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي صلاتَكم إلى بيتِ المقدِسِ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] واستئذانُهم له عملٌ مفترضٌ عليهم سُمُّوا به مؤمنين كما سُمُّوا بإيمانِهم باللهِ ورسولِه.
          وقال الدَّاوديُّ: قولُ وَهْبٍ بمعنى التَّشديدِ، ولعلَّه لم يبلُغْهُ حديثُ أبي ذرٍّ وحديثُ عِتْبَانَ وحديثُ معاذٍ، فيتأمَّل المعنى، ومَن قال لا إله إلَّا الله مخلصًا مِن قلبِه فهو مفتاحٌ له أسنانٌ، إلَّا أنَّه إنْ خَلَطَ ذلكَ بالكبائرِ حتَّى ماتَ مُصِرًّا عليها لم تكن أسنانُه بالتَّامَّةِ، فربَّما طالَ علاجُه وربَّما يُسِّر له الفتحُ بفضلِه.
          ورُوِيَ عن عبدِ الله بنِ مَعْقلٍ قال: كان وهبُ بنُ مُنَبِّهٍ جالسًا في مجلسِ ابنِ عبَّاسٍ فسُئِلَ: أليسَ تقولُ: إنَّ مفتاحَ الجنَّةِ لا إله إلَّا الله؟ قال: بلى وجدتُ في التَّوراةِ: ولكن اتخِذُوا له أسنانًا، فسمع ذلك ابنُ عبَّاسٍ فقال: أسنانُه واللهِ عندِي:
          أَوَّلُها: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وهو المفتاح.
          والثَّاني: الصَّلاةُ، وهو القنطرة.
          والثَّالثُ: الزَّكاةُ، وهي الطَّهُور.
          والرَّابعُ: الصَّومُ، وهو الجُنَّة.
          والخامسُ: الحجُّ، وهي الشريعة.
          والسَّادسُ: الجهادُ.
          والسَّابعُ: الأمرُ بالمعروفِ / وهو الأُلفَةُ.
          والثَّامنُ: الطاعةُ، وهي العِصمةُ.
          والتَّاسعُ: الغُسلُ مِن الجنابةِ وهي السَّريرةُ، وقد خابَ مَن لا سِرَّ له، هذا والله أسنانُها.
          وحديثُ أبي ذرٍّ يأتي في اللباس أيضًا وفيه: ((مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ)). قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ ثلاثًا ((عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ)) وكان أبو ذرٍّ إذا حدَّث به يقول: وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذرٍّ. قال أبو عبد الله: هذا عند الموتِ أو قبلَه إذا تابَ وندِمَ وقال لا إله إلَّا الله، غُفِرَ له [خ¦5827].
          وهو يوضِّحُ ما استُبعِدَ مِن أنَّه ليس موافقًا التَّبويبَ الَّذي فيه مَن كان آخِرُ كلامِه لا إله إلَّا الله إذْ فيه: ((ثمَّ ماتَ على ذلكَ)) ودلَّ أيضًا أنَّ مَن قالَها _وإنْ بَعُدَ_ وماتَ على اعتقادِها كذلك، ففي مسلمٍ مِن حديثِ عثمانَ مرفوعًا: ((مَنْ ماتَ وهو يَعْلَمُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله دخلَ الجنَّةَ)) وفيه مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: ((لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلَّا الله)) ولابن ماجه مثلُه مِن حديثِ عبد الله بن جعفرٍ بزيادةِ: ((الحليم الكريم، سبحانَ الله ربِّ العرش العظيم، الحمد لله ربِّ العالمين)).
          وحديثُ عبدِ الله أخرجه البُخاريُّ في موضعٍ آخَرَ بلفظِ: قال رسولُ الله صلعم كلمةً وقلتُ أُخرَى، قال: ((مَنْ ماتَ يجعل لله نِدًّا دخلَ النَّارَ)) وقلتُ: مَنْ ماتَ لا يجعلُ لله نِدًّا دخلَ الجنَّةَ [خ¦4479]. وفي روايةِ وكيعٍ وابن نُمَيرٍ لمسلمٍ بالعكسِ: ((مَنْ مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنَّةَ)) وقلتُ أنا: مَن ماتَ يشركُ بالله شيئًا دخلَ النَّارَ. وفيه ردٌّ على مَن قال: إنَّ ابن مسعودٍ سَمِعَ أَحَدَ الحُكْمينِ فرواه وضمَّ إليه الحكمَ الآخَرَ قياسًا على القواعدِ الشرعيَّةِ، والظَّاهرُ أنَّه نَسِيَ مرَّةً وهي الأُولَى وحفظ مرَّةً وهي الأُخرى فرواهما مرفوعينِ كغيرِه مِن الصَّحابةِ. ودخولُ المشركِ النَّار دخولُ تأبيدٍ.
          إذا تقرَّرَ ذلكَ فالإجماعُ قائمٌ على أنَّ مَن ماتَ على ذلك دخلَ الجنَّةَ لكنْ بعد الفصلِ بين العِبادِ ورَدِّ المظالمِ إلى أهلِها، فيُزحزَحُ عنها ويُباعَدُ ويعجَّلُ له الدخولُ، أو يصيبُه سَفْعٌ مِن النَّارِ بكبائرٍ ارتكبَها.
          وفيه ردٌّ على الرَّافضةِ والإباضيَّةِ وأكثرِ الخوارجِ في قولِهم: إنَّ أصحابَ الكبائرِ والمذنبين مِن المؤمنين يخلدون في النَّار بذنوبِهم، والقرآنُ ناطقٌ بتكذيبِهم قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] والحُجَّة عليهم أنَّ قَبولَ العملِ يقتضي ثوابًا والتخليدُ ينافيه، وقد أخبر الصَّادقُ في كتابِه: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] وترْكُ المثوبةِ على الإحسانِ لا يليقُ بالربوبيَّةِ.
          وقولُ ابن مسعودٍ السَّالفُ أصلٌ في القولِ بدليلِ الخطابِ وإثباتِ القياسِ. وقولُ أبي ذرٍّ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟) إنَّما ذكره لأنَّه ◙ قال: ((لا يزني الزَّاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ)) وما في معناه، فوضَّح له ◙ وإنْ وقعَ ذلك منه.