التوضيح لشرح الجامع البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله

          ♫
          {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
          قال الإمام أبو عبد الله البخاريُّ ☼:
          ░░1▒▒ بَابُ كَيْفَ كَانَ بُدُوُّ الوَحْيِ إِلَى رَسْولِ اللهِ صلعم وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:162].
          الكلامُ على هذه التَّرجمةِ مِن وجوهٍ:
          أحدُها: قولُه: (بَاب) يجوز رفعُهُ بلا تنوينٍ على الإضافة وهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هذا بابُ، ويجوز تنوينُهُ، وهما جاريان في نظائرِهِ أيضًا، ووقع في بعض نسَخِ البخاريِّ بغيرِ ذكرِ (باب) وهي سماعُ أبي العِزِّ الحرَّاني.
          ثانيها: / (بُدُوُّ) يجوز فيه الهمزُ مِن الابتداء، وترْكُهُ مِن الظُّهُورِ، والأوَّلُ أرجحُ، وقال القاضي عِياض: رُوي بالهمزِ مع سكون الدَّالِ مِن الابتداءِ، وبِغير همزٍ معَ ضمِّ الدَّال وتشديدِ الواو مِن الظُّهورِ.
          قال أهل اللُّغة: بدأتُ الشَّيء بدْءًا ابتدَأْتُ به، وبَدَا الشَّيءُ _بلا همزٍ_ بُدُوًّا بتشديدِ الواوِ كَقَعَدَ قُعُودًا، أي ظَهَرَ. فالمعنى على الأوَّلِ: كيف كان ابتداؤُهُ، وعلى الثاني: كيفَ كان ظهُورُهُ.
          قال بعضُهُم فيما حكاه القاضي: الهمْزُ أحسَنُ لأنَّه يَجمع المعنيين، والأحاديثُ المذكورةُ في البابِ تدلُّ عليه لأنَّه بيَّنَ فيه كيف يأتيه الملَكُ ويَظهر له وكيفَ كان ابتداءُ أمرِهِ أوَّلَ ما ابْتُدِئ به، وقيل: الظُّهورُ أحسَنُ لأنَّه أعمُّ.
          ثالثُها: قولُه: (وَقَوْل اللهِ تعالى) هو مجرورٌ ومرفوعٌ معطوفٌ على (كَيْفَ) قاله النَّوويُّ في «تلخيصِه»، وعبارةُ القاضي: يجوز الرَّفعُ على الابتداءِ، والكسرُ عطفًا على (كَيْفَ) وهي في موضِعِ خَفْضٍ، كأنَّه قال: بابُ كيفَ كذا وبابُ معنى قولِ الله، أو الحُجَّةُ بقول الله. قال: ولا يَصِحُّ أنْ يُحمَلَ على الكيفيَّةِ لقولِ الله تعالى إذْ لا يُكيَّفُ كلامُ الله.
          رابعُها: الوحيُ أصلُهُ الإعلامُ في خَفَاءٍ وسرعةٍ، ومنهُ الوَحَاءَ الوَحَاءَ، وهو في عُرْفِ الشَّرع إعلامُ الله تعالى أنبياءَه ما شاءَ مِن أحكامِهِ وأَخبارِهِ، فكُلُّ ما دلَلْتَ عليه بهِ مِنْ كتابٍ أو رسالةٍ أو إشارةٍ بشيءٍ فهو وَحْيٌ، ومِن الوحيِ الرُّؤيا والإلهامُ، وأوحَى أفصَحُ مِن وَحَى وبه جاءَ القرآن، والثَّانيةُ أَسَدِيَّةٌ كما قاله الفرَّاء.
          وقال القزَّاز في «جامعه»: هو مِن الله إلهامٌ ومِن النَّاسِ إشارةٌ. وستعرفُ في أوَّلِ الحديث الثَّاني إن شاء الله تعالى أقسامَهُ.
          والوحي بمعنى الأمرِ في قولِه تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111] وبمعنى الإلهامِ في قولِه تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7] وبمعنى التَّسخير في قولِه تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] وبمعنى الإشارةِ في قولِه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11].
          خامسُها: قال أبو إسحاق الزَّجَّاج وغيرُهُ: هذه الآية جوابٌ لِمَا تقدَّم مِن قولِهِ تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} الآية [النساء:153] / فأَعْلَمَ اللهُ تعالى أنَّ أمْرَهُ كأمْرِ النبيِّينَ مِن قبلِهِ يُوحَى إليه كما يُوحَى إليهم. وقيل: المعنى أوحَى الله تعالى إلى محمَّدٍ صلعم وحْيَ رسالةٍ كما أوحى إلى الأنبياءِ لا وَحْيَ إلهامٍ.
          سادسُها: ذَكَرَ البخاريُّ ☼ هذه الآيةَ في أوَّلِ كتابِهِ تبرُّكًا، ولمناسبتِهَا لِمَا ترجَمَ له، وقد أسلفنا فيما مضى أنَّه يَستدِلُّ للترجمة بما وقع له مِن قرآنٍ وسنَّةٍ مُسْنَدَةٍ وغيرِهِما، وأرادَ أنَّ الوحيَ سُنَّةُ الله تعالى في أنبيائِه.
          سابعُها: بدأَ البخاريُّ ☼ بالوحي، ومالكٌ في «الموطَّأ» بوُقُوتِ الصَّلاة، ومنهم مَن بدَأَ بالإيمان، ومنهم مَن بدَأَ بالوضوء، ومنهم مَن بدَأَ بالطَّهارة، ومنهم مَن بدَأَ بالاستنجاء، ولكلٍّ وَجْهٌ، والله الموفِّق.
          وثامنُها: {نُوحٍ} أعجميٌّ والمشهورُ صرفُهُ ويجوزُ تركُهُ.