التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله}

          ░12▒ (بابُ: قَوْلِ اللهِ _╡_: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]) /
          2805- ثُمَّ ساق حديثَ حُميدٍ عَنْ أَنَسٍ: (غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ...) فذكر قتله يوم أُحدٍ، قَالَ أَنَسٌ: (فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ فَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}الآية [الأحزاب:23]).
          2806- ثُمَّ ذكر قصَّة الرُّبَيِّعِ في كسر الثَّنيِّة بطوله.
          2807- وحديثَ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: (نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ يَقْرَؤُها، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِيِّ الَّذي جَعَلَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ شَهَادَتَهُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ _تَعَالَى_: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]).
          الشَّرح: ({نَحْبَهُ}) عهدَه، وقال ابن عبَّاسٍ: أي مات على ما عاهد عليه {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ذلك {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، وروى الواحِديُّ مِنْ حديث إسماعيل بن يحيى البغداديِّ عن أبي سنان عن الضَّحَّاك عن النَّزَّال بن سَبْرة عن عليٍّ قال: قالوا له: حَدِّثْنا عن طلحةَ، فقال: ذاك امرؤٌ نزلت فيه آيةٌ مِنْ كتاب الله {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] طلحة ممَّن قضى نحبه لا حساب عليه فيما يُستقبل، ومِنْ حديث عيسى بن طلحة أنَّه _◙_ مرَّ عليه طلحة فقال: ((هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ))، وقال مقاتلٌ في «تفسيره»: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} ليلةَ العقبة بمكَّة {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني أجلَه فمات على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه المقتولين بأحدٍ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} يعني المؤمنين مَنْ ينتظر أجله عَلى الوفاء بالعهد {وَمَا بَدَّلُوا} كما بدَّل المنافقون.
          وحديث أنسٍ قال التِّرمِذيُّ فيه: حديثٌ حسنٌ مشهورٌ عن حُميدٍ.
          قلتُ: وفيه الأخذُ بالشِّدَّة واستهلاك الإنسان نفسه في الطَّاعة، وفيه الوفاءُ بالعهد بإهلاك النَّفس ولا يعارض قولَه _تعالى_: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] لأنَّ هؤلاء عاهدوا الله فوفَوا بما عاهدوه مِنَ العناء في المشركين وأخذوا بالشِّدَّة بأنْ باعوا نفوسهم مِنَ الله بالجنَّة كما قال تعالى، ألَا ترى قول سعد بن معاذٍ: (فَمَا اسْتَطَعْتُ مَا صَنَعَ) يريد ما استطعت أن أصف ما صنع مِنْ كثرة مَا أعيا وأبلى في المشركين.
          وقوله: (لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ) وقال في غزوة أُحدٍ: ليرينَّ الله ما أَجِد _بفتح الهمزة وتشديد الدال، وبفتح الهمزة وتخفيف الدَّال_ أي ما أفعل، ووقع في مسلمٍ: ليراني الله، بالألف وهو صحيحٌ كما قال النَّوويُّ، ويكون (مَا أَصْنَعُ) بدلًا مِنَ الضَّمير في (أراني)، ووقع في بعض نسخه: <ليرينَّ الله> _بياءٍ مثنَّاةٍ تحتُ مفتوحةٍ بعد الرَّاء ونونٍ مشدَّدةٍ، كما في البُخاريِّ_ أي: يراه الله واقعًا بارزًا، وضُبط أيضًا بضمِّ الياء وكسر الرَّاء، أي: لَيُرينَّ اللهُ للنَّاس ما أصنع ويُبرزه لهم كأنَّه ألزم نفسه إلزامًا مؤكَّدًا ولم يُظهره مخافة ما يتوقَّع مِنَ التَّقصير في ذلك، ويؤيِّده رواية مسلمٍ: فهابَ أنْ يقول غيره، ولذلك سمَّاه الله عهدًا بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}.
          وقوله: (أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونَ أُحُدٍ) وفي مسلمٍ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، يعني بقوله: وَاهًا، إمَّا تفجُّعًا وإمَّا تلهُّفًا وتحنُّنًا، ويمكن أن يكون حقيقةً كما بحثه ابن بَطَّالٍ لأنَّ ريحها يوجد مِنْ مسيرة خمس مئة عامٍ، فيجوز أن يشمَّ رائحةً طيِّبةً تُشَهِّيه الجنَّة وتحبِّبُها له، قال: ويمكن أنْ يكون مجازًا فالمعنى: إنِّي لأعلم أنَّ الجنَّة في هذا الموضع الَّذي يُقاتَل فيه لأنَّ الجنَّة في هذا الموضع تُكتسب وتُشترى.
          وأُخْتُهُ الَّتي عَرَفَتْ بَنَانَهُ _أي الأصابع أو أطرافها_ هي الرُّبَيِّعُ المذكورة بعدُ، وذَكر بعضُهم أنَّها سُمِّيت بنانًا لأنَّ بها صلاحَ الأحوال الَّتي يستعين بها الإنسان.
          وحديثُ خزيمةَ ذكره في سورةِ براءة [خ¦4679].
          وقوله: فَفَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ لم يُرِد أنَّ حِفْظَها قد ذهب عن جميع النَّاس فلم تكن عندهم لأنَّ زيد بن ثابتٍ قد حفظها فهما اثنان، والقرآن إنَّما يثبُت بالتَّواتر لا باثنين، ويدلُّ عَلى أنَّ معنى وجدها عنده يريد: مكتوبةً، وقد رُوي أنَّ عمر قال: أشهد لسَمِعْتها مِنْ رسول الله صلعم، ورُوي أنَّ أُبيَّ بن كعبٍ قال مثل ذلك، وَعن هلال بن أميَّة مثله، فهؤلاء جماعةٌ، وإنَّما أمر أبو بكرٍ عند جمع المصحف عمرَ بن الخطاب وزيدًا بأنْ يطلبا على ما ينكرانه شهادة رجلين يشهدان سماع ذلك مِنْ في رسول الله _صلعم_ ليكون ذلك أثبت وأشدَّ في الاستظهار وممَّا لا يتسرَّع أحدٌ إلى دفعه وإنكاره، قاله القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب، وقد ذَكر في ذلك وجوهًا أُخر هذا أحسنُها ستأتي في باب: جمع القرآن في فضائله إن شاء الله تعالى [خ¦4986].
          فائدةٌ: خُزَيمة هو ابن ثابت بن الفَاكِه بن ثعلبةَ بن ساعدةَ بن عامر بن عَنَانِ بن عامر بن خَطْمَة، واسمه عبد الله بن جُشَم بن مالك بن الأوس أبو عُمارة، كانت معه راية بني خَطْمَة يوم الفتح، مِنْ ولده عبد الله بن محمَّد بن عُمَارة بن خُزيمة، له أخوان وَحْوَحٌ لا عقبَ له، وعبد الله بن ثابتٍ له عقبٌ. /
          وسبب كون شهادته بشهادتين _وذَكرها هنا ليأتيَ بالقضيَّة على وجهها_ أنَّه ◙ كلَّم رجلًا في شيءٍ فأنكره، فقال خزيمة: أنا أشهد، فقال _◙_: ((أتشهدُ ولم تُسْتَشْهَد؟)) فقال: نحن نصدِّقك على خبر السَّماء فكيف بهذا؟! فأمضى شهادته وجعلها شهادتين وقال له: ((لا تَعُدْ)).