التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {فإما منًا بعد وإما فداءً}

          ░150▒ باب: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمَّد:4].
          فيه حديث ثُمَامة، أي: السَّالفُ في الصَّلاة [خ¦462]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}: يَغْلِبَ الآية [الأنفال:67].
          اختَلف العلماء في حكم الأسرى، مِنْ أجل اختلافهم في تأويل الآية الَّتي ترجم بها البُخَاريُّ، فقال السُّدِّيُّ وابن جُرَيْجٍ: نسخَها آية السَّيف: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] وقال السُّدِّيُّ: نسخها {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]، ورُوي عن الصِّدِّيق أنَّه لا يفادى بأسير المشركين وإن أعطي فيه كذا وكذا مُدْيًا مِنْ مال الله، وهذا مخالفٌ عنه فيما سيأتي مِنْ إشارته ذلك في أُسارى بدر.
          وقال الزُّهْريُّ: كتب عمرُ بن الخَطَّاب: اقتلوا كلَّ مَنْ جرت عليه المواسي، وهو قول الزُّهْريِّ ومجاهدٍ، واعتلُّوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} الآيات [الأنفال:67]، قالوا: فأنكر الله إطلاق أسرى بدرٍ على نبيِّه على الفداء، فغير جائزٍ لأحدٍ أن يتقدَّم على فعله، وسنَّة الله في أهل الكفر إن كانوا مِنْ أهل الأوثان فقتلُهم على كلِّ حالٍ، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [التوبة:5]، وإن كانوا مِنْ أهل الكتاب حتَّى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأمَّا إطلاقهم على فداءٍ يُؤخذ منهم فتقويةٌ لهم، وقال الضَّحَّاك: قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} ناسخةٌ لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، ويُروى مثله عن ابن عمرَ قال: أليس بهذا أمرنا الله، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمَّد:4]؟ وهو قول عطاءٍ والشَّعْبيِّ والحسن البصريِّ كرهوا قتل الأسير، وقالوا: مُنَّ عليه أو فادِهِ، وبمثل هذا استدلَّ الطَّحَاويُّ فقال: ظاهر الآية يقتضي المنَّ أو الفداء ويمنع القتل. قالوا: ولو كان لنا مِنْ قتلهم بعد الإثخان والإسار ما لنا قَبله لم يفهم قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمَّد:4] فدلَّ أنَّ حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلافُ حكمه قبل ذلك.
          قال أبو عبيدٍ: والقول عندنا في ذلك أنَّ الآيات جميعًا محكماتٌ لا منسوخَ فيهنَّ، يبيِّن ذلك ما كان مِنْ أحكام رسول الله صلعم الماضية فيهم، وذلك أنَّه عمل بالآيات كلِّها مِنَ القتل والمنِّ والفداء حتَّى توفَّاه الله ╡ على ذلك، فكان أوَّل أحكامه فيهم يوم بدرٍ فعمل بها كلِّها يومئذٍ، بدأ بالقتل فقتل عقبةَ بن أبي مُعَيْطٍ والنَّضْر بن الحارث في قُفولِه، ثُمَّ قدم المدينة فحكم في سائرهم بالفداء، ثُمَّ حكَّم يوم الخندق سعدَ بن مُعاذٍ فقتل المقاتلة وسبى الذُّرِّيَّة، فصوَّبه صلعم وأمضاه، ثُمَّ كانت غزاة بني المُصْطَلِق رَهْط جُوَيْرية بنت الحارث فاستحياهم جميعًا وأعتقهم، ثُمَّ كان فتح مكَّة فأمر بقتل ابن خَطَلٍ ومِقْيَسٍ والقينتين وأطلق الباقين، ثُمَّ كانت حُنينٌ فسبى هَوَازن ومَنَّ عليهم وقتل أبا عَزَّة الجُمَحيَّ يوم أُحدٍ، وقد كان مَنَّ عليه يوم بدرٍ، وأطلق ثُمَامة بن أُثَالٍ، فكانت هذه أحكامَه صلعم بالمنِّ والفداء والقتل، فليس شيءٌ منها منسوخًا، والأمور فيهم إلى الإمام، وهو مخيَّرٌ بين القتل والمنِّ والفداء يفعل الأفضل في ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي ثَورٍ.
          قال المهلَّب: وأمَّا قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] فإنَّها نزلت في أسرى بدرٍ، أخذ فيهم برأي الصِّدِّيق في استحيائهم وقَبوله الفِداء فيهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيرُه بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات رسول الله صلعم يرى رأيه في ذلك، وكان أوَّل وقعةٍ أوقعها الله بالكفَّار فأراد الله أن يكسر شوكتهم بقتلهم، فعاتب اللهُ نبيَّه وأنزل عليه الآية: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} يعني: الفِداء {وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال:67] إعلاء كلمته وإظهار دينه بقتلهم، فقال صلعم: ((لو نزلت آية عذابٍ / ما نجا منه غيرُ عمرَ))، لأنَّهم طلبوا الفداء وكانت الغنائم محرَّمةً عليهم.
          وقال الطَّبَريُّ في قوله: (لَوْ نَزَلَتْ آيَةُ عَذَابٍ) إلى آخره وقوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ} الآية، [الأنفال:68] إن قيل: كيف استحقُّوا هذه اللَّائمة العظيمة؟ فالجواب أنَّه صلعم ومَنْ شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربِّهم فيستوجبوا اللَّائمة، وأنَّ الَّذين اختاروا فداء الأسرى على قتلهم اختاروا أوهن الرَّأيين في التَّدبير على أحزمهما وأقلَّهما نكايةً في العدوِّ، فعاتبهم الله على ذلك وأخبرهم أنَّ الأنبياء قبله لم تكن الغنائم حلالًا لهم فكانوا يَقتلون مَنْ حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء، فالمعنى: لولا قضاءٌ مِنَ الله سبق أنَّه يحلُّ لكم الغنيمة ولا يُعذَّب مَنْ شهد بدرًا لمسَّكم فيما أخذتم مِنَ الفداء عذابٌ عظيمٌ.
          وفي حديث ثُمَامة مِنَ الفقه جوازُ المنِّ على الأسير بغير مالٍ، وهو قول الثَّلاثة: مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي ثَوْرٍ، وقالوا: لا بأس أن يفادَوا بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا، وقال الطَّحَاويُّ: اختَلف في هذه المسألة قولُ أبي حَنيفةَ، فرُوي عنه أنَّ الأسارى لا يُفادى بهم ولا يُردُّون حربًا لأنَّ في ذلك قوَّةً لأهل الحرب، وإنَّما يُفادَون بالمال وما سواه ممَّا لا قوة لهم فيه، ورُوي عنه أنَّه لا بأس أن يُفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول صاحبيه، ورأى أبو حَنيفةَ أنَّ المنَّ منسوخٌ، وقيل: كان خاصًّا برسول الله صلعم، قال ابن القَصَّار: وممَّا يرد عليه أنَّا اتَّفقنا معه على أنَّ مكَّة فُتحت عَنوةً، وأنَّه صلعم مَنَّ عليهم بغير شيءٍ كما فعل بثُمامة.
          ولخَّص الخلاف في المسألة النَّحَّاسُ فقال في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}: [التوبة:5] للعلماء فيها ثلاثة أقوالٍ:
          أحدها: أنَّها منسوخةٌ، ولا يحلُّ قتل أسيرٍ صبرًا وإنَّما يُمنُّ عليه أو يُفدى، وناسخها قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمَّد:4] قاله: الحسن والضَّحَّاك والسُّدِّيُّ وعطاءٌ، زاد الطَّبَريُّ: والشَّعْبيُّ كما سلف.
          ثانيها: تعيَّن القتل في الأسرى، والآية ناسخةٌ لقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمَّد:4] وهو قول قَتَادة، ويُروى عن مجاهدٍ.
          ثالثها: أنَّهما محكمتان، وهو قول ابن زيدٍ وهو صحيحٌ بيِّنٌ، لأنَّ إحداهما لا تنفي الأخرى، ينظر الإمام في ذلك ما يراه مصلحةً مِنَ الأمور الثَّلاثة السَّالفة.
          فائدةٌ: قال الدَّاوُديُّ لمَّا ذكر الآية في البُخَاريِّ: وفيه قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، وقوله: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأُسْارَى} [الأنفال:70].
          ثانيةٌ: قال مجاهدٌ: الإثخان: القتل، وقيل: حتَّى يبالغ في قتل أعدائه، وقيل: حتَّى يتمكَّن في الأرض، والإثخان في اللُّغة: القوَّة والشِّدَّة.
          ثالثةٌ: حاصل ما سلف أنَّ مَنْ منع القتل شاذٌّ وأنَّ الَّذي عليه كافَّة الفقهاء الجوازُ، وكذا المنُّ والفداء جائزان عند الثَّلاثة، خلافًا لأحد قولي أبي حَنيفةَ، والآية في المنِّ والفداء صريحٌ، وكذا المنُّ على ثُمَامة، فالإمام مخيَّرٌ في الرِّجال المقاتلة بين خمسة أشياء: الجزية أو القتل أو الاسترقاق أو المنِّ أو الفداء، وفي النِّساء والصِّبيان بين ثلاثةٍ: المنِّ والفداء والاسترقاق.