التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب

          ░58▒ كتاب: الجزية والموادَعة مع أهل الذِّمَّة والحرب.
          وقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالله} إلى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] أذلَّاء، {وَالمَسْكَنَةُ} [البقرة:61] مصدر المِسْكين، أَسْكَنُ مِنْ فلانٍ: أَحْوَجُ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ، وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسِ وَالعَجَمِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: قُلْتُ لِمُجَالدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ اليَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اليَسَارِ.
          3156- 3157- ثُمَّ ساق فيه ثلاثة أحاديث:
          أحدها: حديث جابر بن زيدٍ وعمرو بن أَوسٍ حدَّثهما بَجَالة قال: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ فأتى كتابُ عمرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: (فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ حتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحمن بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلعم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ).
          وهو مِنْ أفراده.
          3158- ثانيها: حديث عمرو بن عَوفٍ الأنصاريِّ: (أَنَّ رَسُولَ الله صلعم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا...) الحديث، ويأتي في المغازي [خ¦4015]، أخرجه مسلمٌ آخر كتابه.
          3159- 3160- ثالثها: حديث المعتمِر بن سليمان عن سعيد بن عبيد الله الثَّقفيِّ عن بكرٍ وزيادٍ عن جُبَيْر بن حيَّة _بالحاء المهملة ثُمَّ مثنَّاةٍ تحت_ قال: (بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ المُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ الهُرْمُزَانُ...) الحديث.
          وقال بكرٌ وزيادٌ جميعًا عن جُبَيْرِ بن حيَّة قال: (فَنَدَبَنَا عُمَرُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ...) وفيه (فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلعم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ) ثُمَّ ساق بقيَّته، وذكره في التَّوحيد مختصرًا.
          الشَّرح: (الجِزْيَة): مشتقَّةٌ مِنَ الجَزاء على الأمان لهم وتقريرِهم فتجزئُ عنه، وعبارة «المحكم»: الجِزية: خراج الأرض، والجمع جِزًى، وقال أبو عليٍّ: هما واحد كالمَعْيِ والمِعَى، والجمع: جِزاءٌ، وجِزية الذِّمِّيِّ منه.
          وأمَّا (المُوادَعة): فإنْ أراد بها عقد الذِّمِّة لهم بأخذ الجزية والإعفاء بعد ذلك مِنَ القتل فهذا حكم الجِزية، والموادَعةُ غيرُها، وإن أراد تَرْكَ قتالِهم مع إمكانه قبل الظَّفر بهم، وهو معنى الموادعة، فما في أحاديث الباب ما يطابقها إلَّا ما ذكره مِنْ تأخُّر النُّعمان بن مُقرِّنٍ عن مقاتلة العدوِّ وانتظاره زوالَ الشَّمس وهبوبَ الرِّيح، فهي موادَعةٌ في هذا الزَّمان مع الإمكان للمصلحة، نبَّه على ذلك ابن المنيِّر، وذكره البُخَاريُّ العجمَ بعد المجوس مِنْ باب ذكر الخاصِّ بعد العامِّ.
          ومعنى قوله: ({لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [التوبة:29]) يعني: إيمان الموحِّدين، لأنَّ أهل الكتاب يؤمنون بالله ويقولون: له ولدٌ، ويؤمنون بالآخرة ويقولون: لا أكل فيها ولا شرب.
          وقال الدَّاوُديُّ: اليوم الآخر: القيامة.
          وقوله: ({وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29]) أي: يقرُّون بتحريم ذلك ويعتقدونه.
          ({وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ} [التوبة:29]) قال أبو عُبيدةَ: مجازُهُ ولا يطيعون طاعة الحقِّ، / يُقال: دان فلانٌ لفلانٍ: أطاعه.
          وقوله تعالى: ({مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ}) [التوبة:29] هم اليهود والنَّصارى، واختُلف في المجوس: هل لهم كتابٌ؟ والجمهور: لا، وقيل: نعم، فبدَّلوه فأصبحوا وقد أُسري به، وإذا قلنا: لا، فالجماعة على أنَّها تُؤخذ منهم الجزية إلَّا عبدَ الملك.
          قال مالكٌ في رواية ابن القاسم: تُؤخذ مِنْ أهل الكتاب ومِنَ المجوس عَبدةِ الأوثان، وكلِّ المشركين غير المرتدِّين وقريشٍ، وفي «مختصر ابن أبي زيدٍ»: ونقاتل جميع الأمم حتَّى يُسْلمِوا أو يؤدُّوا الجزية.
          وحكى الطَّحَاويُّ عن أبي حَنيفةَ وأصحابه أنَّها تُقبل مِنْ أهل الكتاب ومِنْ سائر كفَّار العجم، ولا يُقبل مِنْ مشركي العرب إلَّا الإسلام أو السَّيف.
          وقال الشَّافعيُّ: لا تُقبل إلَّا مِنْ أهل الكتاب، عَربًا كانوا أو عَجمًا، وزعم أنَّ المجوس كانوا أهل كتابٍ، فلذلك أُخِذت منهم، ورُوي ذلك عن عليٍّ، وقال الطَّحَاويُّ في حديث عمرو بن عوفٍ أنَّه ◙ بعث أبا عُبيدةَ إلى أهل البحرين يأتي بجِزيتها، أنَّهم كانوا مجوسًا مِنَ الفرس، ولم يكونوا مِنَ العرب، ولذلك قُبلت منهم، وأقرَّهم على مجوسيَّتهم.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ بآية الباب: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} [التوبة:29]، قال: فدلَّ هذا الخِطاب أنَّ مَنْ لم يُؤتَ الكتابَ ليس بمنزلتهم بدليل قوله ◙: ((أُمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا: لا إله إلَّا الله)) ولا يجوز أن يكون أهلُ الكتاب داخلين تحت هذه الجملة، لأنَّهم يقولون: لا إله إلَّا الله، لإخباره ◙ أنَّ هذه الكلمة يُحقن بها الدَّم والمال، فدلَّ على أنَّ بغيرها لا يقع الحقن.
          وحجَّة مالكٍ حديث الباب أنَّه أخذها مِنْ مجوس هَجَرَ، وقال في المجوس: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ))، وقام الإجماع على أنَّ المراد بقوله: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ)) يعني في أخذ الجزية منهم لا في غيرها، فهو وإن خَرج مخرجَ العموم فالمرادُ الخصوص، وقد ورد في روايةٍ: ((غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم)).
          وأيضًا فإنَّه ◙ كان يبعث أمراء السَّرايا فيقول لهم: ((إذا لَقيتم العدوَّ فادعوهم إلى الإسلام، فإنْ أجابوا وإلَّا فالجِزية، فإن أعطَوا وإلَّا قاتِلوهم)) ولم ينصَّ على مشركٍ دون مشركٍ بل عمَّ جميعهم، لأنَّ الكفر يجمعهم، ولمَّا جاز أنْ يسترقَّهم جاز أن يأخذ منهم الجزية، عكسه المرتدُّ لمَّا لم يُجز أن يُسترقُّوا لم يجز أخذ الجزية منه، وليس ممَّا احتجَّ به مِنَ الآية دليلٌ أنَّ الجزية لا يجوز أخذُها مِنْ غير أهل الكتاب، لأنَّ الله لم ينهَ أنْ يؤخذ مِنْ غيرهم، وللشَّارع أن يزيد في البيان ويفرض ما ليس بموجودٍ ذِكرُه في الكتاب، ألا ترى أنَّ الله تعالى حرَّم الأمَّهات ومَنْ ذُكر معهنَّ في الآية، وحرَّم الشَّارعُ الجمعَ بين المرأة وعمَّتِها وخالتها، وليس ذلك بخلاف للكتاب، فكذلك أخذُه الجزية مِنْ جميع المجوس هو ثابتٌ بالسُّنَّة الثَّابتة، وهذا ينتظم الردَّ على أبي حَنيفةَ في قوله: إنَّ مجوس العرب لا يجوز أخذُ الجِزية منهم، وتُؤخذ مِنْ سائر المجوس غيرهم، لإطلاقه ◙ على أخذها مِنْ جميع المجوس، لقوله: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ)) ومَنِ ادَّعى الخصوص في هذا وأنَّ المراد به بعضُهم فعليه الدَّليل.
          قال ابن بَطَّالٍ: وأمَّا قول الشَّافعيِّ: إنَّ المجوس كانوا أهل كتاب فرُفع غير صحيحٍ، لأنَّه لو كان كذلك لكان لنا أنْ نأكل ذبائحهم وننكح نساءَهم، وهذا لا يقول به أحدٌ.
          وقوله: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ) يدلُّ أنَّه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنَّهم لو كانوا أهل كتابٍ فرُفع كتابهم، لوجب أن يصيروا بمنزلة مَنْ لا كتاب له، لأنَّ الشَّيء إذا كان لمعنًى فارتفع المعنى ارتفع الحكمُ.
          قلت: الشَّافعيُّ لم يستبدَّ به بل هو مرويٌّ، وإلزامه الذَّبيحة والنِّكاح لا يَرِدُ، لأنَّه ورد استثناؤه كما سلف، وإنْ نُقل عن ابن الجَوزيِّ أنَّه منكرٌ، ثُمَّ لهم شبهةٌ وهي تقتضي الحقن بخلاف النِّكاح، فإنَّه يُحتاط له.
          وقوله: وهذا لا يقوله أحدٌ: غلطٌ منه، فقد ذكر ابن أبي شَيبة في «مصنَّفه» عن سعيد بن المسيِّب أنَّه قال: لا بأس يتسرَّى بالجارية المجوسيَّة، وعن عَطاءٍ وطاوسٍ وعمرو بن دينارٍ أنَّهم كانوا لا يرَون بأسًا أن يتسرَّى الرَّجل بالمجوسيَّة، وذكر ابن قُدامة وغيره عن أبي ثَوْرٍ أنَّه كان يرى بحلِّ نسائهم وذبائحهم، وذكر ابن عبد البرِّ عن سعيد بن المسيِّب أنَّه لم يرَ بذبح المجوسيِّ لشاة المسلم إذا أمره المسلمُ بذبحها بأسًا.
          فصلٌ: وقوله تعالى: ({عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]) قال ابن عبَّاسٍ: يمشون بها مُكِبِّين. وقال سليمان: مذمومين، وقال قَتَادة: عن قهرٍ وذلَّةٍ.
          وقيل: معنى: ({عَنْ يَدٍ}) عن إنعامٍ منكم عليهم، وقيل: لا يَبعثون بها كفعل الجبابرة.
          وقال سعيد بن جُبَيْرٍ: يدفعها قائمًا وآخذها جالسٌ.
          وقوله: ({وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَذِلَّاء) هو قول أبي عُبيدة: إنَّ الصَّاغرَ الذَّليلُ الحقير، وقال غيره: هو الَّذي يُتَلْتَلُ فيُعنَّف به، وقيل: هم بإعطائها أذلَّةٌ صاغرون.
          فصلٌ: تعليق ابن عُيَينة رواه في «تفسيره»، وهو صوابٌ حسنٌ، وهو فعلُ عمرَ، وزاد على أهل الشَّام أقساطًا مِنْ زيتٍ وخلٍّ وضيافة ثلاثة أيَّامٍ، ورأى مالكٌ أن يُسقط عنهم الضِّيافة، ولا يُزادَ على فعل عمرَ.
          واختلف العلماء في مقدار الجزية، فقال مالكٌ: أكثرها أربعة دنانيرَ على أهل الذَّهب، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهمًا ولا حدَّ لأقلِّها.
          وأخذ مالكٌ في ذلك بما رواه عن نافعٍ، عن أَسلم أنَّ عمر بن الخَطَّاب ضرب الجزية على أهل الذَّهب أربعة دنانيرَ، وأهل الوَرِق أربعين درهمًا، وقال الكوفيُّون: يُؤخذ مِنَ الغنيِّ ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، ومِنَ الوسط أربعةٌ وعشرون، ومِنَ الفقير اثنا عشرَ وهو قول أحمدَ، وأخذوا في ذلك بما رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مُضَرِّبٍ عن عمرَ: أنَّه بعث عثمانَ بن حُنَيفٍ، فوضع الجزية على أهل السَّواد ثمانيةً وأربعين وأربعةً وعشرين واثني عشرَ.
          قال أحمد: ويُزاد فيه ويُنقَص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام، وعنه: أقلُّها كالشَّافعيِّ، وأكثرها غير مقدَّرٍ، يجوز الزِّيادة ولا يجوز النُّقصان، لأنَّ عمرَ زاد على فرض رسول الله صلعم ولم ينقص منه، ورُوي: أنَّه زاد، جعلها خمسين، وهو اختيار أبي بكرٍ مِنْ أصحاب أحمدَ.
          وقال الشَّافعيُّ: الجزية دينارٌ في حقِّ كلِّ أحدٍ، ودليله حديث مُعاذٍ: قال: ((بعثني رسول الله صلعم إلى اليمن وأمرني أن آخذ مِنْ كلِّ حالمٍ دينارًا أو عدلَه مِنَ المَعَافِر)) ثيابٍ تكون باليمن، رواه أصحاب السُّنن الأربعة، وصحَّحه الأئمَّة التِّرمِذيُّ والحاكم وابن عبد البرِّ.
          وقال الثَّوْريُّ: وقد اختلفت الرِّوايات في هذا عن عمرَ، فللوالي أن يأخذ بأيِّها شاء إذا كانوا أهل ذمَّةٍ، وأمَّا أهل الصُّلح فما صُولحوا عليه لا غيرُ.
          وقال عبد الوهَّاب بن نَصرٍ: في أمره ◙ أن يأخذ مِنْ كلِّ حالم دينارًا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه.
          وقد رُوي عن مالكٍ: أنَّه لا يُزاد على الأربعين درهمًا، ولا بأس بالنُّقصان منها إذا لم يُطقْ.
          قال مالكٌ: وأرى أن يُنفق مِنْ بيت المال على كلِّ مَنِ احتاج مِنْ أهل الذِّمَّة إن لم يكن لهم حرفةٌ ولا قوَّةٌ على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتَّى يبلغوا.
          قال ابن وَهبٍ: وحدَّثني مطرِّفٌ عن مالكٍ قال: بلغني أنَّ عمر بن الخَطَّاب / كان ينفق على رجلٍ مِنْ أهل الذِّمَّة حين كبُر وضعُف عن العمل والخَراج.
          فرعٌ: تُجب عند أبي حَنيفةَ بأوَّل الحول، خلافًا للشَّافعيِّ وأحمد فقالا: بآخره.
          فرعٌ: لا تُؤخذ مِنْ صبيٍّ ولا امرأةٍ ولا مجنونٍ ولا فقيرٍ غير معتملٍ، خلافًا للشَّافعيِّ فيه، ولا يُؤخذ مِنْ شيخٍ فانٍ ولا مِنْ زَمِنٍ ولا أعمى.
          وفي قول للشَّافعيِّ يُؤخذ منهم، ولا على سيِّدِ عبدٍ عن عبده إذا كان السَّيِّدُ مسلمًا، ولا جزية على أهل الصَّوامع مِنْ أهل الرُّهبان، خلافًا للشَّافعيِّ.
          ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه فَرض على رهبان الدِّيارات على كلِّ واحدٍ دينارين.
          فصلٌ: وحديث بَجَالَةَ مِنْ أفراد البُخَاريِّ كما سلف.
          و(بَجَالَةُ) هو ابن عَبَدَة تميميٌّ بصريٌّ.
          و(جَزْء) بالجيم المفتوحة والزَّاي، عاملُ عمر على الأهواز، انفرد به البُخَاريُّ، كان حيًّا بمكَّة سنة سبعين، ووالد جَزءٍ هو معاويةُ بن حُصَين بن عُبَادة بن النَّزَّال بن مُرَّة بن عُبَيد بن مُقَاعِسٍ، واسمه: الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مَناة بن تميمٍ، عمُّ الأحنف بن قيسٍ.
          قال أبو عمرَ: لا تصحُّ له صحبةٌ، وقيل فيه: جَِزِْي بزايٍ مكسورةٍ، وسكَّنها الخطيب.
          قال الدَّارَقُطْنيُّ: وأصحاب الحديث يكسرون جيمه.
          ووالد بَجَالة السَّالف عَبَدَة، بفتح الباء الموحَّدة، ويُقال: ابن عبدٍ، حكاه ابن حِبَّان في «ثقاته»، وفي «تاريخ البُخَاريِّ»: بَجَالة بن عَبدٍ، أو عَبد بن بَجَالة.
          فصلٌ: البُخَاريُّ روى هذا الحديث عن عليِّ بن عبد الله حدَّثنا سفيانُ سمعت عمرًا قال: ((كنت جالسًا مع جابر بن زيدٍ وعمرو بن أوس..)) فذكره.
          ورواه ابن حِبَّان في كتاب شروط أهل الذِّمَّة مِنْ حديث أبي معاويةَ الضَّرير حدَّثنا حجَّاجٌ عن عمرو بن دينارٍ عن بَجَالة قال: ((كنت كاتبًا لجَزء بن معاوية فجاءنا كتاب عمرَ: انظر أن تأخذ الجزية مِنَ المجوس، فإنَّ عبد الرَّحمن بن عوفٍ أخبرني أنَّ رسول الله صلعم أخذ مِنَ المجوس الجزية))، ثُمَّ ساقه في حديث ابن عُيَينة عن عمرٍو سمع بَجَالة: جاءنا كتاب عمرَ: أن اقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرةٍ، وفرِّقوا بين كلِّ مَحرمٍ مِنَ المجوس، وانهَهم عن الزَّمزمة، قال: فقتلنا ثلاثة سواحرٍ، وجعلنا نفرِّق بين المرأة وحَرَمِها في كتاب الله ╡، وصنع طعامًا كثيرًا فدعا المجوس، وعرض السَّيف على فخذه فألقَوا وقرَ بغلٍ أو بغلين مِنْ ورِقٍ، وأكلوا بغير زمزمةٍ.
          وذكر الحُمَيديُّ: أنَّ البَرْقانيَّ خرَّجه هكذا في «صحيحه».
          ثُمَّ روى ابن حِبَّان مِنْ حديث بشير بن عمرٍو عن بَجَالة عن عبد الرَّحمن بن عوفٍ ((أنَّ رسول الله صلعم أخذ الجزية مِنْ مجوس هَجَر)) قال ابن عبَّاسٍ: أمَّا أنا فتبعت صاحبهم حين دخل على رسول الله صلعم، فلمَّا خرج قلت له: ما قضى فيكم رسول الله صلعم؟ قال: شرٌّ، قلت: مهْ، قال: ((القتل أو الإسلام)) فأخذ النَّاس بقول عبد الرَّحمن وتركوا قولي.
          ثُمَّ روى مِنْ حديث رجاءٍ _جارٍ لحمَّاد بن سَلَمة_ عن الأعمش عن زيد بن وَهبٍ قال عبد الرَّحمن بن عوفٍ: أشهد بالله على رسول الله صلعم لَسمعتُه يقول: ((إنَّما المجوس طائفةٌ مِنْ أهل الكتاب، فاحملوهم على ما تحملوا أهل الكتاب)) ثُمَّ روى مِنْ حديث فَرْوة بن نوفلٍ عن عليٍّ قال: ((المجوس أهل كتابٍ وقد أخذ رسول الله صلعم الجزية مِنْ مجوس أهل هَجَر)).
          وروى ابن عبد البرِّ مِنْ حديث الزُّهْريِّ عن سعيدٍ ((أنَّ رسول الله صلعم أخذ الجزية مِنْ مجوس هَجَر، وأنَّ عمرَ أخذها مِنْ مجوس السَّواد، وأنَّ عثمانَ أخذها مِنَ البربر)) وقال: كذا رواه ابن وَهبٍ عن يونس عن ابن شِهابٍ، وأمَّا مالكٌ ومَعمرٌ فجعلاه: عن ابن شِهابٍ لم يذكرا سعيدًا، ورواه مَعمرٌ عن مالكٍ عن الزُّهْريِّ عن السَّائب بن يزيد.
          وفي «الموطَّأ»: عن جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه أنَّ عمر ذكر المجوس، فقال عبد الرَّحمن بن عوفٍ... الحديث.
          ورواه أبو عليٍّ الحنفيُّ عن مالكٍ، فقال: عن أبيه عن جدِّه، وهو منقطعٌ أيضًا، لأنَّ عليَّ بن حسينٍ لم يلقَ عمر ولا عبد الرَّحمن.
          وروى عبد بن حُميدٍ في «تفسيره» عن عليٍّ: ((كان المجوس أهل كتابٍ، وكانوا متمسِّكين به)) الحديث.
          وقال ابن عبد البرِّ: رُوي عن عليٍّ أنَّهم كانوا أهل كتابٍ وفيه ضعفٌ، لأنَّه يدور على أبي سعدٍ البقَّال سعيد بن المَرْزُبان.
          قلت: ليس هو في طريق عبد بن حُميدٍ، فإنَّه رواها عن الحسن الأشيَب، حدَّثنا يعقوب بن عبد الله حدَّثنا جعفر بن أبي المغيرة عن عبد الرَّحمن بن أَبْزى قال: قال عليٌّ... فذكره.
          فصلٌ: في حقيقة المجوس ذكر أبو عُمر في كتاب «القصد والأمَم» أنَّهم مِنْ ولد لاوُذ بن سَامِ بن نوحٍ، وقال عليُّ بن كَيْسان: هم مِنْ ولد فارسَ بن عامورَ بن يافِثَ، قال أبو عمر: وقال ذلك غيره، وهو أصحُّ ما قيل فيهم، وهم ينكرون ذلك ويدفعونه ويزعمون أنَّهم لا يعرفون نوحًا ولا ولده ولا الطُّوفان، وينسبون ملكهم مِنْ جُيُوْمَرْتَ الأوَّل، وهو عندهم آدمُ.
          وقد نسبهم قومٌ مِنْ علماء الإسلام والأثر إلى أنَّهم مِنْ ولد سامٍ، وكان فيهم الصَّابئة، ثُمَّ تمجَّسوا وبنَوا بيوت النِّيران.
          وقال المسعوديُّ: فارسُ أخو نبِيطٍ ولدا ناسور بن سامِ بن نوحٍ.
          ومنهم مَنْ زعم أنَّهم مِنْ ولد هَدْرامَ بن أَرْفَخْشَذَ بن سامٍ، وأنَّه ولد بضعةَ عشرَ رجلًا، كلُّهم كان فارسًا شجاعًا، فسُمُّوا الفرسَ بالفروسيَّة.
          وقال آخرون: إنَّهم مِنْ ولد بَوَّان صاحب شِعْبِ بوَّان أحد نُزه الدُّنيا بن إيران بن لاوُد بن سامٍ.
          وعند الرَّشاطيِّ: فارس الكبرى بن كيومرت، ويقال: جُيُومَرْت _وجامرٌ معرَّبٌ_ وتفسير كيومرت: الحيُّ النَّاطق الميِّت، ابن أميم بن لاوُد بن سامٍ، فمَنْ نسب الفرس الأولى إلى سامٍ بهذا نَسَبَها، ومَنْ نسبها جملةً إلى يافثَ قال: هم ولد جُيُومَرْتَ بن يافِثَ.
          وذكر صاعدٌ في كتابه «طبقات الأمم» أنَّ كيومرت هذا يزعم الفرسُ أنَّه آدمُ.
          قال: وذكر بعض علماء الأخبار أنَّ الفرس في أوَّل أمرها كانت موحِّدةً على دين نوحٍ إلى أن أتى برداسف المشرقيُّ إلى طهمورث ثالثِ ملوك الفرس بمذهب الصَّابئة، فقبله منه واقتصر الفرسُ على الشَّرع به، واعتقدوه نحو ألف سنةٍ وثمان مئة سنةٍ إلى أن تمجَّسوا جميعًا، وسببه: أنَّ زَرَادشْتَ الفارسيَّ ظهر في زمن بشتاسف ملكِ الفرس، فدعا النَّاسَ إلى المجوسيَّة وتعظيم النَّار وسائر الأنوار، والقولِ بتركيب العالم مِنَ النُّور والظُّلمة، واعتقاد القدماء الخمسة الَّتي هي عندهم: الباري _تعالى عما يقولون_ وإبليس والهَيُولى والزَّمان والمكان، وغير ذلك مِنَ البدع، فَقَبِلَ ذلك بشتاسف وقاتل الفرسَ عليه حتَّى انقادوا جميعًا إليه، ورفضوا دين الصَّابئة، واعتقدوا زَرَادشْتَ نبيًّا مرسلًا، وذلك قبل ذهاب مُلكهم على يد الفاروق بقريبٍ مِنْ ألفٍ وثلاث مئة سنةٍ.
          وقال إبراهيم بن الفرج في «البغية شرح لحن العامَّة»: الفارسيُّ منسوبٌ إلى فارس، وهي أرضٌ وقد بنتها السُّوس، وهي أمَّةٌ كانت بعد النَّبَط، وزعم بعض العلماء أنَّهم مِنْ ولد يوسف بن يعقوب بن إبراهيم.
          وذكر ابن عبدون في كتابه «الزَّهر» أنَّهم مِنْ / ولد حارس بن ناسور بن سام، وأنَّه وُلد له بضعةَ عشرَ رجلًا كلُّهم كان فارسًا شجاعًا، فسُمُّوا الفرس بذلك، قال: وزعم قومٌ أنَّهم مِنْ ولد طوط مِن ابنتيه دريني ورعوشى. وزعم بعضهم أنَّهم مِنْ ولد إيرانَ بن أَفْرِيدُونَ.
          قال: ولا خلاف بين الفرس أنَّهم مِنْ ولد كيومرت وهذا هو المشهور، وإليه يُرجع بنسبها، كما يُرجع المروانيَّة إلى مروان، والعبَّاسيَّة إلى العبَّاس.
          وعند ابن حَزْمٍ: المجوس لا يعرفون موسى ولا عيسى ولا أحدًا مِنْ أنبياء بني إسرائيل ولا محمَّدًا، ولا يقرُّون لأحدٍ منهم بنبوَّةٍ.
          فصلٌ: وأمَّا قول عمرَ ☺: فرِّقوا بين كلِّ محرمٍ مِنَ المجوس، فيحتمل وجهين:
          أحدهما: أنَّ الله تعالى لم يأمر بأخذ الجزية إلَّا مِنْ أهل الكتاب، وأهلُ الكتاب لا يَنكحون ذواتِ المحارم، فإذا استُعمل فيهم قوله ◙: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ) احتمل ألَّا يقبل منهم الجزية إلَّا أن يسنَّ بهم سنَّة أهل الكتاب في مَناكحهم أيضًا.
          ثانيهما: أن يكون عمرُ غلب على المجوس عَنوةً، ثُمَّ أبقاهم في أموالهم عبيدًا يعملون بها والأرض للمسلمين، ثُمَّ رأى أن يفرِّق بين ذوات المحارم مِنْ عبيده الَّذين استبقاهم على حكمه واستحياهم باجتهاده، وأنَّ ذلك كان منعقدًا في أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده في تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطًا مِنْ قوله: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ) أي: ما كان أهل الكتاب يحملون عليه في حريمهم ومناكَحتهم، فاحملوا عليه المجوس، وقال الدَّاوُديُّ لمَّا ذكر قول عمرَ هذا: لم يأخذ به مالكٌ.
          وقال الخَطَّابيُّ: أراد عمر أنَّهم يُمنعون مِنْ إظهار هذا للمسلمين وإفشائه في مَشاهدهم، وأن يفشوها كما يُفشي المسلمون أَنْكِحَتَهم إذا عقدوها، قال: وهذا كما شرط على النَّصارى ألَّا يُظهروا صَليبهم، لئلَّا يُفتن به ضعفة المسلمين، ولا يكشفون عن شيءٍ ممَّا يستحلُّونه مِنْ باطن كفرٍ وفساد مذهبٍ.
          فصلٌ: في الحديث: أنَّه قد يغيب عن العالم المبرِّز بعضُ العلم.
          وفيه قَبول خبر الواحد والعملُ به، وفي حديث عمرو بن عوفٍ: أنَّ طلب العطاء مِنَ الإمام لا غضاضة فيه على طالبه، لقوله: (أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ).
          وفيه التَّبشير بالإسهام لهم، لقوله: (أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا) ومعنى ذلك: أمِّلوا أكثر ما تطلبون مِنَ العطاء، لأنَّهم لم يعرفوا مقدار ما قدِم به أبو عبيدة، فبشَّرهم بأكثر ممَّا يظنُّون.
          وفيه علامة النُّبوَّة، لأنَّه أخبرهم بما يخشى عليهم ممَّا يُفتح عليهم مِنَ الدُّنيا.
          وفيه أنَّ المنافسة في الاستكثار مِنَ المال سبيلٌ مِنْ سُبُل الهلاك في الدُّنيا، والأمل: الرَّجاء، يُقال: أمَّلته فهو مأمولٌ.
          وقوله: (فَتَنَافَسُوْا) يريد: المشاححة والتَّنازع.
          فائدةٌ: (عمرو بن عَوفٍ) هذا بدريٌّ كما ذكره البُخَاريُّ، وكذا ذكره ابن إسحاق وابن سعدٍ فيمن شهد بدرًا مِنَ المهاجرين، وهو مولى سُهَيل بن عمرٍو، مات في خلافة عمر ☺.
          فائدةٌ: فيه أيضًا: التَّحذير مِنْ فتنة الدُّنيا، فإنَّ مَنْ طلب منها فوق حاجته لم يجده، ومَنْ قَنِعَ حصل له ما يطلب، وما الدُّنيا إلَّا كما قيل:
إنَّ السَّلامَةَ مِنْ سَلْمى وجَارَتِها                     ألَّا تَمُرَّ على حالٍ بِوَادِيها
          فصلٌ: في إسناد حديث جُبَيْر بن حَيَّة: (المُعتَمِر بن سُلَيمان) قيل: إنه وهمٌ، وصوابه المُعَمَّر الرَّقِّي، لأنَّ عبد الله بن جعفرٍ راويه عنه لا يروي عن المعتمِر بن سليمان، كذا رأيته بخطِّ الدِّمْياطيِّ.
          و(زِيادُ بن جُبَيْرٍ) اتَّفقا عليه، وانفرد البُخَاريُّ بأبيه جُبَيْر بن حيَّة، و(سعيد بن عُبَيد الله) بن جُبَيْر بن حيَّة بن مسعودٍ الثَّقَفيِّ البَصريِّ.
          وقوله فيه: (بَعَثَ عُمَرُ النَّاس فِي أَفْنَاءِ الأَنْصَارِ) قال ابن بَطَّالٍ: هم طوائفُ منهم لم يكونوا مِنْ فخذٍ واحدٍ.
          فصلٌ: وأمَّا مشاورة عمرَ الهُرْمُزَان فبعد أنْ أسلم، وكان رجلًا بصيرًا بالحرب له دُربةٌ ورأيٌ في المملكة وتدبيرها، فلذلك شاوره عمرُ، مع أنَّ عمر كان يعرف بما أشار عليه، وثقته مِنْ نفسه أنَّه يشعر له إن غشَّه.
          وفيه أنَّ المشاورة سنَّةٌ لا يستغني عنها أحدٌ، ولو استُغني عنها كان الشَّارع أغنى النَّاس عنها، لأنَّ جبريل كان يأتيه بصواب الرَّأي مِنَ السَّماء، ومع ذلك فإنَّ الله أمره بها حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] ولو لم يكن فيه إلَّا استئلافُ النُّفوس وإظهارُ الموافقة والثِّقة بالمستشار. ولعلَّه أن يبدو مِنَ الرَّأي ما لم يكن ظَهر، وأمَّا العزيمة والعمل فإلى الإمام، لا يَشْرَكُه فيه أحدٌ، لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران:159] فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركًا في الرَّأي لغيره.
          وفيه جوازُ مشاورة غير الوزير إذا كان ممَّن يُظنُّ عنده الرَّأيُ والمعرفة.
          وفيه ضربُ الأمثال.
          وفيه الرَّأي في الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكةً _كما أشار الهُرْمُزَان_ لأنَّه إذا استُؤصل الأقوى، سُلِّم الأضعف.
          وفيه كلام الوزير دون رأي الإمام، كما كلَّم عمرُ يوم حُنينٍ لأبي سفيان، وكما كلَّم الصِّدِّيق في قصَّة سلاح قتيل أبي قَتَادة.
          وقوله: (وكنَّا في شَقَاءٍ شَدِيْدٍ) ففيه وصف أنفسهم بالصَّبر والثَّبات على مضض العيش.
          وقوله: (نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهَ) أراد به شرفه ونسبه، لأنَّ الأنبياء لا تُبعث إلَّا مِنْ أشراف قومهم، فوصف شرف الطَّرفين مِنَ الأب والأمِّ.
          وقول النُّعمان للمغيرة: (رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللهُ مثْلَهَا) يريد: ربما قد شهدت مع رسول الله صلعم فيما سلف مثل هذه الأحوال الشَّديدة، وشهدت معه القتال فلم يُنَدِّمك ما لقيت معه مِنَ الشِّدَّة، ولم يُحزنك لو قُتلت معه، لعلمك بما تصير إليه مِنَ النَّعيم وثواب الشَّهادة، يقول: إنَّك كنتَ في ذلك على الخير والإصابة، يغبطه بما تقدَّم مِنْ كلامه، ويعتذر إليه فيما يريد أن يقول لِما شاهد مِنْ رسول الله صلعم.
          ويُذكر أنَّ النُّعمان قاتلهم، وكثرتْ جراحات المسلمين وأُصيب منهم، فبات المسلمون يتضرَّرون لِما نالهم مِنَ الجراح، وبات الكفَّار على الخمر، وقد أحضروا أموالًا كثيرةً ونَعَمًا، فقام النُّعمان خطيبًا حين أصبح فقال: أيُّها النَّاس، إنَّ مَنْ ترون قد حضَّروا عليهم أموالًا ونعمة، وأنتم قد حضَرتم للإسلام وصرتم بابًا للمسلمين، فإنْ أصبتم دُخل عليهم مِنَ الباب، فاللهَ في الإسلام.
          فقام رجلٌ منهم فقال: قد سمعنا مقالتك أيُّها الأمير، ولسنا برادِّين عليك ولا مخالفين لك، فانظر أيَّ طرفي النَّهار؟ قال النُّعمان: إذا هبَّت الأرواح ونزل النَّصر مِنَ السَّماء وأنا هازٌّ للرَّاية، إذا رأيتم ذلك فأسبغوا الوضوء وصلُّوا الظُّهر / ثُمَّ إنِّي هازُّها، فإذا رأيتم ذلك فليُسرِج كلُّ أحدٍ منكم فرسه ويستوي عليه، ولينظر مواجهة عدوِّه، ثُمَّ إذا هززتُها الثَّالثة، فاحملوا على بركة الله. فلمَّا فاء الفيء صنع ما قال، ثُمَّ حمل في الثَّالثة وبيده الرَّاية، فجعل يطعن بها، وتقاتلوا فكان أوَّلَ قتيلٍ، فمرَّ به أخوه فألقى عليه ثوبه، لئلَّا يُعرف فيفشل النَّاس، فأخذ الرَّاية وحمل، ففتح الله للمسلمين.
          ويُذكر عن ابن المسيِّب أنَّه قال: إنِّي لأذكرُ يومًا نعى لنا عمرُ النُّعمانَ بن مُقَرِّنٍ على المنبر.
          وقوله: (وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم) هو ابتداء كلامٍ واستئناف قصَّةٍ أخرى: أعلمهم أنَّ رسول الله صلعم كان إذا لم يقاتل أوَّل النَّهار ترك حتَّى تهبَّ الرِّياح، يعني: رياح النَّصر، وتحضر أوقات الصَّلوات، كما سلف في بابه [خ¦2165]، ولأنَّ أفضل الأوقات أوقات الصَّلوات وفيها الأذان، وقد جاء في الحديث أنَّ ((الدُّعاء بين الأذان والإقامة لا يُردُّ)).
          و(الأرْوَاحُ) جمع رِيحٍ، لأنَّ أصله: رِوْحٌ وسُكِّنت الواو، وانكسر ما قبلها قُلِبت ياءً، والجمع يردُّ الشَّيء إلى أصلِه.
          وقوله أوَّلًا: (فَأَسْلَمَ الهُرْمُزَانُ) وكان أسره أبو موسى الأشعريُّ، كان سيِّدًا فبعث به مع أنسٍ إلى عمرَ، لمَّا قدم عليه استعجم، فقال له عمر: تكلَّم، فقال: أكلام حيٍّ أم ميِّتٍ؟ فقال عمر: تكلَّم فلا بأس _وبدرت الكلمة مِنْ عمر مِنْ غير تأمُّلٍ_ فقال: كنَّا وإيَّاكم نستعبدكم ونملِكُكم معاشرَ العرب، ما خلا الله بيننا وبينكم، فلمَّا كان اللهُ معكم لم يكن لنا بكم يدان، فتغيَّظ عمرُ وقال: قاتِلَ البراءَ بن مالكٍ! وهمَّ به، فقال له أنسٌ: يا أمير المؤمنين تركتُ خلفي شوكةً شديدةً وعدوًّا كثيرًا، إن قتلتَه يئس القومُ مِنَ الحياة، وكان أشدَّ لشوكتهم، وإن استحييتَه طَمِعَ القومُ، فقال: يا رزينُ أستحيي؟، فلمَّا خشيتُ أن يبسط عليه قلت: لا سبيل لك عليه، فقال: ولم؟ أعطاك؟ أصبتَ منه؟ قال: لا، ولكنَّك قلت له: تكلَّم لا بأس، قال: لتأتينَّ بمَنْ يصدِّق ما تقول أو لا بدَّ مِنْ عقوبتك، ولم يحفظ عمرُ ما قال، وكان الزُّبَير قد حضر لمقالته فصدَّق أنسًا، فأسلم الهُرْمُزَان.
          وكانت الرُّوم قاتلت الفرسَ في أوَّل الإسلام، فعَلِمَ مِنْ ذلك الهُرْمُزَان ما عَلِمَ، فضرب له مثلًا وهو صحيحٌ، عقَله عمرُ وعمل عليه، وإنَّما جعل كسرى الرَّأس لأنَّه أعظمُ ملكًا وأكثرُ أتباعًا وأوسع بلدًا، ومثَّل بالجناحين ولم يذكر الرِّجلين، وأراد بهما مَنْ سوى هؤلاء الثَّلاثة للأمم.
          ومبادرة المغيرة بالكلام للتُّرجمان إمَّا أن يكون أذن له أمير الجيش النُّعمان، أو بادره لِما عنده مِنْ ذلك مِنَ العلم، وليطفئ النُّعمان المقالة ولا يكلِّف الأمير مخاطبة التُّرجمان.
          وفيه وصف المغيرة لما كانوا عليه.