التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحراسة في الغزو في سبيل الله

          ░70▒ (بابُ: الحِرَاسَةِ فِي الغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللهِ)
          2885- ذكر فيه حديثَ عائشةَ في حِرَاسَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لرسولِ اللهِ صلعم.
          2886- وحديثَ أبي بَكْرٍ _يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ_ عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالقَطِيفَةِ وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ).
          2887- (وزادَ لَنا عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحمن بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ...) الحديث.
          وقال: (تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ، قال أبو عبد الله: لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ وَمحمَّد بْنُ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ).
          الشَّرح: قال الإسماعيليُّ: تابع أبا بكرٍ شَريكٌ وقيسٌ، و(عَمْرٌو) شيخ البُخاريِّ هو ابْن مرزوقٍ، وقد أسنده أبو نُعيمٍ مِنْ حديث يوسف القاضي عنه به، وابن عساكرَ مِنْ حديث أبي مسلمٍ عنه، ورواه ابن ماجَهْ عن ابن كاسبٍ، عن إسحاق بن إبراهيم بن سعيد المدنيِّ، عن صفوان بن سُلَيمٍ عن عبد الله بن دينارٍ، ورواه الإسماعيليُّ مِنْ حديث عبد الصَّمد بن عبد الوارث عن عبد الرَّحمن بن عبد الله بن دينارٍ عن أبيه به.
          ثُمَّ الكلام مِنْ وجوهٍ:
          أحدها التَّعْسُ: الكَبُّ، أي: عَثَرَ فسقطَ لوجهه، قاله ابن التِّيْنِ، قال: وضُبِط بكسر العين، وذكره بعض أهل اللُّغة بفتحها، وقال ابن الأنباريِّ عن أبي العباس أحمد بن يحيى: التَّعْس: الشَّرُّ، قال _تعالى_: {فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمَّد:8] وقيل: هو البعد، وذكر ابن التَّيَّانيِّ عن قُطْرُبٍ فتحَ العين وكسرها؛ شقيَ، وعن عليِّ بن حمزة: بالكسر والفتح؛ هلك، وفي «البارع»: تَعِسَهُ اللهُ وأَتْعَسَهُ: نكسه، وقال شَمِرٌ كما في «التَّهذيب»: لا أعرف تَعِسَه الله، ولكن يُقال: تَعِسَ بنفسه وأَتْعَسَهُ اللهُ، قال: وقال الفرَّاء: يُقال: تَعَسْتَ إذا خاطبتَ الرَّجلَ فإذا صِرتَ إلى أن تقول: فَعَلَ، قلت: تَعِسَ بالكسر، وقال بعض الكلابيِّين: تَعِسَ: هو أنْ يُخْطئ حجَّته إن خاصمَ وبُغْيَتَه إنْ طَلَبَ، وقال الرُّسْتُمِي: التَّعْسُ: أن يخرَّ على وجهه، والنَّكْسُ: أنْ يخرَّ على رأسه، وقال اللَّيث: التَّعس ألَّا ينتعش مِنْ عَثْرَته وأن يُنَكَّس في سِفال، والتَّعس في اللُّغة: الانحطاط، ذكره الزَّجَّاج، وقال صاحب «المحكم»: هو السُّقوط على أيِّ وجهٍ كان، وقال ابن السِّكِّيت: هو أن يَخِرَّ على وجهه، ومنه نَكَّستُ الشَّيء: نَكَّبتُه عَلى رأسه، قال ابن فارسٍ: ويُقال تَعْسًا له ونَكْسًا، وقد يُضَمُّ الثَّاني.
          ثانيها: معنى (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ) أي إنْ طلب ذلك قد استعبده وصار عمله كلُّه في طلبها كالعبادة لهما.
          وقوله: (إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ) أي إنْ أُعطي ما له عَمِلَ رضًا عن مُعطيه، وهو خالقه تعالى، وإن لم يُعط سَخِطَ ما قَدَّر له خالقه ويسَّر له مِنْ رزقه، فصحَّ بهذا أنَّه عبدٌ في طلب هذين، فوجب الدُّعاء عليه بالتَّعس لأنَّه أوقف عمله على متاع الدُّنيا الفاني، وتَرك العمل لأجل نعيم الآخرة الباقي، والتَّعس: أن لا ينتعش ولا يفيق مِنْ عثرته، (وانْتَكَسَ) أي عاوده المرض كما بدأه، هذا قول الخليل، قال صاحب «المطالع»: وذكره بعضهم بالشِّين المعجمة وفسَّره بالرُّجوع، وجعله دعاءً له لا عليه.
          وقوله: (وَإِذَا شِيكَ) أي أصابته شوكةٌ، وعن المَرْوَزيِّ: (شِيْبَ) وهو خطأٌ قبيحٌ، ومعنى الأوَّل: إذا أصابته الشَّوكة في قدمه فلا يقدر على إخراجها، يُقال: انتقش الرَّجل إذا سَلَّ الشَّوكة مِنْ قدمه بالمِنقاش، قَالَ الخَطَّابِيُّ: يُقال: نقشت الشَّوك إذا استخرجتَه، وبه يُسمَّى المِنقاش، وقال ابن التِّيْنِ: معناه عند الهَرَويِّ: لا أخرجه مِنَ الموضع الَّذي أدخله، وعند الخطَّابيِّ: لا قدر على إخراجها ولا استطاعه، و(الخَمِيصَةِ) كساءٌ مربَّعٌ له أعلامٌ أو خطوطٌ قاله الخطَّابي، وقال ابن فارسٍ: كساءٌ أسود معلَّمٌ، فإن لم يكن معلَّمًا فليس بخميصةٍ، زاد القزَّاز ويكون مِنْ خزٍّ أو صوفٍ، قال: ولذلك أمر الشَّارع أن يُذهب بها إلى أبي جَهْمٍ، ويأتوا بأنْبَجانيَّة، وقال الدَّاوُديُّ: هي كساءٌ مِنْ صوفٍ.
          ثالثها: قوله: (طُوبَى) هي فُعلى مِنَ الطِّيب، أصلها: طُيْبَى، قُلبت ياؤه واوًا لانضمام ما قبلها، وقيل: هي الشَّجرة الَّتي في الجنَّة.
          وقوله: (إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ) يعني أنَّه خامل الذِّكر لا يقصد السُّموَّ، فأيُّ موضعٍ اتَّفق له كان، فمن لزم هذه الطَّريقة كان حريًّا إن اسْتأذن ألَّا يؤذن له، وإن شَفِع ألَّا يُشفَّع.
          رابعها: قوله في حديث عائشةَ: (لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ) إن قلت: كيف طلبَ الحراسة مع توكُّله ويقينه بالقدر؟ قلتُ: له ثلاثة أجوبةٍ نبَّه عليها ابن الجَوزيِّ:
          أحدها: أنَّه سَنَّ هذه الأشياء لا لحاجته إليها، كما ظاهر بين درعين، ويدلُّ على غناه عنها أنَّهم كانوا إذا اشتدَّ البأس قدَّموه واتَّقَوا به العدوَّ.
          ثانيها: الثِّقة بالله لا تنافي العمل على الأسباب، بدليل ((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)) وهذا لأنَّ التَّوكُّل يخصُّ القلب، والتَّعرُّض بالأسباب أفعالٌ تخصُّ البدن فلا تناقُضَ.
          ثالثها: وساوس النَّفس وحديثها لا يدفع إلَّا بمراعاة الأسباب، ومنه قول إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ومنه أنَّ سليمان رُئي يحمل طعامًا ويقول: إنَّ النَّفس إذا أحرزت قُوْتَها اطمأنَّت.
          وأجاب / ابن بَطَّالٍ بأنْ قال: في الحديث دليلٌ أنَّ ذلك كان قبل أن تنزل آية العصمة، وقبل نزول: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] لأنَّه جاء في الحديث أنَّه لمَّا نزلت هذه الآية ترك الاحتراس باللَّيل، ولأنَّ في حديث عائشةَ في بعض الرِّوايات أنَّ ذلك كان عند أوَّل قدومه المدينة، قلت: نزول {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} كان قبله، وزعم القُرْطبيُّ أنَّ آية العصمة ليس فيها ما يناقض الحراسة مِنَ النَّاس ولا ما يمنعه، كما أنَّ إخبار الله عن نصره وإظهار دينِه ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدد والعدَّة والأخذ بالحزم والحذر، وسبب ذلك أنَّ هذه أخبارٌ عن عاقبة الحال ومآله، ولكن هل تحصل تلك العاقبة عن سببٍ معتادٍ أو غير سببٍ، ووجدنا الشَّريعة طافحةً بالأمر له ولغيره بالتَّحصُّن، وأخذ الحذر مِنَ الأعداء والإعداد لذلك، وقد عمل بذلك _صلعم_ وأخذ به فلا تعارُض في ذلك.
          خامسها: في فوائده: فيه _كما قال المهلَّب_ التزامُ السُّلطان للحذر، والخوف على نفسه حضرًا وسفرًا، ألا ترى فعله مع مَا عرفه الله أنَّه يستكمل به دينه ويُعلي به كلمته، التزم الحذر خوف فتك الفاتك وأذى المؤذي بالعداوة في الدِّين والحسد في الدُّنيا، وفيه أنَّ على النَّاس أنْ يحرسوا سلطانهم ويحفُّوا به خشية الفتك وانخرام الأمر، وفيه أنَّ مَنْ شرع بشيءٍ مِنَ الخير أنَّه يُسمَّى صالحًا لقوله: (لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا) أي يبعثه صلاحه على حراسة سلطانه فكيف بنبيِّه، وفيه أنَّه متى سمع الإنسانُ حسَّ سلاحٍ باللَّيل أنْ يقول: مَنْ هذا، ويُعلم أنَّه ساهرٌ لئلَّا يَطمع فيه أهل الطَّلب للغرَّة والغفلة، فإذا علموا أنَّه مستيقظٌ ردعهم بذلك، وفيه تأكيد الدُّعاء بقوله: (وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ) أي إذا أصابته شوكةٌ فلا أخرجها بمِنقاشها، فيمتنع السَّعي للدِّينار والدِّرهم.
          وفيه الحضُّ على الجهاد حيث قال: (طُوبَى لِعَبْدٍ مُمْسِكٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ...) إلى آخره، فجمع في هذا الَّذي مدح مِنَ العمل خير الدنيا والآخرة لقوله: ((الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيْهَا الخَيْرُ: الأجْرُ والْمَغْنَمُ)) ونعيم الآخرة بقوله: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [التوبة:111] وفيه ترك حبِّ الرِّياسة والشُّهرة وفضل الخمول، ولزوم التَّواضع لله بأن يُجهل المؤمن في الدُّنيا ولا تُعرف عينه، فيُشار إليه بالأصابع، وبهذا أوصى _◙_ ابن عمرَ قال له: ((يَا عَبْدَ اللهِ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ)) والغريب مجهول العين غالبًا فَلا يُؤبه لصلاحه فيكرم مِنْ أجله.
          فائدةٌ: جاء في الحراسة عدَّة أحاديث:
          أحدها: مِنْ حديث سَهْلِ بنِ الحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ يَوْمَ حُنَيْنٍ فقالَ: ((مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟)) فقالَ ابْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، أخرجه أبو داود.
          ثانيها: مِنْ حديث عثمانَ مرفوعًا: ((حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا ويُصَامُ نَهَارُهَا)) رواه ابن ماجَهْ.
          ثالثها: مِنْ حديث عقبة بن عامرٍ: ((رَحِمَ اللهُ حَارِسَ الحَرَسِ)).
          رابعها: مِنْ حديث أنسٍ: ((مَنْ حرسَ ليلةً عَلَى ساحِلِ البَحْرِ كَانَ أَفْضَلَ منْ عِبَادَةِ أَلْف سنةٍ)) أخرجهما ابن ماجَهْ أيضًا.
          خامسها: مِنْ حديثِ سهلِ بن معاذٍ عن أبيه: ((مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مُتَطَوِّعًا لَا تَأَخُذْهُ نَاجِزَةُ سُلْطانٍ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ، إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)) أخرجه أحمد، وللطَّبَرانيِّ: ((بُعِثَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)).
          سادسها: مِنْ حديث يحيى بن صالحٍ الوُحَاظِيِّ، حدَّثنا جُمَيْعُ بنُ ثُوَبٍ، حدَّثنا خالد بن مَعْدَان عن أبي أُمَامة مرفوعًا: ((لَأنْ أحرسَ ثلاثَ ليالٍ مُرَابِطًا مِنْ وراءِ بَيْضَةِ المسلمينَ، أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ تُصِيْبَنِي ليلةُ القدرِ في مسجدِ المدينة أو بيت المقدس)) رواه ابن عساكرَ ثُمَّ قال: حديثٌ حسن، وعن قيس بن الحارث مثله، قال الحاكم: غريبٌ مِنْ حديث عمرَ بن عبد العزيز عن قيسٍ، وهو صحابيٌّ معمَّرٌ، قلتُ: فهذا سابعٌ.
          ثامنها: مِنْ حديث أبي رَيْحانة: ((حُرِّمَتِ النَّارِ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ)) رواه النَّسَائيُّ.
          تاسعها: مِنْ حديث أبي هريرة: ((حَرَّمَ اللهُ عَيْنًا سَهِرَتْ في طاعةِ اللهِ على النَّاِر)) أخرجه في «الخلعيَّات» مِنْ حديث سهيلٍ عن أبيه عن أبي هريرة، ومِنْ حديث بَهْزِ بن حَكيمِ بن معاويةَ عن أبيه عن جدِّه: ((ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ)) الحديث، أخرجه أيضًا، ولابن عساكرَ مِنْ حديث إسماعيل بن عَيَّاشٍ عن ثعلبة بن مسلمٍ عن أبي عِمران الأنصاريِّ: ((ثلاثةُ أعينٍ لا تحرقهُم النَّارُ)) فذكر مثله، وللتِّرمِذيِّ مِنْ حديث عطاءٍ الخُراسانيِّ عن ابن أبي رَباحٍ عن ابن عبَّاسٍ: ((حُرِّمَ عَلَى عَيْنَيْنِ أَنْ تَنَالَهُمَا النَّار: عينٌ باتَتْ تحرسُ في سبيلِ اللهِ...)) الحديثَ، ولعبد بن حُميدٍ في «مسنده» مِنْ حديث أبي عبد الرَّحمن عن أبي هريرة مثله، ولابن عساكرَ مِنْ حديث الفضل بن عبَّاسٍ وعطيَّة عن أبي سعيد الخُدْريِّ وابن عمرَ نحوه.