التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة

          ░84▒ (بابُ: مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ القَائِلَةِ)
          2910- ذكر فيه حديثَ جابرٍ: (أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ / فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ...) ثُمَّ ذكر أنَّه علَّق سيفه بسَمُرَةٍ وذكر قصَّة الأعرابيِّ معه، ثُمَّ ترجم له بعدُ باب: تفرُّق النَّاس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشَّجر [خ¦2913] ثُمَّ ساقه أيضًا، وفي لفظٍ: كان قَتَادة يذكر أنَّ قومًا مِنَ العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله _صلعم_ فأرسلوا هذا الأعرابيَّ ويتلو: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} الآية [المائدة:11]. قال البُخاريُّ [خ¦4135]: قال مسدَّدٌ عن أبي عَوانة عن أبي بشرٍ: اسم الرَّجل غَوْرَثُ بن الحارث، ورواه ابن أبي شيبة عن أسود بن عامرٍ، حدَّثنا حمَّاد بن سَلَمة عن محمَّد بن عمرٍو عن أبي سَلَمة عن أبي هريرة قال: كنَّا إذا نزلنا طلبنا للنَّبيِّ _صلعم_ أعظم شجرةٍ وأظلَّها، قال: فنزلنا تحت سَمُرةٍ، فجاء رجلٌ وأخذ سيفه وقال: يا محمَّد مَنْ يعصمك منِّي؟ قال: ((الله)) فأنزل الله _تعالى_: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ولم يذكر فيه أنَّ أحدًا كان يحرسه، بخلاف ما كان عليه في أوَّل أمره، فإنَّه كان يُحرس حتَّى نزل: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
          وروى الواحِديُّ مِنْ حديث الحِمَّانيِّ عن النَّضْر عن عِكْرمة عن ابن عبَّاسٍ: كان رسول الله _صلعم_ يُحرس، فكان عمُّه أبو طالبٍ يرسل معه كلَّ يومٍ رجالًا مِنْ بني هاشمٍ يحرسونه، فلما نزل عليه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال: يَا عَمَّاهُ إنَّ اللهَ عَصَمَنِي مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ، قال: وقالت عائشةُ: سَهر النَّبيُّ _صلعم_ ذات ليلةٍ فقال: ((أَلا رجلٌ صالحٌ يحرسُنِي؟)) فجاء سعدٌ وحُذيفة، فنام حتَّى سمعتُ غطيطه، فنزلت هذه الآية، فأخرج رأسه مِنْ قبَّة أدمٍ فقال: ((انْصَرِفَا فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ))، وعند البَيْهَقيِّ:فسقط السَّيف مِنْ يد الأعرابيِّ، فأخذَه رسول الله _صلعم_ وقال: مَنْ يمنعك منِّي؟ فقال: كنْ خيرَ آخذٍ، فقال: ((فتُسْلِم؟)) قال: لا، ولكن أعاهدك على ألَّا أقاتلك، ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلَّى سبيله، فأتى أصحابَه، فقال: جئتكم مِنْ عند خير النَّاس.
          إذا تقرَّر ذلك فهنا أمورٌ:
          أحدها: كانت هذه الواقعة قَبْلَ نجدٍ كما سلف، وعند الإسماعيليِّ: قبلَ أُحُدٍ، وذكر ابن إسحاقَ أنَّ ذلك كان في غزوته إلى غَطَفان لثنتَي عشرة مضت مِنْ صَفرٍ، وقيل: في ربيعٍ الأوَّل سنة اثنتين وهي غزوة ذي أَمَر، وسمَّاها الواقديُّ غزوة أَنْمَارٍ، ويُقال: كان ذلك في ذات الرِّقاع، وأنَّه _◙_ نزع ثوبيه ونشرهما على شجرةٍ ليجفَّا مِنْ مطرٍ كان أصابه، واضطجع تحتها، فقال الكفَّار لِدَعْثُورٍ _وكان سيِّدَهم وكان شجاعًا_: قد انفرد محمَّدٌ فعليك به، فأقبل ومعه صارمٌ حتَّى قام على رأسه، فقال: مَنْ يمنعك منِّي؟ فقال رسول الله _صلعم_: ((الله)) فدفع جبريلُ في صدره، فوقع السَّيف مِنْ يده، فأخذه رسول الله _صلعم_ وقال: ((مَنْ يمنعك أنت اليوم منِّي؟)) فقال: لا أحد، فقال: ((قم فاذهب لشأنك)) فلمَّا ولَّى قال: أنت خيرٌ منِّي، فقال _◙_: ((أنا أحقُّ بذلك منك)) ثُمَّ أسلم بعد. وفي لفظٍ: وأنا أشهد ألَّا إله إلَّا الله، وأنَّك رسول الله ثُمَّ أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام. قلتُ: فيجوز تعدُّد الواقعة، وذكرها الحاكم في غزوة خيبرَ مِنْ حديث جابرٍ، ولعلَّه أشبه لأنَّه قيل: إنَّ آية العصمة كان بعد بنائه بِصَفِيَّة أو ليلة البناء.
          ثانيها: اسمه غَوْرَث بن الحارث كما سلف، وسمَّاه الخطيب غورك بالكاف بدل الثَّاء، وللخَطَّابيِّ: غُوَيْرِث بالتَّصغير، وذكر القاضي عياضٌ أنَّه مضبوطٌ عند بعض رواة البُخاريٍّ بعينٍ مهملةٍ، قال: وصوابه بالمعجمة، وقال الجَيَّانيُّ: هو فَوْعَلُ مِنَ الغَرْثِ، وهو الجوع.
          ثالثها: قد أسلفنا أنَّ جبريل _صلعم_ دفعه في صدره فوقع السَّيف، وعند الخطَّابيِّ: لمَّا همَّ بقتله أخذته الزُّلْخَة: يعني: رجفًا في صلبه، فندَر السَّيف مِنْ يده.
          رابعها: معنى: اخْتَرَطَ سَيفيْ وَأَنَا نَائِمٌ أي اسْتَلَّه بسرعةٍ، وأصله مِنْ خرطتُ العودَ أخرُطه وأخرِطه خَرْطًا، ذكره القزَّاز، وقال الدَّاوُديُّ معناه: سلَّهُ.
          وقوله: (وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا) أي جرَّده، ومثلُه مُصْلَتٌ: مخرَجٌ مِنْ جفنه، وقال القُرْطُبيُّ في «شرح مختصره»: قوله: (وَالسَّيْفُ صَلْتٌ فِي يَدِهِ) رُوي برفع (صَلْتٌ) ونصبه، فمَنْ رفعه جعله خبر المبتدأ الَّذي هو السَّيف، و(فِي يَدِهِ) متعلِّقٌ به، ومَنْ نصب جعل الخبر في المجرور ونصب صلتًا على الحال أي مُصلَتًا، والمشهور فتح لام (صَلتَ)، وذكر القُتَبيُّ أنَّها تُكسر في لغةٍ، وقال ابن عُدَيسٍ: ضربه بالسَّيف صَلتًا وصُلتًا بالفتح والضَّمِّ، أي: مجرَّدًا، يُقال: سيفٌ صلتٌ ومنصلتٌ، وإصْليتٌ: متجرِّدٌ ماضٍ.
          وقوله: (فَشَامَ السَّيْفَ) أي أغمده، ويطلق أيضًا في اللُّغة على سلَّه، والمراد هنا: أغمده، وغمده وأغمده بمعنًى، قال المبرِّد: هو مِنَ الأضداد، سلَّه وأغمده، وبه جزم ابن بَطَّالٍ أيضًا.
          خامسها: في هذا نزل: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} الآية [المائدة:11] كما سلف، وقيل: فيه نزلت: {وَهُوَ الَّذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح:24] وعُورض هذا بقوله: {بِبَطْنِ مَكَّة} ولم تكن هذه القصَّة في بطن مكَّة، وهذا ظاهرٌ.
          وقوله: (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟) استفهامٌ مَشوبٌ بالنَّفي، كأنَّه قال: لا مانع لي منك، فلم يبالِ بقوله، ولا عرَّج عليه ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه.
          سادسها: في فوائده: فيه _كما قال المهلَّب_ أنَّ تعليق السَّيف والسِّلاح في الشَّجر صيانةً لها مِنَ الأمر المعمول به، وفيه أنَّ تعليقها على بعدٍ مِنْ صاحبها مِنَ الغَرر لا سيَّما في القائلة واللَّيل، لما وصل إليه هذا الأعرابيُّ مِنْ سيفه ◙، وفيه تفرُّق النَّاس عن الإمام في القائلة، وطلبهم الظِّلَّ والرَّاحة، ولكن ليس ذلك في غير رسول الله _صلعم_ إلَّا بعد أن يبقى معه مَنْ يحرسه مِنْ أصحابه لأنَّ الله _تعالى_ كان قد ضمن لنبيِّه العصمة، قاله ابن بَطَّالٍ، قال: وقيل: إنَّ هذه القصَّة كانت سبب نزول هذه الآية، ثُمَّ ساق ما أسلفناه عن ابن أبي شَيبة.
          وفيه أنَّ حراسة الإمام في القائلة واللَّيل مِنَ الواجب على النَّاس، وأنَّ تضييعه مِنَ المنكر والخطأ، وفيه جواز نوم المسافر إذا أَمِنَ، وفي تبويب البُخاريِّ هنا مَا يشعر بأنَّ المجاهد إذا أمن نام ووضع سلاحه، وإن خاف استوفز، وفيه دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصًا، وشكوى مَنْ أنكره إليهم، وفيه ترك الإمام معاقبة مَنْ جفا عليه وتوعَّده إن شاء، والعفو عنه إن أحبَّ، وفيه صبرُ سيِّدنا رسول الله _صلعم_ وحلمُه وصفحُه عن الجهَّال، وفيه شجاعتُه وبأسه وثبات نفسه ويقينه أنَّ الله ينصره على الدِّين كلِّه، ولمَّا شاهد الرَّجل تلك القوى الَّتي فارق بها عادة النَّاس في مثل تلك الحالة تحقَّق صدقَه، وعلم أنَّه لا يصل إليه بضررٍ، وهذا مِنْ أعظم الخوارق للعادة، فإنَّه عدوٌّ متمكِّنٌ بيده سيفٌ مشهورٌ وموتٌ حاضرٌ، ولا تغيَّرَ له _◙_ حالٌ ولا جزع، وهذا مِنْ معجزاته عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام. /
          فائدةٌ: (الدُّؤَلِيُّ) في إسناد البابين _بضمِّ الدَّال وفتح الهمزة_ نسبةً إلى الدِّيل مِنْ كنانة، واسمه: (سِنَانُ بْنُ أَبيِ سِنَانٍ)، قال الأخفش فيما حكاه أبو حاتم السِّجِسْتَانيُّ: جاء حرفٌ واحدٌ شاذٌّ على وزن فعل وهو الدُّؤل، وهو دُوَيْبَّةٌ صغيرةٌ تشبه ابن عرسٍ، وبها سُمِّيت قبيلة أبي الأسود الدُّؤليِّ، وهي مِنْ كنانة، إلَّا أنك تقول: الدُّؤلي فتفتح، استثقلوا كسرتين بعد ضمَّةٍ وياء النَّسب، وقال سِيبَوَيه: ليس في كلام العرب في الأسماء ولا في الصِّفات بنيةٌ على وزن فعل، وإنَّما ذلك مِنْ بنية الفعل.