التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الحدود

          ♫
          ░░86▒▒ كِتَابُ الحُدُودِ
          هِيَ جمْعُ حدٍّ، وأصلُه المنعُ ومنه سُمِّي البوَّابُ حدَّادًا.
          ░1▒ بَابُ مَا يُحْذَرُ مِنَ الحُدُودِ
          وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ.
          6772- وسيأتِي في آخِرِ البابِ مِن عند الطَّبَرِيِّ وغيرِه [خ¦6810].
          ثمَّ ساق حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) الحديث بِطُولِه، وسلَفَ في المظالم [خ¦2475].
          قال الطَّبَرِيُّ: اختلفَ مَن قبلَنا في معنى هذا الحديثِ فأنكرَ بعضُهم أن يكونَ الشَّارعُ قاله.
          قال عَطَاءٌ: اختلفتِ الرُّواةُ في أداءِ لفْظِ الشَّارعِ بذلكَ فقال مُحَمَّدُ بنُ زيدِ بنِ وَاقِدِ بن عُبَيْد اللهِ بن عُمَرَ بن الخطَّابِ _وسُئِلَ عن تفسيرِ هذا الحديثِ_ فقال: إنَّما قال رسولُ الله صلعم: ((لا يزنينَّ مُؤمِنٌ ولا يسرقنَّ مُؤمِنٌ)) وقال آخرونَ: عنى بذلكَ لا يَزني وهو مستحِلٌّ له غيرُ مؤمنٍ بتحريمِ اللهِ تعالى ذلك عليه، وأمَّا إنْ فَعَلَه معتقدًا تحريمَه فهو مؤمنٌ، رُوِيَ ذلك عن عِكْرِمَة عن مولاهُ ابنِ عَبَّاسٍ، وحُجَّتُه حديثُ أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((مَن قال لا إله إلَّا الله دخلَ الجنَّة، وإنْ زنى وإن سَرَقَ، وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذرٍّ)). وقال آخَرونَ: أراد أَلَّا يكونَ في ذلك الحالِ كاملًا لشرائطِ الإيمانِ، فيزولُ عنه اسمُ المدْحِ الَّذي يُسمَّى به الأولياءُ، ويستحقُّ اسمَ الذَّمِّ الَّذي يُسمَّى به المنافقُ فيُوسَمُ بذلك، ويُقال له مُنَافقٌ وفاسِقٌ، رُوي هذا عن الحَسَن قال: النِّفاقُ نِفَاقانِ، تكذيبٌ بالشَّارعِ ولا يُغفَرُ، ونِفاقُ خطايا وذنوبٍ تُرجَى لصاحبِها. وعن الأوزاعِيِّ قال: كانوا لا يكفِّرونَ أحَدًا بذنبٍ ولا يَشهدون على أحَدٍ بكفرٍ، ويتخوَّفون نِفَاق الأعمالِ على أنفُسهم.
          وقال الوليدُ بنُ مُسلمٍ: ويصدِّقُ قولَ الأوزاعِيِّ ما رواهُ عن هَارُون بن رِئَابٍ أنَّ عبدَ الله بن عُمَرَ قال في مَرَضِه: زوِّجوا فلانًا بابْنَتِي فلانة، فإنِّي كنتُ وعدتُهُ بذلك وأنا أكرهُ أن أَلقى الله بثُلُثِ النِّفاقِ. وحدَّثنا الزُّهْرِيُّ عن عُرْوَة أنَّه قال لابنِ عُمَر: الرَّجلُ يَدخُلُ منَّا على الإمامِ فيراهُ يقضي بالجَوْرِ فيسكُتُ، وينظُرُ إلى أحدِنا فَيُثني عليه بذلكَ، فقال عبدُ الله: أمَّا نحن مَعاشرَ أصحابِ رسولِ اللهِ فكنَّا نعدُّها نِفاقًا، ولا ندرِي كيف تعدُّونَه؟!
          وعن حُذَيفَةَ ☺ أنَّه سُئلَ مَن المنافقُ؟ قال: الَّذي يتكلَّمُ بالإسلامِ ولا يَعملُ به.
          وحُجَّةُ هذا القولِ أنَّ النِّفاقَ إنَّما هو إظهارُ المرْءِ بلسانِه قولًا يُبْطِنُ خِلافَه كَنَافِقَاء اليَرْبُوعِ الَّتي تتَّخِذُها كَيْ إنْ طلبَ الصَّائدُ مِن قِبَلِ مدخلٍ قَصَعَ مِن خِلافِه، فمَن لم يَجْتَنِبِ الكبائرَ مِن أهلِ التَّوحيدِ عَلِمْنا أنَّ ما ظَهَر مِن الإقرارِ بلسانِه خِداعٌ للمؤمنين فاستحقَّ اسمَ النِّفاق، ويشهدُ لِذلكَ قولُه ╕: ((ثلاثٌ مِن علاماتِ المنافقِ إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلَفَ، وإذا أؤتمنَ خانَ)) والزِّنا والسَّرقةُ وشُرْبُ الخمْرِ أدلُّ على النِّفاقِ مِن هذه الثَّلاثِ.
          وقال آخرون: إذا أتى المؤمنُ كبيرةً نُزِعَ منه الإيمانُ وإذا فارَقَها عادَ إليه. ورُوِيَ عن أبي الدَّرْداء: قال عبدُ الله بن رَوَاحةَ: إنَّما مَثَلُ الإيمانِ مَثَلُ قميصٍ بَيْنَا أنتَ إذْ لَبِسْتَهُ قد نَزَعْتَهُ، وبَيْنَا أنتَ قد لَبِسْتَه إذْ نَزَعْتَهُ. وعن يَزِيد بن أبي حَبِيبٍ عن سَالِم بن عُمَر سَمِعَ أبا أيُّوبَ يقول: إنَّه لتمُرُّ على المرءِ ساعةٌ وما في جِلْدِهِ موضِعُ إبرةٍ مِن إيمانٍ، وتمرُّ به ساعةٌ وما في جِلْدِهِ موضِعُ إبرةٍ مِن نِفاقٍ. وعلى هذه المقالةِ أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ غيرَ أنَّ التَّصديقَ معنيانِ: قولٌ وعملٌ، فإذا ركبَ كبيرةً فارقه اسمُ الإيمان، كما يُقال للاثنَينِ إذا افترقا، فالإيمانُ التَّصديقُ الَّذي هو الإقرارُ والعملُ الَّذي هو اجتنابُ الكبائر، وإذا أُلقيت عادَ إليه لأنَّه مُجْتَنِبٌ ومُصَدِّقٌ.
          وقيل: هو على المقاربةِ، أي يكادُ مِن عظيمٍ أنْ يُقارِبَهُ، والشَّيءُ يُسمَّى باسْمِ ما قاربَهُ، وقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234] أي قاربْنَ. وقيل: معنى مؤمنٍ أمِنَ مِن عذابِه، وقال بعضُ الخوارجِ والرَّافضةِ والإباضيَّةِ _هُم نوعٌ مِن الخوارجِ_: مَن فعل شيئًا مِن ذلك فهو كافرٌ خارجٌ / مِن الإيمان؛ لأنَّهم يكفِّرُون المؤمنَ بالذُّنوبِ ويُوجبونَ عليه التَّخليدَ في النَّارِ بالمعاصي، ومِن حُجَّتهم ظاهرُ حديثِ البابِ: (لَا يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ).
          وقال أبو هُرَيرَةَ: الإيمانُ فوقَ هكذا، فإنْ هو تاب راجَعَهُ الإيمانُ، وإنْ أَصَرَّ ومَضَى فارقَهُ.
          وقال أبو صالحٍ عنه: يُنزَعُ منه، فإنْ تاب رُدَّ عليه، قالوا: ومن نُزِع منه الإيمانُ فهو كافِرٌ لأنَّه لا منزلةَ بين الإيمانِ والكُفر، ومَن لم يكن مؤمنًا فهو كافِرٌ، وجماعةُ أهلِ السُّنَّة وجمهورُ الأُمَّة على خلافِهم.
          وحُجَّة أهلِ السُّنَّة أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ قد بيَّن حديثَ أبي هُرَيْرَةَ وقال: إنَّ العبدَ إذا زَنَى نُزِعَ منه نورُ الإيمان لا الإيمانُ. كذا أخرجه الطَّبَرِيُّ مِن حديثِ شَرِيكِ بن عبد الله عن إبراهيمَ بن مُهَاجرٍ عن مُجَاهِد عنه مرفوعًا: ((مَن زنى نَزَعَ اللهُ منه نورَ الإيمانِ مِن قلبِه، فإنْ شاء أن يردَّه عليه ردَّه)).
          قال الطَّبَرِيُّ: والصَّوابُ عندَنا قولُ مَن قال: يزولُ عنه الاسمُ الَّذي هو بمعنى المدحِ إلى الاسمِ الَّذي هو بمعنى الذَّمِّ، فيُقال له فاجِرٌ فاسِقٌ زانٍ سارقٌ، ولا خِلافَ بينَ جميعِ الأُمَّةِ أنَّ ذلك مِن أسمائِه ما لم يَتُبْ، ويزولُ عنه اسمُ الإيمانِ بالإطلاقِ والكمالِ بِركوبِه ذلك ويُنْسَب له بالتَّقييدِ فنقول: هو مُؤمِنٌ باللهِ ورسولِه مُصَدِّقٌ قولًا، ولا نقول مُطلقًا هو مُؤمِنٌ؛ إذْ كان الإيمانُ عندَنا معرفةً قولًا وعملًا، فلمَّا لم يأتِ بها كلَّها استحقَّ التَّسميةَ بالإيمانِ على غيرِ الإطلاقِ والاستعمالِ له.
          فَصْلٌ: معنى نَزْعِ الإيمانِ نَزْعٌ يُعتبَر به في الطَّاعةِ لِغَلَبِةِ الشَّهوةِ عليه، فكأنَّ تلك البصيرة نورٌ طفَتْهُ الشَّهوةُ مِن قلبِه، يشهَدُ له قولُه تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
          وقد سلف شيءٌ مِن هذا المعنى في الإيمانِ في بابِ علامات المنافِقِ، وفي العِلْم في باب مَن خَصَّ بالعِلْمِ قومًا. وسيأتي عنه أنَّه يُنزَعُ هكذا، وشبَّك بين أصابعِه ثُمَّ أخرجَها، فإنْ تابَ عادَ إليه هكذا، وشبَّكَ بين أصابعِه [خ¦6809].
          فَصْلٌ: ممَّا يوضِحُ تأويلَ أهلِ السُّنَّةِ السَّالفَ إيجابُ الحدِّ على البِكْر على نمطٍ، وعلى الثَّيِّبِ على نمطٍ، والعبدِ على نمطٍ، فلو كان كلُّه كُفْرًا لكان فيه حدٌّ واحدٌ وهو حدُّ الكُفْرِ، فلمَّا كان الواجبُ فيهما مِن العقوبة مختلفًا دلَّ أنَّهما شيئانِ وأنَّه ليس بكافِرٍ.
          وقولُه بعدَ هذا في الَّذي كان يلعنُ حِمَارًا: ((لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنَّه يحبُّ الله ورسوله)) [خ¦6780] دليلٌ أيضًا أنَّه ليس بكافِرٍ لأنَّه نَهَى عن لعْنِه وأثبتَ له محبَّةَ اللهِ ورسولَه صلعم وقال بعدَ ذلك: ((لا تكونوا أعوانَ الشَّيطان على أخيكم)) [خ¦6781] فسمَّاه أخًا في الإسلام.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حَزْمٍ في أثرِ ابنِ عَبَّاسٍ: هو أثرٌ صحيحٌ لا مغمزَ فيه، رواه عن رسولِ الله صلعم عائِشَةُ وابنُ عَبَّاسٍ وأبو هُرَيرةَ بالأسانيدِ الثَّابتة، فهو نقلٌ مُتواترٌ يُوجِبُ صحَّةَ العلم، وقد اختلفَ النَّاسُ في تأويلِه وما هو الإيمان المُزَال له، فعنه يُخلَعُ منه كما يُخلَعُ سِربالُه فإذا رَجَع رَجَع، وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه شبَّك أصابعَه ثمَّ زايَلَها ثمَّ قال: هكذا، ثمَّ ردَّها. وفي روايةٍ: ((يَنْزع الله منه رِبْقَةَ الإيمان)) وعن نافعِ بن جُبَيرٍ: إذا زايلَ رَجَع إليه الإيمان ولكنْ إذا أخَّر عن العمل، قال: وحسبتُهُ أنَّه ذَكره عن ابنِ عَبَّاسٍ، وقال طَاوُسٌ: يبقى الإيمانُ كالظِّلِّ. وفي حديثِ أبي هَارُون العَبْدِيِّ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ يَرْفَعهُ قال: هذا نهيٌ يقول حينَ هو مُؤمِنٌ فلا يفعلِ الزِّنا ولا السَّرقة.
          وقال ابن حَزْمٍ: فالإيمانُ المزايلُ لمرتكِبِ هذه الأمورِ هي الطَّاعةُ لله فقط وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ باليقين؛ لأنَّ الزِّنا والخَمْرَ وشبههما ليس شيءٌ منهما طاعةً لله فليست إيمانًا، فإذْ ليس شيءٌ منها إيمانٌ ففاعلُها ليس مطيعًا.