التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء

          ░3▒ (بُابُ: الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
          وقال عمرُ _☺_: ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سبيلك).
          2788- 2789- ثُمَّ ساق عن أنسٍ دخولَه _◙_ على أمِّ حرامٍ ودعاءَه لها بالشَّهادة بطوله.
          وأثر عمرَ أسنده آخرَ الحجِّ كما مضى [خ¦1890]، وأخرجه ابن سعدٍ في «طبقاته» أيضًا عن محمَّد بن إسماعيل بن أبي فُدَيكٍ عن هشام بن سعدٍ عن زيد بن أسلم عن أبيه عَن حفصةَ أمِّ المؤمنين أنَّها سمعت أباها يقول: اللَّهمَّ ارزقني قتلًا في سبيلك ووفاةً في بلد نبيِّك، قالت: قلتُ: وأنَّى ذلك؟ قال: إنَّ الله يأتي بأمره أنَّى شاء. وأخبرنا معن بن عيسى حدَّثنا مالكٌ عن زيد بن أسلم أنَّ عمرَ كان يقول في دعائه: اللَّهمَّ إنِّي أسألك شهادةً في سبيلك ووفاةً ببلد رسولك. وأخبرنا عبد الله بن جعفرٍ الرَّقِّيُّ حدَّثنا عبيد الله بن عمرٍو عن عبد الملك بن عُمَيْرٍ عن أبي بُردة عن أبيه قال: رأى عوف بن مالكٍ منامًا قصَّه على عمرَ بالشَّام فيها: وإنَّ عمرَ شهيدٌ مستشهدٌ، فقال عمرُ: أَنَّى لي الشَّهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب، ولستُ أغزو والنَّاسُ حولي؟ ثُمَّ قال: بلى، وبلى يأتي الله _╡_ بها إنْ شاء الله، زاد بعضهم: على يدي عدوِّك. وفي «الموطَّأ»: اللَّهمَّ لا تجعل قتلي بيد رجلٍ صلَّى لك سجدةً واحدةً يحاجُّني بها يوم القيامة عندك، وجاء_كما قال ابن العربيِّ_ مرفوعًا: ((خيرُ الشُّهداءِ مَنْ قَتَلَهُ أهلُ مِلَّتِه فيأخذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ)).
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام على حديث الباب مِنْ وجوهٍ _وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا وذكره في قتال الرُّوم [خ¦2924] والرُّؤيا أيضًا، وأخرجه الأربعة في الجهاد أيضًا وقال التِّرمِذيُّ: حسنٌ صحيحٌ_:
          أحدها: هذا الحديث ذكره في باب: ركوب البحر [خ¦2894] عن أبي النُّعمان عن حمَّادٍ عن يحيى عن محمَّد بن يحيى / بن حَبَّان، عن أنسٍ قال: حدَّثتني أمُّ حَرامٍ فذكره، جعله مِنْ مسند أمِّ حَرامٍ، وفي حديث عُمَير بن الأسود العَنْسِيِّ أنَّه أتى عُبادةَ بن الصَّامت وهو نازلٌ في ساحل حِمص في بناءٍ له ومعَه أمُّ حَرامٍ، قال عُمير: فحدَّثتنا أمُّ حَرامٍ عن النَّبيِّ _صلعم_ بنحوه، وأخرجه أيضًا في باب: غزو المرأة في البحر [خ¦2877]، عن عبد الله بن محمَّدٍ حدَّثنا معاوية بن عمرٍو حدَّثنا أبو إسحاقَ عن عبد الله بن عبد الرَّحمن عن أنسٍ به.
          قال الجَيَّانيُّ: كذا رُوِّيناه مِنْ جميع طرق البُخاريِّ، وقال أبو مَسعودٍ: سقط بين أبي إسحاقَ الفَزَاريِّ وبين أبي طُوَالَةَ عبدِ الله بنِ عبد الرَّحمن زائدةُ بنُ قُدامةَ، قال الجَيَّانيُّ: قابلته في «مسند أبي إسحاقَ الفَزَاريِّ» فوجدته كما عند البُخاريِّ، وكذا رواه ابن وضَّاحٍ عن أبي مروان المَصِّيْصِيِّ عن أبي إسحاقَ، قال الجَيَّانيُّ: ومع هذا فالحديث محفوظٌ لزائدةَ، عَن أبي طُوالة رواه عنه حسين بن عليٍّ الجُعْفِيُّ وَمعاوية بن عمرٍو، ورواه الإسماعيليُّ مِنْ حديث حسين بن عليٍّ عن زائدةَ، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: روى بِشر بن عمرَ الزَّهْرانيُّ هذا عن مالكٍ عن إسحاق عن أنسٍ عن أمِّ حَرامٍ.
          ثانيها: في روايةٍ في «الصَّحيح» تأتي قريبًا: ((يَركبونَ هَذَا البَحْرَ الأخْضَرَ))، وفي روايةٍ: فخرجتْ مع زوجها غازيةً أوَّل ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلمَّا انصرفوا مِنْ غَزاتهم قُرِّبت لها دابَّتها، ولابن حِبَّان: قبرها في جزيرةٍ في بحر الرُّوم يُقال لها: قبرس، مِنَ المسلمين إليها ثلاثة أيَّام، وللدَّارَقُطْنيِّ رواه عنها أيضًا عطاء بن يَسارٍ.
          ثالثها: قال ابن عبد البرِّ: أمُّ حَرامٍ هذه خالة أنسٍ، ولا أقف لها على اسمٍ، وأظنُّها أرضعت النَّبيَّ _صلعم_ وأمُّ سُلَيْمٍ أرضعته أيضًا إذ لا يَشكُّ مُسلمٌ أنَّها كانت منه بمَحْرَمٍ، وقد أَخبرنا غيرُ واحدٍ مِنْ شيوخنا، عن أبي محمَّد بن فُطَيْسٍ، عن يحيى بن إبراهيم بن مُزَين قال: إنَّما استجاز رسولُ الله _صلعم_ أن تَفلِيَ أمُّ حَرامٍ رأسه لأنَّها كانت منه ذات مَحْرَمٍ مِنْ قبل خالاته لأنَّ أمَّ عبد المطَّلب كانت مِنْ بني النَّجَّار، وقال يونسُ بن عبد الأعلى: قال لنا ابن وَهْبٍ: أمُّ حَرامٍ إحدى خالات رسول الله _صلعم_ مِنَ الرَّضاعة، قال ابن عبد البرِّ: فأيُّ ذلك كان فأُمُّ حَرامٍ محرَمٌ منه، ونقل ابن التِّيْنِ عن ابن وَهبٍ أنَّها كانت خالتَه ولم يزد، ثُمَّ قال: وقال جماعةٌ غيره: كانت خالتَه مِن الرَّضاعة، وقال ابن الحَذَّاءِ: قال لنا أبو القاسم بن الجَوهَريِّ: وأمُّ حَرامٍ هي إحدى خالاته مِنَ الرَّضاعة، وكذا قاله المهلَّب، قال ابن بَطَّالٍ: وقال غيره: إنَّها كانت خالةً لأبيه أو لجدِّه لأنَّ أمَّ عبد المطَّلب كانت مِنْ بني النَّجَّار، وكان يأتيها زائرًا لها والزِّيارةُ مِنْ صلة الرَّحم، وذكر ابن العربيِّ عن بعض العلماء أنَّ هذا مخصوصٌ برسول الله _صلعم_ أو يحمل على أنَّه كان قبل الحِجاب إلَّا أنَّ (تَفْلِي رَأْسَهُ) يضعِّف هذا، وزعم ابن الجَوزيِّ أنَّه سمع بعض الحفَّاظ يقول: كانت أمُّ سُلَيمٍ أختَ آمنة مِنَ الرَّضاعة، وقد أسلفنا كلام الدِّمْياطيِّ في دخوله على أمِّ سُليمٍ وقوله: ليس في الحديث ما يدلُّ على الخلوة بها، فلعلَّ ذلك كان مع ولدٍ أو خادمٍ أو زوجٍ أو تابعٍ، والعادة تقتضي المخالطة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيَّما إذا كُنَّ مُسِنَّاتٍ مع ما ثبت له _عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام_ مِنَ العِصمة، ولعلَّ هذا قبل الحِجاب فإنَّه كان في سنة خمسٍ، وقَتلُ أخيها حَرامٍ الَّذي كان يرحمها لأجله كان سنة أربعٍ.
          رابعها: فيه إباحة ما قدَّمته المرأة إلى ضيفها مِنْ مال زوجها لأنَّ الأغلب أنَّ ما في البيت مِنَ الطَّعام هو للرَّجل، وقال ابن التِّيْنِ: يحتمل أن يكون ذلك مِنْ مال زوجها لعلمه أنَّه كان يُسرُّ بذلك، ويحتمل أن يكون مِنْ مالها، قال ابن بَطَّالٍ وقال ابن العربيِّ: ومِنَ المعلوم أنَّ عُبَادةَ وَكُلَّ المسلمين يسرُّهم أَكْلُ سيِّدنا رسول الله _صلعم_ في بيته، واعترضه القُرْطُبيُّ فقال: حين دخوله _صلعم_ على أمِّ حَرامٍ لم تكن زوجًا لعُبَادة كما يقتضيه ظاهر اللَّفظ إنَّما تزوَّجتْه بعد ذلك بمدَّةٍ كما جاء في روايةٍ عند مسلمٍ: ((فَتَزَوَّجَها عُبَادَةُ بَعْدُ)).
          خامسها: (تَفْلِي) بفتح التَّاء وسكون الفاء، وقَتلُ القمل وغيره مِنَ المؤذيات مستحَبٌّ، ونوم القائلة أصله في معونة البدن لقيام اللَّيل، وفرحُه _◙_ لما عاين مِنْ ظهور أمَّته اتِّساع مُلكهم حتَّى يغزوا في البحر وتُفتح البلاد، قال أبو عمر: أراد أنَّه رأى الغُزاة في البحر على الأسِرَّةِ في الجنَّة، ورؤيا الأنبياء وحيٌ، يشهد له قوله _تعالى_: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56] وبه جزم ابن بَطَّالٍ حيث قال: إنَّما رآهم ملوكًا على الأسِرَّة في الجنَّة في رؤياه، ويحتمل كما قال القُرْطُبيُّ أنْ يكون خبرًا عن حالهم في غزوهم أيضًا.
          سادسها: فيه دِلالةٌ عَلى ركوب البحر للغزو، قال ابن المسيِّب: كان أصحاب النَّبيِّ _صلعم_ يتَّجرون في البحر منهم طلحة وسعيد بن زيدٍ، وهو قول جمهور العلماء إلَّا عمرَ بن الخطَّاب وابن عبد العزيز فإنَّهما منعا مِنْ ركوبه مطلقًا، ومنهم مَنْ حمله على ركوبه لطلب الدُّنيا لا الآخرة، وكره مالكٌ ركوبه للنِّساء مطلقًا لما يُخاف عليهنَّ مِنْ أنْ يُطَّلع منهنَّ أو يطَّلعنَ على عورةٍ، وخصَّه بعضهم بالسُّفن الصِّغار دون الكِبار والحديث يخدش فيه، وأمَّا حديث ابن عَمْرٍو مرفوعًا: ((لَا يُركَبُ الْبَحْرُ إِلَّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ غَازيًاللهفَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا)) فأخرجه أبو داود وهو ضعيفٌ، ولمَّا ذكره الخَلَّال مِنْ حديث ليثٍ / عن مجاهدٍ عنه قال ابن مَعِينٍ: هذا عن رسول الله _صلعم_ منكرٌ.
          سابعها: فيه أيضًا إباحة الجهاد للنِّساء في البحر، وقد ترجم له بذلك كما ستعلمه، قالت أمُّ عطيَّة: ((كُنَّا نَغْزُو معَ رسولِ الله صلعم فَنُدَاوي الكَلْمى ونقومُ عَلَى الْمَرْضَى)).
          ثامنها: فيه أنَّ الوكيل والمؤتمن إذا علم أنَّه يُسَرُّ صاحب المنزل بما يفعله في مالِه جازَ له فِعْلُ ذلك، ومعلومٌ أنَّ عُبادة كان يَسُرُّه نزولُ رسول الله _صلعم_ في بيته، واختلف العلماء في عطيَّة المرأة مِنْ مال زوجها بغير إِذنه، وسيأتي إيضاحه في موضعه وسَلف في الزَّكاة أيضًا [خ¦1425].
          تاسعها: (ثَبَجَ) بثاء مثَّلثة ثُمَّ باءٍ موحَّدةٍ ثُمَّ جيمٍ؛ وهو الظَّهر، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: أعلى متن الشَّيء ومعظمُه، وثَبَجُ كلُّ شيءٍ: وسطه، ويؤيِّد الأوَّل رواية: ((يركبونَ ظَهْرَ هذا البحر))، والثَّبج: مَا بين الكَتِفين، وفي «أمالي القالي» ثَبَجُ البحرِ: ظهرُه، وقيل: معظمه، وقيل: قوَّته، وضحكُه سرورٌ منه بما يدخله الله على أمَّته مِنَ الأجر ومَا ينالونه مِنَ الخير كما سلف.
          العاشر: فيه أيضًا أنَّ الجهاد تحت راية كلِّ إمامٍ جائرٍ ماضٍ إلى يوم القيامة لأنَّه رأى الآخرين ملوكًا على الأسِرَّة كما رأى الأوَّلين وَلا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة، قال _تعالى_: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:39-40].
          الحادي عشر: قولها: (ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ) فيه تمنِّي الغزو والشَّهادة وَهو موضع تبويب البُخاريِّ الشَّهادة للرِّجال والنِّساء، وقال غيره أيضًا: إنَّ فيه تمنِّيَ الشَّهادة وليس في الحديث، وإنَّما فيه تمنِّي الغزو لا تمنِّي الشَّهادة، كذا قاله ابن التِّيْنِ، وقال ابن المنيِّر: حاصل الدُّعاء بالشَّهادة أن يدعُوَ الله أن يمكِّن منه كافرًا يعصي الله فيقتله، وهذا مشكلٌ على القواعد إذ مقتضاها ألَّا يتمنى معصية الله لا له وَلا لغيره، ووجه تخريجه أنَّ الدُّعاء قصدًا إنَّما هو نيل الدَّرجة المرفوعة الْمُعَدَّة للشُّهداء، وأمَّا قتل الكافر فليس مقصودَ الدَّاعي وإنَّما هو مِنْ ضروريات الوجود لأنَّ الله _تعالى_ أجرى حكمه ألَّا ينال تلك الدَّرجة إلَّا شهيدٌ، قلتُ: قد أسلفنا أنَّ عمر _☺_ تمنَّاها على يد كافر.
          الثَّاني عشر: قيل: إنَّ رؤياه _◙_ الثَّانيةَ كانت في شهيد البَرِّ، فوصف حال البَرِّ والبحر بأنَّهم ملوكٌ على الأسرَّة، حكاه ابن التِّيْنِ وغيره، قال: وقيل: يحتمل أن يكون حالهم في الدُّنيا كالملوك على الأسرَّة ولا يبالون بأحدٍ.
          الثَّالث عشر: هذا الحديث مِنْ أعلام نبوَّته وذلك أنَّه أَخبر فيه بضروبٍ مِنَ الغيب قبل وقوعها:
          منها جهادُ أمَّته في البحر، وضحكُه دالٌّ على أنَّ الله _تعالى_ يفتح لهم ويُغنِمهم، ومنها الإخبار بصفة أحوالهم في جهادهم، وهو قوله: (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ) ومنها قوله لأمِّ حَرامٍ: (أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ) فكان كذلك، غَزَتْ مع زوجها أوَّل غزوة كانت إلى الرُّوم في البحر مع معاوية زمن عثمان سنة ثمان وعشرين، وقال ابن زيدٍ: سنة سبعٍ وعشرين، وقيل: بلْ كان ذلك في خلافة معاويةَ على ظاهره، والأوَّل أشهر وهو ما ذَكره أهل السِّيَر، وفيه هلكت.
          ومنها الإخبار ببقاء أمَّته مِنْ بعده وأن تكون لهم شوكةٌ، وأنَّ أمَّ حَرامٍ تبقى إلى ذلك الوقت، وكلُّ ذلك لا يُعلم إلَّا بوحيٍ على مَا أُوحِي به إليه في نومه، وفيه أنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقد سلف، وفيه ضحكُ المبشَّر إذا بُشِّر بما يَسُرُّه كما فعل الشَّارع، وفيه كما قال المهلَّب: فضلٌ لمعاويةَ وأنَّ الله قد بَشَّر به نبيَّه في النَّوم لأنَّه أوَّل مَنْ غزا في البحر وجعل مَنْ غزا تحت رايته مِنَ الأوَّلين، وفيه أنَّ الموت في سبيل الله شهادةٌ، قال ابن أبي شَيبة: حدَّثنا يزيد بن هارون حدَّثنا ابن عَونٍ عن ابن سِيرِين، عن أبي العَجْفاء السُّلَميِّ قال: قال عمرُ: قال محمَّدٌ _صلعم_: ((مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مَاتَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ)).
          الرابعَ عشرَ: فيه دلالةٌ عَلى أنَّ مَنْ مات في طريق الجهاد مِنْ غير مباشرةٍ ومشاهدةٍ له مِنَ الأجر مثلُ ما للمباشر، وكُنَّ النِّساء إذا غزونَ يسقين الماء ويداوينَ الكَلْمى ويصنعنَ لهم طعامهم وما يصلحهم، كما سلف.
          قال ابن عبد البرِّ: وفيه أنَّ الموت في سبيل الله والقتل سواءٌ أو قريبٌ مِنَ السَّواء في الفضل، قال: وإنَّما قلتُ: أو قريبًا مِنَ السَّواء لاختلاف النَّاس في ذلك، فمن أهل العلم مَنْ جعل الميِّت في سبيل الله والمقتول سواءً، واحتجَّ بقوله _تعالى_: {وَالَّذينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58] الاثنين جميعًا، وبقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [النساء:100] وبقوله _╕_ في حديث عبد الله بن عَتيكٍ: ((مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فماتَ، أو لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ فماتَ، أو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ))، وفي «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)) ومِنْ حديث / عُقبة بن عامرٍ مرفوعًا: ((مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ في سَبِيْلِ اللهِ فَمَاتَ فَهُوَ شهيدٌ))، وفي أبي داود مِنْ حديث بقيَّةَ عَن عبد الرَّحمن بن ثابت بن ثَوبانَ عن أبيه، عن مَكحولٍ عن ابن غَنْمٍ عن أبي مالكٍ الأَشعريِّ مرفوعًا: ((مَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ على أيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللهُ فهو شَهِيدٌ)) واستدركه الحاكم وقال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، قال ابن عبد البرِّ: وقد ثبت عن سيِّدنا رسول الله _صلعم_ أنَّه سُئل: أيُّ الجهاد أفضل؟ فقال: ((مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وعُقِرَ جَوادُه)) فإذا كان هذا أفضلَ الشُّهداء أعْلمَ أنَّ مَنْ ليس كذلك أنَّه مفضول.
          قلتُ: وفي «صحيح الحاكم» _وقال: صحيح الإسناد_ مِنْ حديث كعب بن عُجْرة قال النَّبيُّ _صلعم_ لعُمر يوم بدرٍ ورأى قتيلًا: ((يا عُمَرُ إِنَّ لِلشُّهَدَاءِ سَادَةً وَأَشْرَافًا وَمُلُوكًا، وَإِنَّ هَذَا مِنْهُم))، وروى الحُلْوانيُّ في «معرفته»: حدَّثنا أبو عليٍّ الحنفيُّ، حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن عبد الملك بن عُميرٍ قال: قال عليُّ بن أبي طالبٍ: ((مَن حبسه السُّلطان وهو ظالمٌ له فمات في محبسه ذلك فهو شهيدٌ، ومَنْ ضربه السُّلطان ظالمًا فمات مِنْ ضربه ذلك فهو شهيدٌ، وكلُّ موتٍ يموت بها المسلم فهو شهيدٌ غير أنَّ الشَّهادة تتفاضل)).
          قال ابن عبد البرَّ: وكان عمر بن الخطَّاب يضرب مَنْ يسمعه يقول: مَنْ قُتل في سبيل الله فهو شهيدٌ، ويقول لهم: قولوا: في الجنَّة، قال أبو عمر: وذلك أنَّ شرط الشَّهادة شديدٌ، فمِنْ ذلك ألَّا يغُلَّ ولا يَجبن، وأن يُقتل مقبلًا غير مدبرٍ وينفق الكريمة، وألَّا يؤذيَ جارًا ولا رفيقًا ولا ذمِّيًّا ولا يخفيَ غلولًا ولا يسبَّ إمامًا، ولا يفرَّ مِنَ الزَّحف، قلت: ومقالة عمرَ أخرجها الحاكم عنه، ولفظه: لعلَّه يكون قد أوقر دابَّته ذهبًا أو ورِقًا يلتمس التِّجارة فلا تقولوا ذاكم، ولكن قولوا كما قال النَّبيُّ _صلعم_: ((مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مَاتَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ)) ثُمَّ قال: حديثٌ صحيحٌ ولم يخرجاه، وعن أبي عُبيدة عن أبيه: إيَّاكم وهذه الشَّهاداتِ أن يقول الرَّجل: قُتل فلانٌ شهيدًا، فإنَّ الرَّجل يقاتل حميَّةً، ويقاتل في طلب الدُّنيا، ويقاتل وهو جريء الصَّدر.
          قال: واختلفوا في شهيد البحر أهو أفضل أم شهيد البرِّ؟ فقال قومٌ: شهيد البرِّ، وقال قوم: شهيد البحر، قال: ولا خلاف بين أهل العلم أنَّ البحر إذا ارتجَّ لم يجزْ ركوبُه لأحدٍ بوجهٍ مِنَ الوجوه في حين ارْتجاجه.
          والَّذين رجَّحوا شهيد البَحر احتجُّوا بما رواه الطَّبَرانيُّ في «أكبر معاجمه» مِنْ حديث أبي أُمامة مرفوعًا: ((يُغفر لشهيد البرِّ الذُّنوبُ كلُّها إلَّا الدَّينَ، ويُغفر لشهيد البحر الذُّنوبُ كلُّها والدَّينُ)) ورواه ابن أبي عاصمٍ في كتاب «الجهاد» عن الحسن بن الصَّبَّاح، حدَّثنا يحيى بن عبَّادٍ حدَّثنا يحيى بن عبد العزيز عن عبد العزيز بن يحيى حدَّثنا سعيد بن صفوان، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن أبي بُرْدة، سمعت عبد الله بن عمرٍو: قال رسول الله _صلعم_: ((الشَّهادة تكفِّر كلَّ شيءٍ إلَّا الدَّينَ، والغزو في البحر يكفِّر ذلك كلَّه)). ومِنْ حديث عبد الله بن صالحٍ عن يحيى بن أَيُّوب عن يحيى بن سعيدٍ عن عطاء بن يَسارٍ عن ابن عمرو مَرفوعًا: ((غزوةٌ في البَحْرِ خيرٌ مِنْ عشرِ غَزَواتٍ في البَرِّ)) ومِنْ حديث هلال بن ميمون عن أبي ثابتٍ يعلى بن شدَّاد بن أوسٍ، عن أمِّ حَرامٍ قالت: ذكر رسولُ الله _صلعم_ غُزاة البحر فقال: ((إنَّ للمَائِدِ فيه أجرَ شهيدٍ، وإنَّ للغريقِ أجرَ شَهيدَيْنِ)) ولابن ماجَهْ مِنْ حديث أبي أُمامة مرفوعًا: ((لَشهيدُ البحر مثل شهيد البرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ، وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللهِ، وإنَّ اللهَ _تعالى_ وَكَلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الأرْوَاحِ إِلَّا شَهِيدَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ رُوحِه، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الدَّيْنَ، وَلِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ كُلِّهَا وَالدَّيْنَ)) وقد سلف هذا عنِ الطَّبَرانيِّ أيضًا.