التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قال: خذها وأنا ابن فلان

          ░167▒ باب: مَنْ قال خُذها، وأنا ابن فلانٍ.
          وقال سَلمةُ: خُذْهَا وَٱنَا ابنُ الأَكْوَعِ.
          3042- ثُمَّ ساق حديث البراء:
(أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ)
          وقد سلفا [خ¦3041] [خ¦2864].
          وأسند الأوَّل أيضًا، ومعنى (خُذْهَا) الرَّمية، قال ابن التِّيْنِ: وهي كلمةٌ يقولها الرَّامي عندما يصيب فرَحًا. وكان ابن عمر إذا رمى فأصاب يقول: خذها وأنا أبو عبد الرَّحمن، ورمى بين الهدفين وقال: أنا بها أنا بها، وكان راميًا، كان يرمي الطَّير على سنام البعير فلا يخشى أن يصيب السَّنام. وقال: أنا الغلام الهُذَليُّ، ورُوي عنه صلعم: ((انا ابن العَواتك)).
          وقال ابن بَطَّالٍ: معنى (خُذْهَا وَٱنَا ابنُ الأَكْوَعِ) أي: أنا ابن المشهور في الرَّمي بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر، لأنَّ العرب تقول: أنا ابن بَجدتها، أي: القائم بالأمر، وأنا ابن جَلَا يريد: المنكشفَ الأمر الواضحَ الجليَّ. وقال الهُذَليُّ:
فَرَمَيْتُ فَوْقَ مُلاءَةٍ مَحْبُوْكَةٍ                     وَأَبَنْتُ لِلأَشْهَاد حزَّةَ أَدَّعِي
          يقول: أبنت لهم قولي: خذها وأنا ابن فلانٍ، وحزَّة: يعني ساعة أدَّعي إلى قومي ولا يقول مثل هذا إلَّا الشُّجاعُ البطل، والعادة عند العرب أن يُعْلِمَ الشُّجاع نفسه بعلامةٍ في الحرب يتميَّز بها عن غيره ليقصده مَنْ يدَّعي الشَّجاعة فأعلم النَّبيُّ صلعم نفسه بالنُّبوَّة المعصومة وبنسبِه الطَّاهر، فقال ذلك ليقوِّيَ قلب مَنْ تمكَّن الشَّيطان منه فأزلَّه فانهزم، ولذلك نزل صلعم بالأرض، لأنَّ النُّزول غاية ما يكون مِنَ الطُّمأنينة والثِّقة بالله، ليقتديَ به المؤمنون فيثبتوا، لأنَّه صلعم لا يجوز عليه مِنْ كيد الشَّيطان أن يقذف في قلبه خوفًا تزلُّ به قدمُه، أو ينكُصَ على عَقِبَيه فينهزم، لأنَّه على بصيرةٍ مِنْ أمره، ويقينٍ مِنْ نصر الله له، وإتمامِ أمره ومنعِه مِنْ عدوِّه، وقد سلف هذا المعنى [خ¦2864].
          ووقع في الدَّاوُديِّ: ((فلمَّا غشيه المشركون تولَّى)) يعني أبا سفيان بن الحارث، قال: وليس هذا في أكثر الرِّوايات، وهذا لم يروِه أحدٌ غيرُه، والمعروف في الرِّوايات: (فلمَّا غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
أنا النَّبيُّ لا كذب)
          إلى آخره.
          وفي «النَّوادر»: قال محمَّد بن عبد الحكَم: لا بأس بالافتخار عند الرَّمي والانتماء للقبائل والرَّجز وكلُّ ذلك إذا رمى بالسَّهم فظنَّه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذِّكر لله أحبُّ إليَّ، وإن قال: أنا الفلانيُّ لقبيلته فذلك جائزٌ كلُّه مستحبٌّ، وفيه إغراءٌ لبعضِهم ببعضٍ.
          واختَلف السَّلف كما قال الطَّبَريُّ: هل يُعْلِمُ الرَّجلُ الشُّجاعُ نفسه عند لقاء العدوِّ، فقال بعضهم: ذلك جائزٌ على ما دلَّ عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسَه حمزةُ بن عبد المطَّلب يوم بدرٍ بريشة نعامةٍ في صدره، وأعلم نفسَه أبو دُجَانة بعِصابةٍ بمحضَر رسول الله صلعم، وكان الزُّبَير يوم بدرٍ مُعْتمًّا بعِمامةٍ صفراءَ فنزلت الملائكة معتمِّين بعمائم صفرٍ، وقال ابن عبَّاسٍ: في قوله تعالى في: {بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] أنَّهم أتَوا محمَّدًا صلعم مسوَّمين بالصُّوف، فسوَّم محمَّدٌ وأصحابُه أنفسَهم وخيلهم على سِيماهم بالصُّوف، وكره آخرون التَّسويم والإعلام في الحرب، وقالوا: فعلُ ذلك مِنَ الشُّهرة ولا ينبغي للمسلم أن يُشهِر نفسه في خيرٍ ولا شرٍّ، قالوا: وإنَّما ينبغي للمؤمن إذا فعل شيئًا لله تعالى أن يخفيَه عن النَّاس {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ} [آل عمران:5]، رُوي هذا عن بُريدة الأسلميِّ، والصَّواب كما قال الطَّبَريُّ أنَّه لا بأس بالتَّسويم والإعلام في الحرب إذا فعله الفاعل مِنْ أهل البأس والنَّجدة، وهو قاصدٌ بذلك شحذَ النَّاسِ على الائتساء به والصَّبر للعدوِّ والثَّبات لهم في اللِّقاء، وهو يريد ترهيب العدوِّ إذا عرفوا مكانه، وإعلام مَنْ معه مِنَ المسلمين أنَّه لا يخذلهم ولا يُسْلِمُهم، وإذا لم يُرد ذلك وقصد به الافتخار، فهذا المعنى هو المكروه لأنَّه ليس ممَّن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا، وإنَّما قاتل للذِّكر.