التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم من الجنة

          ░5▒ (بابُ: الغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ)
          2792- ذكر فيه حديثَ أنسٍ: (لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا).
          2793- وَحديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: (لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ. وقال: لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ).
          2794- وحديثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (الرَّوْحَةُ وَالغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا).
          الشَّرح: حاصل ما ذكره البُخاريُّ ثلاث طرقٍ وكلُّها في مسلمٍ أيضًا، وله طريقٌ رابعٌ مِنْ طريق أبي أَيُّوب انفرد به مسلمٌ، وخامسٌ مِنْ طريق الحكم عن مِقْسَمٍ عن ابن عبَّاسٍ أخْرجه التِّرمِذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ، وأخرجه أحمدُ أيضًا، وسادسٌ مِنْ طريق عمرَ أخرجه ابن عساكر وقال: حديثٌ غريبٌ، وسابعٌ مِنْ طريق عبد الله بن بُسْرٍ أخرجه أيضًا، وثامنٌ مِنْ طريق الزُّبَير بن العوَّام أخرجه أبو يعلى الموصليُّ، وتاسعٌ مِنْ طريق معاوية بن خَدَيجٍ أخرجه المَحَامِليُّ، وعاشرٌ مِنْ طريق أبي الدَّرْداءِ أخرجه ابن أبي عاصمٍ، وحادي عشرَ مِنْ طريق عليِّ بن يزيدَ عن القاسم عن أبي أمامة أخرجه أبو أحمدَ.
          ولأحمد مِنْ حديث ابن لَهِيْعةَ عن زَبَّان عن سهل بن معاذ، عن أبيه أنَّه تأخَّر / عن بَعْثٍ بُعث فيه حتى صلَّى الظُّهر فقال له رسول الله _صلعم_: ((أَتَدْرِي بِكَمْ سَبَقَكَ أَصْحَابُكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، سَبَقُونِي بِغَدْوَتِهِمْ، فقالَ النَّبِيُّ _صلعم_: ((وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَبَقُوكَ بِأَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ فِي الْفَضِيلَةِ)).
          إذا تقرَّر ذلك فالغَدْوَة _بفتح الغين المعجمة_ المرَّة مِنَ الغُدُوِّ، وهو مِنْ أوَّل النَّهار إلى الزَّوال، أمَّا بالضَّم فمِنْ صلاة الغداة إلى طلوع الشَّمس، والرَّوْحَة _بفتح الرَّاء_ المرَّة مِنَ الرَّواح أيَّ وقتٍ كان، والمراد به هنا: مِنَ الزَّوال إلى الغروب، و(أَوْ) هنا للتَّقسيم لا للشَّكِّ، واللَّفظ مشعرٌ بأنَّها تكون فعلًا واحدًا، ولا شكَّ أنَّها قد تقع على اليسير والكثير مِنَ الفعل الواقع في هذين الوقتين، ففيه زيادةُ ترغيبٍ وفضلٌ عظيمٌ، فالرَّوحة تحصِّل هذا الثَّواب وكذا الغدوة، قال النَّوويُّ: والظَّاهر أنَّه لا يختصُّ ذلك بالغدوِّ أو الرَّواح مِنْ بلدته بلْ يحصل هذا الثَّواب بكلِّ غدوةٍ ورَوحةٍ في طريقه إلى الغزو، وكَذا غدوُّه ورواحه مِنْ موضع القتال لأنَّ الجميع يُسمَّى غدوةً وروحةً في سبيل الله، وكذا قال الدَّاوُديُّ: الصَّحيح أنَّ الغدوة والرَّوحة الخرجة الواحدة ووقتها كما سلف.
          وقوله: (فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني: ليقاتل فيها أو يكون فيها بأرض العدوٍّ.
          وقوله: (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا) يعني: ثواب ذلك في الجنَّة خيرٌ مِنَ الدُّنيا، وقيل في مثل هذا: خيرٌ مِنْ أن يتصدَّق بما في الدُّنيا إذا ملكها مالكٌ فأنفقها في وجوه البرِّ والطَّاعة غير الجهاد، وقال القُرْطُبيُّ: أي الثَّواب الحاصل على مشيةٍ واحدةٍ في الجهاد خيرٌ لصاحبه مِنَ الدُّنيا كلِّها لو جُمِعت له بحذافيرها، وقال الْمُهَلَّبُ: هما خيرٌ مِنْ زمن الدُّنيا لأنَّهما في زمنٍ قليلٍ، أي: ثوابُ هذا الزَّمن القليل في الجنَّة خيرٌ مِنْ زمن الدُّنيا كلِّها، وكذا قوله: (لقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ) أو (مَوْضِعُ سَوطِ) يريد أنَّ ما صغر في الجنة مِنَ المواضع خيرٌ مِنَ المواضع كلِّها مِنْ بساتينها وأرضها، فأخبر في هذا الحديث أنَّ قصير الزَّمان وصغر المكان في الآخرة خيرٌ مِنْ طويل الزَّمان وكبر المكان في الدُّنيا تزهيدًا فيها وتصغيرًا لها وترغيبًا في الجهاد أو بالغدوة والرَّوحة فيه، أو مقدارُ قوس المجاهد يعطيه الله في الآخرة أفضلُ مِنَ الدُّنيا وما فيها، فما ظنُّك بمَنْ أتعب فيه نفسه وأنفق ماله؟
          والقَابُ: القَدْر، قال صاحب «العين»: قاب القوس: قدْرُ طولها، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: هُو ما بين السِّيَّة والمقبض، وَعن مجاهدٍ: قدْر ذراعٍ، والقَوْسُ: الذِّراع بلغة أَزْد شَنُوءة، قال ابن عبَّاسٍ وسفيان: القوس: ذراعٌ يُقاس به، قال مجاهدٌ في {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر ذراعين، والأشهر أنَّ القَابَ القدْرُ، وكذلك القِيبُ والقيد والقَادُ والقِدَى، وقال الدَّاوُديُّ: قابُ القوس: ما بين الوتر والقوس، وقِيدُ السَّوط: قَدْرُه، قال في «المخصَّص»: والقوس أنثى وتصغيرها بغير هاءٍ، والجمع: أقواسٌ وقِياسٌ وقِسِيٌّ وقُسِيٌّ.
          وهذا منه _صلعم_ إنَّما هو على ما استقرَّ في النُّفوس مِنْ تعظيم ملك الدُّنيا، وأمَّا عند التَّحقيق فلا تدخل الجنَّةُ في الدُّنيا تحت أَفْعَلَ إلَّا كما يُقال: العسل أحلى مِنَ الخلِّ، فالغُدوة والرَّوحة في سبيل الله وثوابها خيرٌ مِنْ نعيم الدُّنيا كلِّها لو ملكها وتصوَّر تنعُّمه بها كلِّها لأنَّه زائلٌ ونعيم الآخرة باقٍ.