التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحرير في الحرب

          ░91▒ (بابُ: الحَرِيرِ فِي الحَرْبِ)
          2919- ذكر فيه حديثَ أنسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحمن بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَير فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا).
          2920- وفي روايةٍ: (أَنَّ عَبْدَ الرَّحمن بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَير شَكَوَا إِلَى النَّبِيِّ _صلعم، يَعْنِي القَمْلَ_ فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِي الحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ).
          2921- وفي روايةٍ: رَخَّصَ لَهُمَا فِي حَرِيْرٍ.
          2922- وفي روايةٍ: رَخَّصَ النَّبِيُّ _صلعم، أَوْ رُخِّصَ_ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا في السَّفر، وأخرجه الأربعة أيضًا، ثُمَّ الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: الحديث صريحٌ لمذهب الشَّافعيِّ ومَنْ وافقه في تجويز لُبس الحرير للرَّجل عند نزول الحِكَّة به، أو كثرة القمل، ومَا في معناهما، وكان فيه خاصيَّةٌ ترفع ذلك، وعُلِّل أيضًا بأنَّ فيه بردًا، وهو عجيبٌ فإنَّ الأطبَّاء على خلافه، وصف أبو عليٍّ الملابس البرد في المصقول والكتَّان، والحرَّ في الحرير والأقطان، وخالف مالكٌ فقال: لا يجوز، والسُّنَّة قاضيةٌ عليه، قال القُرطُبيُّ: الحديث دالٌّ على جواز لُبسه للضَّرورة، وبه قال بعض أصحاب مالكٍ، وأمَّا مالكٌ فمنعه في الوجهين، والحديث واضح الحجَّة عليه إلَّا أن يدَّعيَ الخصوصيَّة لهما ولا يصحُّ، ولعلَّ الحديث لم يبلغه. قلتُ: ويجوز لُبسه أيضًا عند الضَّرورة كفجاءة حربٍ ولم يجد غيره، ولِمَنْ خاف مِنْ حرٍّ أو بردٍ، وسواءٌ فيما ذكرناه الحضر والسَّفر، وقال بعض أصحابنا: يختصُّ بالسَّفر، وهو ضعيفٌ.
          وجمع ابن العربيِّ في أصل لُبس الحرير عشرة أقوالٍ: التَّحريم بكلِّ حالٍ، مقابلُه مباحٌ بكلِّ حالٍ، الحرمة وإن خلط مع غيره كالخزِّ، استثناء الحرب، استثناء السَّفر، استثناء المرض، استثناء الغزو، استثناء العلم منه، إلحاق النِّساء بالرِّجال، يحرم لبسه مِنْ فوق دون أسفل وهو الفرش، قاله أبو حَنِيفةَ وابن الماجِشُون وعلَّلاه بأنَّه ليس بلُبسٍ، ويردُّه قول أنسٍ: فقمت إلى حصيرٍ لنا قد اسْوَدَّ مِنْ طول ما لُبِس، وفي أفراد البُخاريِّ مِنْ حديث حذيفة: نهانا رسول الله _صلعم_ عن لُبس الحرير والدِّيباج وأن نجلس عليه، حجَّة الأوَّل هذا الحديث، وحديث أبي موسى الآتي في البُخاريِّ [خ¦5833] ومسلمٍ أيضًا: ((مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ)). وفي «مستدرك الحاكم» مِنْ حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ مرفوعًا مثله بزيادة: ((وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ)) ثُمَّ قال: حديثٌ صحيحٌ، وأخرجه ابن حِبَّان في «صحيحه».
          وقال ابن بَطَّالٍ: اختَلف السَّلف في لباسه في الحرب، فأجازته طائفةٌ وكرهته أخرى، فممَّن كرهه عمرُ بن الخطَّاب، ورُوي مثله عن ابن مُحَيْرِيزٍ وعكرمة وابن سِيرين، وقالوا: كراهته في الحرب أشدُّ لما يرجون مِنَ الشَّهادة، وهو قول مالكٍ وأبي حَنِيفةَ، وقال مالكٌ: ما علمت أحدًا يُقتدى به لَبِسَه في الغزو، وممَّن أجازه في الحرب: روى مَعْمَرٌ عن ثابتٍ قال: رأيت أنس بن مالكٍ يلبس الدِّيباج في فزعةٍ فَزِعَها النَّاس. وقال أبو فَرقدٍ: رأيت على تجافيف أبي موسى الدِّيباج والحرير، وقال عطاءٌ: الدِّيباج في الحرب سلاحٌ، وأجازه محمَّد ابن الحنفيَّة وعروة والحسن البصريُّ، وهو قول أبي يوسف والشَّافعيِّ، وذكر ابن حبيبٍ عن ابن الماجِشُون أنَّه استخفَّ الحريرَ في الجهاد والصَّلاة به حينَئذٍ للتَّرهيب على العدوِّ والمباهاة، وفي «مختصر ابن شعبان» عن ابن الماجِشُون، عن مالكٍ مثل مَا ذكره ابن حبيبٍ، وقال الطَّبَريُّ: مَنْ كره لباسه في الحرب وغيره فإنَّهم جعلوا النَّهي عنه عامًّا في كل حالٍ، ومَنْ رخَّص فيه في الحرب احتجُّوا بحديث الباب، فبان بذلك أنَّ مَنْ قصد بلُبسه / دَفْعَ ما هو أعظمُ عليه مِنْ أذى الحِكَّة كأسلحة العدوِّ المريد نفس لابسه لقتلٍ وشبهه فله مِنْ ذلك نظير الَّذي كان لعبد الرَّحمن والزُّبَير بن العوَّام بسبب الحِكَّة والقمل.
          ومِنَ الحجَّة أيضًا حديث أسماء أخرجه حجَّاجٌ، عن أبي عمر خَتَن عطاءٍ عنها أنَّها أخرجت جبَّةً مزرَّرةً بالدِّيباج وقالت: كان رسولُ الله _صلعم_ يلبسُها في الحرب. قال المهلَّب: ولباسه في الحرب مِنْ باب الإرهاب على العدوِّ، وكذلك ما رخَّص فيه مِنْ تحلية السُّيوف، وكلِّ ما يُستعمل في الحرب هو مِنْ هذا الباب، ويدلُّ على أنَّ أفضل ما استُعمل في قتال العدوِّ والتَّحيُّل في قذف الرُّعب في قلوبهم، وكذلك رخَّص في الاحتيال في الحرب، وقال _◙_ لأبي دُجانة وهو يتبختر في مشيته: ((إنَّها لمشيةٌ يبغضها الله إلَّا في هذا الموضع)) لما في ذلك مِنَ الإرهاب والازدهاء على الأعداء.
          وقام الدَّليل مِنْ هذا على أنَّ حُسْن الرَّأي وجودة التَّدبير مِنَ الرَّجل الواحد يشير به في قتال العدوِّ وقد يكون أنكى مِنَ الشَّجاعة، وغناء العساكر العِظام، ومَنِ استثنى السَّفر فكأنَّه استند لحديث الباب، ومَنِ استثنى العلم فلحديث عمرَ في مسلمٍ: نَهَى رسولُ اللهِ _صلعم_ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، رواه مسلمٌ وفي أبي داود: ثلاثة أو أربعة.
          والظَّاهر أنَّه ليس بشكٍّ مِنَ الرَّاوي وإنَّما هو تفصيلٌ للإباحة، كما يُقال: خذ واحدًا أو اثنين أو ثلاثةً _يعني ما شئت مِنْ ذلك_ وفي «مسند أحمد» و«سنن أبي داود» مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللهِ _صلعم_ عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنَ الْحَرِيرِ، وأَمَّا الْعَلَمُ وَسَدَاء الثَّوْبِ فَلَيسَ بِهِ بَأْسَ. وصحَّحه الحاكم على شرط الشَّيخين بلفظ: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللهِ _صلعم_ عَنِ الْمُصْمَتِ إذا كانَ حريرًا.
          وقد أباحه مالكٌ في ثلاثة أصابع في أشهر قوليه لأنَّه لم يروِ إلَّا أربع، ومَنْ حرَّمه على النِّساء أيضًا احتجَّ بحديث مسلمٍ أنَّ ابن الزُّبَير قال: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ _صلعم_ يقولُ: ((مَنْ لَبِسَ الحريرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ)) وكأنَّه فهم العموم ولم يرَ الخصوص، وهو الحديث الصَّحيح أنَّه _◙_ أعطى عليًّا حُلَّةً وقال: ((شقِّقها خُمُرًا بين نِسائك)) أخرجاه مِنْ حديثه، وفي روايةٍ: ((بينَ الفَواطِمِ)) زاد ابن أبي الدُّنيا: فشقَّقها أربعة أَخْمِرة: خمارًا لزوجته، وآخر لأمِّه، وآخر لابنة حمزة، ونسي الرَّاوي الرَّابعة، وحديث أبي موسى الأشعريِّ عبد الله بن قيسٍ مرفوعًا: ((أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا)) رواه أحمد والتِّرمِذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخالف ابن حبَّان في «صحيحه» فقال: لا يصحُّ، ومَنْ قال بإباحته مطلقًا تعلَّق بأنَّ الشَّارع لَبِسَه، ثُمَّ حرَّمه، ثُمَّ أباحه لما ذُكر، والمحرَّم مِنَ المطاعم والملابس لا يُباح لمثل هذه الحاجة اليسيرة، ألا ترى أنَّه لا يجوز التَّداوي بالبول للحاجة؟ قلتُ: هو عندنا جائزٌ على الأصحِّ.
          قال ابن العربيِّ: وهذا منزع مَنْ لم يتبصَّر القول كما قال الرَّاوي الصَّاحب العالم: رُخِّص للدَّاء، كان ذلك نصًّا على بقاء التَّحريم في الَّذي بدَّله واختصاص الرُّخصة به، ثُمَّ الرُّخصة شرعًا إمَّا لحاجةٍ وإمَّا لضرورةٍ أو لمشقَّةٍ يسيرةٍ داخلةٍ على المسلم، كالقصر والفطر، وكان ابن الزُّبَير يلبس الخزَّ فدلَّ على إباحته، ولَبِسَه أيضًا عثمانُ، قال: والنُّكتة المعنوية في ذلك أنَّ الخزَّ والحزام والصُّوف والكَتَّان حلالٌ، فإذا مُزجا جاء منهما نوعٌ لا يُسمَّى حريرًا، فلا الاسم يتناوله ولا السَّرف والخيلاء يدخله، فخرج عن الممنوع اسمًا ومعنى، فجاز على الأصل وكُره على الشُّبهة. قلتُ: محلُّه عندنا إذا زاد وزن غير الحرير أو استويا، فإن زاد الحرير حَرُم.
          وقال ابن التِّيْنِ: أتى بهذه الطُّرق في الباب لقوله: (فِي غَزَاةٍ) والَّذي أتى مِنْ ذكر الحكَّة والقمل فقد يكونان جميعًا بهما، فربَّما ذكر أحدهما، وربَّما يذكر الآخر قاله الدَّاوُديُّ، والصَّحيح أنَّ ذلك لحكَّةٍ، وإنَّما ذكر القمل بتأويل أحدِ النَّقلة، ولعلَّه تأويلٌ غير صحيحٍ لأنَّه فسَّر في الطَّريقين الأخيرين أن ذلك لحكَّةٍ، قال: وقد جوَّز بعض العلماء لباس الحرير لما فيه مِنَ التَّرهيب على العدوِّ وإظهار قلَّة الهيبة لهم، فيكون أغيظَ لقلوبهم، ذكره سُحْنون، وكرهه مالكٌ في الحرب وغيره، وذَكر ابن حَبيبٍ عن ابن الماجِشُون أنَّه أجاز ذلك في الحرب، وذكره عن مالكٍ وجماعةٍ مِنَ الصَّحابة والتَّابعين، وأجازوا الصَّلاة فيه.
          خاتمةٌ: قوله: (شَكَوا) كذا هو بالواو، وهو لغةٌ يُقال: شَكَيْتُ وشَكَوْتُ، بالواو والياء، وادَّعى ابن التِّيْنِ أنَّه وقع <شَكَيَا>، ثُمَّ قال: وصوابه: (شَكَوَا) لأنَّ لام الفعل منه واوٌ فهو مثل: {دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف:189]، نعم في «الصِّحاح» الياء أيضًا.