التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المجن ومن يتترس بترس صاحبه

          ░80▒ (بابُ: المِجَنِّ وَمَنْ يَتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ)
          ذكر فيه ثلاثة أحاديثَ:
          2902- أحدها: حديث أنسٍ: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ _صلعم_ بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ _صلعم_ فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ).
          2903- ثانيها: حديث سهلٍ: (لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ _صلعم_ عَلَى رَأْسِهِ وَأَدْمَى وَجْهُهُ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي المِجَنِّ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى المَاءِ كَثْرَةً، عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ، فَرَقَأَ الدَّمُ).
          2904- ثالثها: حديث عمرَ: (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ).
          الشَّرح: حديث أنسٍ مِنْ أفراده، ومعنى (يَتَتَرَّسُ مَعَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ بِتُرْسٍ وَاحِدٍ) قيل: يريد لأنَّ الرَّاميَ لا يمسك التُّرس إنَّما يرمي بيديه جميعًا، فيستره رسول الله _صلعم_ لئلَّا يُرْمَى وكان حسن الرَّمي وانكسر في يده قوسان أو ثلاثةٌ، وفي روايةٍ: أنَّه كان يقول لرسول الله _صلعم_: لا تُشْرِفْ فيصيبَك العدوُّ، نحري دون نحرك، وفي حديث سهلٍ: ما أصيب سيِّدنا رسول الله _صلعم_ يوم أُحدٍ بما ذكر مِنْ كسر البيضة والرَّباعيَة، وهي السِّنُّ الَّتي بين الثَّنِيَّةِ والنَّابِ، وإدماء وجهه، أدماه عُتبة بن أبي وقَّاصٍ أخو سعدٍ، ورماه ابن قَمِئَة، وقال: خذها وأنا ابن قَمِئَة، فقال له النَّبيُّ _صلعم_: ((أَقمأَكَ اللهُ في النَّار)) فدخل بعد ذلك صبرة غنم فنطحه تيسٌ منها، وواراه فلم يوجد له مكانٌ، وأراد أُبَيُّ بن خلفٍ أن يرميَه، فأراد طلحة أنْ يحول بينه وبينه فقال له النَّبيُّ _صلعم_: ((كما أنت)) ورمى رسول الله _صلعم_ أُبيًّا فأصابه تحت سابغة الدِّرع في نحره فمات مِنْ يومه.
          وقوله: (فَرَقَأَ الدَّمُ) وهو مهموزٌ أي: أمسك عَن الجري، قال صاحب «الأفعال»: يُقال: رقأ الدَّم والدَّمع رُقوءًا: سكن بعد جريه.
          وقوله: (مِمَّا لَمْ يُوجِفِ) يُقال: وَجَفَ البعيرُ يَجِفُ وَجْفًا ووجيفًا، وهو ضربٌ مِنْ سيره، وأوجفه صاحبه إذا سار به ذلك السَّير، قال ابن فارسٍ: أوجفَ: أَعْنَقَ في السَّير، وقال نحوه الهَرَويُّ، ووجيفُها: سرعتُها في سيرها، وأَوْجَفَها راكبها، وكانت غزوة بني النَّضير في سنة أربعٍ، وقال ابن شهابٍ: سنة ثلاثٍ.
          و(الكُرَاعِ) اسمٌ لجميع الخيل، وفيه _كما قال المهلَّب_ ركوب شيءٍ مِنَ الغرر للإمام لحرصه على معاينة مكان العدوِّ، وإن كان احتراس الإمام خطيرًا، وليس كسائر النَّاس في ذلك بل هو آكد.
          وفيه اختفاء السُّلطان عند اصطفاف القتال لئلَّا يُعرف مكانه، وفيه امتحان الأنبياء وابتلاؤهم ليعظم بذلك أجرهم، ويكون أسوةً بمَنْ ناله جرحٌ وألم مِنْ أصحابه فلا يجدون في أنفسهم ممَّا نالهم غضاضةٌ، ولا يجد الشَّيطان السَّبيل إليهم بأن يقول لهم: تقتلون أنفسكم، وتحملون الآلام في صون هذا، فإذا أصابه مَا أصابهم فُقِدَتْ هذه المكيدة مِنَ اللَّعين، وتأسَّى النَّاس به، وجدُّوا في مساواتهم له في جميع أحواله، وفيه خدمة الإمام، وبذل السِّلاح فيما يضرُّها إذا كان في ذلك منفعةٌ لخطيرٍ مِنَ الَّناس، وفيه دليلٌ أن تُرْسهم كانت مقعَّرة ولم تكن منبسطةً، فلذلك كان يمكن حمل الماء فيها، وفيه أنَّ النِّساء ألطف بمعالجة الرِّجال الجرحى.