التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وجوب الزكاة

          ♫
          ░1▒ بَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللهِ ╡: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]
          في حديثِ هِرَقْلَ: (يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ).
          1395- ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عبَّاسٍ في بَعْثِهِ معاذًا إِلَى اليَمَنِ إِلَى أَنْ قَالَ: (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤخَذُ / مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقرَائِهِمْ).
          1396- وحديثَ أبي أيُّوبَ أَنَّ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ صلعم: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وفيهِ: (وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ). ذَكَرَهُ مِنْ حديثِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهِبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَقَالَ: قَالَ بَهْزٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو.
          1397- وحديثَ أبي هُريرةَ وفيهِ: (وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ).
          1398- وحديثَ ابنِ عبَّاسٍ (قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ) الحديث وفيه: (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
          1399- 1400- وحديثَ أبي هُريرةَ: (لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ) وَفيهِ: (وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) الحديث.
          الشَّرحُ: الزَّكَاةُ في اللُّغَةِ النَّماءُ والتَّطْهيرُ وإنْ كان في الظَّاهرِ قد تَنقُصُ.
          وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ الأوَّلُ سَلَفَ مسندًا في أوَّلِ الكتابِ [خ¦7] وغيرِه، وحديثُه الثَّاني أخرجهُ مسلمٌ والأربعة وسيأتي في مواضِعَ مِنَ الكتاب [خ¦1458] [خ¦1496] [خ¦2448] [خ¦4347] [خ¦7371] [خ¦7372] وعندَ مسلمٍ عن أبي معبدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ عن معاذٍ قال: ((بعثَني رسُولُ الله صلعم)) فجَعَلَهُ مِن مسنَدِ معاذٍ، وفي «الإكليل» للحاكِمِ أَنَّ بَعْثَهُ وبَعْثَ أبي موسى عندَ انصرافِه مِن تبوكَ سنةَ تِسعٍ، وفي «الطَّبَقَات» مِثْلُهُ وَأَنَّهُ في ربيعٍ الآخِرِ، وزَعم ابنُ الحذَّاء أَنَّ هذا كان في هذا الشَّهْرِ سنةَ عشرٍ.
          وقَدِمَ في خلافةِ أبي بكرٍ في الحَجَّة الَّتي حجَّ فيها عمرُ، وكذا ذكرَهُ سيفٌ في «الرِّدَّة» وبعَثَهُ قاضيًا كما قال أَبو عمرَ، وقال العسكريُّ: واليًا، وكانَ قسَّمَ اليمنَ على خمسةٍ: خالدِ بنِ سعيدٍ على صَنعاء، والمهاجرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ على لَبْدَةَ، وزياد بن لبيد على حَضْرَمَوتَ، ومعاذٍ على الجَنَدِ، وأبي موسى على زَبِيْدَ وعَدَنَ والسَّاحلِ.
          وحديثُ أبي أيُّوبَ أخرجهُ البُخاريُّ في موضِعٍ آخَرَ بلفْظِ: ((عَرَضَ له في سَفَرٍ)) وفي آخرِه: ((دع النَّاقة)).
          قال الدَّارَقُطْنيُّ: يُقال: إِنَّ شُعبةَ وَهِمَ في اسمِ ابنِ عثمانَ بن مَوهَبٍ فسماه محمَّدًا، وَإِنَّمَا هو عمرو بن عثمانَ، والحديثُ محفوظٌ عنه، حدَّث به عن يحيى القَطَّان وأحمد بن عبيدٍ وجماعاتٍ عن عمرو بن عثمانَ، وقال الكلَاباذِيُّ والجَيَّانيُّ وغيرُهما: هو ممَّا عُدَّ على شُعبةَ أَنَّهُ وَهِمَ فيه، وقد خرَّجه مسلمٌ عن محمَّدِ بن نُميرٍ عن أبيهِ عن عمرِو بنِ عثمانَ، وَنبَّهَ عليه مسلمٌ في كتابِه «شيوخ شُعبة».
          وقال البُخاريُّ في كتاب الأدب: حَدَّثَني عبدُ الرَّحمن حَدَّثَنَا بَهْزٌ عن شُعبةَ عن ابن عثمانَ [خ¦5983] وهو أقربُ إلى الصَّوَاب، وعندَ مسلمٍ عن محمَّد بن حاتمٍ وعبدِ الرَّحمن بن بشرٍ حَدَّثنا بَهْزٌ أخبرنا شُعبة حَدَّثنا محمَّد بن عثمانَ وأبوه عثمانُ، وفي الأوَّل مِن حديثِ بَدَلِ بن المُحَبَّر أنبأَنا شُعبةُ عن محمَّدِ بن عثمانَ: سمعتُ موسى فذَكَرَهُ، ثُمَّ قال: قال أبو يحيى: هذا حديثٌ صحيحٌ سمعه شُعبة مِن عثمان بن عبد الله ومِن ابنه محمَّد بن عثمان، وسمعه محمَّدٌ وأبوه عثمان وأخوه عمرُو بنُ موسى عن أيُّوبَ، وفيه ردٌّ لقولِ الدَّارقُطنيِّ: الحديثُ محفوظٌ عن عمرٍو، وأخرجهُ النَّسائيُّ مِنْ حديث بَهْزٍ عن شُعبةَ عن محمَّد بن عثمان وأبيهِ عثمان، وكذا رواه أحمد عن بَهْزٍ.
          وقالَ الإسماعيليُّ: جوَّدَهُ بَهْزٌ فقال: حَدَّثَنا شُعبةُ حَدَّثنا محمَّد بن عثمان وأبوه عثمان، قال: وانفردَ ابنُ أبي عَديٍّ بالرِّوايةِ عن محمَّدٍ عن أبيه عن موسى.
          وحديثُ أبي هُريرةَ قالَ البُخاريُّ في آخِرهِ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ...) إلى أن قال: (حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم بِهَذَا) كذا هو ثابتٌ في النُّسَخِ، وكذا ذَكَرَهُ صاحبا «المستخرجَيْن» والحُمَيدِيُّ في «جمعه» وفي أصل العِزِّ الحرَّاني عن أبي زُرعَةَ عن أبي هُريرة، وزَعَمَ الجَيَّانيُّ أَنَّهُ وقعَ تخليطٌ وَوَهمٌ في روايةِ أبي أحمد، كان عندَه مِنْ طريقِ عفَّان عن يَحيى بن سعيد بن حيَّان أو عن يَحيى بن سعيدٍ عن أبي حيَّان عن أبي زُرْعة عن أبي هُريرة وهو خطأٌ، إِنَّمَا الحديثُ عن وُهيبٍ عن أبي حيَّان يَحيى بن سعيد بن حيَّان عن أبي زُرعَة على ما رواه ابنُ السَّكَنِ وأبو زيدٍ وسائرُ الرُّواةِ عن الفَرَبْريِّ، وهذا الأعرابيُّ هو سعدٌ كما قال ابنُ الأَثيرِ، وفي الطَّبَرانيِّ مِن حديثِ المُغيرةِ بنِ سعد بن الأَخْرَم عن عمِّه أَنَّهُ شاكٌّ.
          وحديثُ ابن عبَّاسٍ سَلَفَ في الإيمانِ [خ¦53] وحديثُ أبي هُريرةَ الأخيرُ فيه هنا (عَنَاقًا)، وفي موضعٍ آخَرَ: ((عِقالًا)) [خ¦7284] وذكرهُ في مسنَدِ الصِّدِّيق، ويدخلُ في مسندِ عمرَ أيضًا لقولهِ: إِنَّ رسُول الله صلعم قال: ((أُمرتُ أَنْ أقاتِلَ النَّاس)) وذكرهُ خَلَفٌ في مسنديْهِما، وابنُ عساكر ذَكَرَهُ في مُسندِ عمرَ، قال التِّرمِذيُّ: ورواه عِمران القَطَّان عن مَعْمَرٍ عن الزُّهريِّ، عن أنسٍ عن أبي بكرٍ وهو خطأٌ، وقد خُولِف عِمرانُ في روايتِه عن مَعمرٍ، وقال النَّسائيُّ: المحفوظُ حديثُ الزُّهريِّ عن عُبيدِ الله.
          إِذَا تقرَّرَ ذلك فالزَّكَاةُ فرضٌ بنصِّ الكتابِ والسُّنَّةِ _وقد ذَكَرَ جُملةً منها في البابِ_ وإجماعِ الأُمَّة، وهي الرُّكنُ الثَّالثُ مِن أركانِ الإسلامِ الخَمْسِ في الحديثِ الصَّحيحِ: ((بُنِي الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ)) وهي دعائمُه وقواعدُه لا يتمُّ إِسلامُ مَن جَحَدَ واحدًا منها، ألَا ترى فَهْمَ الصِّدِّيق لهذا المعنى وقولَهُ: (وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقٌ المَالِ) وقامَ الإجماعُ على أَنَّ جاحِدَها كافرٌ، فَإِنْ مَنَعَها بُخلًا أُخِذَتْ قهرًا وعُزِّر، وإِنْ نَصَب الحربَ دونَها قُوتلَ اقتداءً بالصِّدِّيقِ في أهلِ الرِّدَّةِ.
          وكانت الرِّدَّة أنواعًا: قومٌ ارتدُّوا على ما كانوا عليهِ مِن عبادةِ الأوثانِ، / وقومٌ آمنوا بمُسَيْلِمَةَ وهم أهلُ اليَمامة، وطائفةٌ منعوا الزَّكَاةَ وقالوا: ما رجعْنَا عن دينِنَا ولكنْ شُحُّنَا على أموالِنا، فرأى الصِّدِّيقُ قتالَ الجميعِ ووافقَهُ جميعُ الصَّحابةِ بعدَ أن خالفَهُ عمرُ في ذلكَ ثُمَّ بَانَ له صوابُ قولِه فرجعَ إليهِ، فسبَى الصِّدِّيقُ نساءَهم وأموالَهم اجتهادًا منه.
          فلمَّا وَلِيَ عمرُ بعدَه رأى أن يردَّ ذرارِيهم ونساءَهم إلى عشائِرِهم وفَدَاهُم وأطلقَ سبيلَهم، وذلك أيضًا بمحضرِ الصَّحابةِ مِن غيرِ نكيرٍ، والَّذِين ردَّ منهم عمرُ لم يأبَ أحدٌ منهم الإسلامَ، وعَذَر أبا بكرٍ في اجتهادِه وصوَّبَ رأيَهُ. وقال بعضُهم: حَكَم أبو بكرٍ في أهلِ الرِّدَّة بالسَّبيِ وأَخْذِ المال وجعَلَهم كالنَّاقضينَ، وحَكَم فيهم عمرُ بحُكْمِ المرتدِّينَ فَرَدَّ النِّسَاء والصِّغارَ مِن الرِّقِّ إلى عشائرِهم كذُرِّيَّةِ مَن ارتدَّ فله حكمُ الإسلام إِلَّا مَن تمادَى بعدَ بلوغِه، وعلى هذا الفقهاءُ وبهِ قال رَبيعةُ وابنُ الماجِشُون وابنُ القاسمِ، وذهب أصبغُ إلى فِعْلِ أبي بكرٍ أنَّهم كانوا كالنَّاقضين.
          وتأويلُ أبي بكرٍ مستنبطٌ مِنْ قولِه ╡ في الكُفَّارِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] فجعلَ مَن لم يلتزمْ ذلكَ كلَّهُ كافرًا يحلُّ دمُهُ ومالُهُ وأهلهُ، ولذلك قال: ((وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)) وقال الدَّاوُديُّ: قال أبو هُريرة: واللهِ الَّذِي لا إله إِلَّا هو لولا أبو بكرٍ ما عُبِدَ اللهُ، قيل له: اتَّقِ اللهَ يا أبا هُريرةَ، فكرَّرَ اليمينَ وقالَ: لَمَّا توفِّيَ رسولُ الله صلعم ارتدَّت العربُ وكثُرت أطماعُ النَّاسِ في المدينةِ، وأدارته الصَّحابةُ على إمساكِهِ لجيشِ أُسامةَ والكفِّ عمَّن منعَ الزَّكَاةَ، فقال: واللهِ لو لم يتبعْنِي أحدٌ لجاهدْتُهم بنَفْسِي حَتَّى يُعِزَّ اللهُ دينَهُ أو تنفردَ سالِفَتِي، فاشتدَّ عزمُ الصَّحابةِ حينئذٍ وقَمَعَ اللهُ أهلَ الباطلِ عمَّا أرادُوهُ.
          وهذا كلُّهُ يشهَدُ لِتَقَدُّمِ الصِّدِّيقِ في العلمِ ورسوخِه فيه وأنَّ مكانَهُ مِن العلمِ ونُصرْةِ الإسلامِ لا يُوازِيهِ فيه أحدٌ، ألا تَرَى رجوعَ جماعةِ الصَّحَابةِ إلى رأيِه في قتالِ أهلِ الرِّدَّةِ، ولا يجوزُ عليهم اتِّباعُه تقليدًا لهُ دونَ تبيُّنِ الحقِّ لهم، وذلكَ بأَنَّهُ احتجَّ عليهِم أنَّ الزَّكَاةَ قرينةُ الصَّلاةِ وأَنَّهَا حقُّ المال، وأَنَّ مَن جَحَدَ فريضةً فقد كَفَرَ ولمْ يُعْصَمْ دمُه ولا مالُه، وأَنَّهُ لا يُعصَمُ ذلكَ إلَّا بالوفاءِ بشرائعِ الإسلامِ، ولذلك قال عمرُ: فواللهِ ما هو إِلَّا أن رأيتُ أَنَّ الله شرحَ صدْرَ أبي بكرٍ للقتالِ فعرفْتُ أَنَّهُ الحقُّ، بما بيَّنهُ أبو بكرٍ مِن استدلالِه على ذلِكَ، فبانَ لعمرَ وللجماعةِ الحقُّ في قولِه فلِذلكَ اتَّبعوهُ.
          وفي الآيةِ الِّتي ذكَرَهَا البُخاريُّ دليلانِ على الوجوبِ:
          أحدُهما: أَنَّهُ أمْرٌ بإتيانِها والأمرُ للوجوبِ.
          الثَّاني: أَنَّهُ قَرَنَها بالصَّلاةِ وهي الرُّكنُ الثَّاني فاقتضَى التَّساويَ، وبهذه الطَّريقةِ احتجَّ الصِّدِّيق على مَنْ ناظَرَه كما أسلفناهُ، وإِنَّمَا أَمَرَ في حديثِ معاذٍ بالدُّعاءِ بالشَّهَادةِ مَن لم يكنْ أسلمَ مِن أهلِ الكتابِ، وسيأتي هذا مبيَّنًا في حديثِ معاذٍ في بابِ لا تؤخَذُ الكرائمُ: ((إِنَّكَ تأتي أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ)) [خ¦1458].
          ومعنَى حديثِ معاذٍ في ترتيبِ ما يدعوهُم إليه أَنَّهُم إِنْ جحدُوا واحدةً مِن ذلكَ لم يكونوا مؤمنين، ولم يبيِّنْ إِن امتنعوا ما يكونُ حكمُهم؟ والحكمُ أَنَّهُم إِذا امتنعُوا بعدَ الإقرارِ بالشَّهَادَتينِ مِن شيءٍ مِن ذلكَ ما سلف، وقال بعضُهم: إِنَّ حكمَهم حكمُ المُرْتدِّ، والمعروفُ مِن مذهبِ مالكٍ أَنَّهُ يُقتَلُ في ذلك، إِلَّا أَن يُصلِّيَ صلاةً واحدةً.
          ولم يَذكُرِ الحجَّ ولا الصِّيامَ، قال ابن التِّين: ولعلَّ ذلكَ قَبْلَ نزولِ فرضِهِما، قلتُ: هذا غلطٌ فإنَّ بَعْثَهُ كان في السَّنةِ التَّاسعةِ أو العاشرةِ كما سَلَفَ وفُرِضَا قَبْلُ، والجوابُ أنَّه اقْتَصَرَ على الثَّلاثةِ لتأكُّدِها في ذلكَ الوقتِ.
          وفيه قَبولُ خبرِ الواحدِ ووجوبُ العملِ به لكنْ أبو موسى كانَ معه. وفيه أَنَّهُ لا يُحكَمُ بإسلامِ الكافرِ إِلَّا بالنُّطْقِ بالشَّهَادتينِ، وَإِنَّمَا بَدَأ في المطالبةِ بهما لأَنَّهُمَا أصلُه لا يَصِحُّ شيءٌ مِن فُروعِه إلَّا به، فمَن كان منهم غيرَ موحِّدٍ على التَّحقيقِ كالنَّصرانيِّ فالمطالبةُ متوجِّهةٌ إِلَيه بكلِّ واحدةٍ مِن الشَّهَادتين، وأمَّا اليهود فبالجمْعِ بين ما أقرَّ به مِن التَّوحيدِ والإقرارِ بالرِّسالةِ، وأهلُ اليمَنِ كانوا يهود لأَنَّ ابنَ إسحاق وغيرَهُ ذكروا أَنَّ تُبَّعًا تَهوَّدَ وتَبِعَهُ على ذلكَ قومُه فاعْلَمْهُ. ونبَّهَه صلعم على أَنَّهُم أهلُ كتابٍ لكثْرَةِ حُجَجِهِم، وأَنَّهُم ليسوا كجُهَّالِ الأعرابِ.
          وفي قولِه: (افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ) دِلالةٌ أنَّ الوِترَ ليسَ بفَرْضٍ، وهو ظاهرٌ لا إيرادَ عليه، ومَنْ ناقَشَ فيه فقد غَلِطَ.
          وطاعتُهم بالصَّلاةِ تحتمِلُ وجهينِ: أحدُهما الإقرارُ بوجوبِها، والثَّاني الطَّاعةُ بفِعْلِها، والأوَّلُ أرجَحُ لأَنَّ المذكورَ في الحديثِ هو الإخبارُ بالفَرْضيَّةِ، ويترجَّحُ الثَّاني بأنَّ الامتثالَ كافٍ.
          وفيه أَنَّهُ ليس في المالِ حقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وقد أخرجه مرفوعًا ابنُ ماجَهْ كذلكَ وفي إسناده ضعفٌ، وهَّاه البَيهَقيُّ، وفي التِّرمِذيِّ: ((إِنَّ في المال حقًّا سِوى الزَّكَاة)) وقال: ليسَ إسنادُه بذاك، وذهب جمعٌ منهم مجاهدٌ أَنَّهُ إِذا حَصَدَ ألقَى لهم مِن السُّنبُلِ، وإذا جَدُّوا النَّخلَ ألقى لهم مِنَ الشَّماريخِ، فإذا كَالَه زكَّاهُ.
          وفي «تفسيرِ الفلَّاس» مِن حديثِ أبي العالية قال: كانوا يُعطُونَ شيئًا سوى الزَّكَاةِ ثُمَّ يُسرِفُوا، فأنزل الله: {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام:146] / ومِن حديثِ محمَّد بن كعبٍ في قولِه: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام:141] قال: ما قَلَّ منهُ أو كثُرَ، ومِن حديثِ جعفرِ بن محمَّدٍ عن أبيهِ {وَآتُوا حَقَّهُ} قال: شيءٌ سِوى الحقِّ الواجبِ، وعن عطاءٍ: القبضةُ مِن الطَّعامِ، ثُمَّ ذَكَرَ عن يزيدَ بن الأصمِّ وإبراهيمَ نحوَه. وروى أبو جعفرٍ النَّحَّاسُ عن أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((ما سَقَطَ مِن السُّنبُلِ)) قال: وقد رُوي وصحَّ عن عليِّ بن حسينٍ وهو قولُ عطيَّةَ وأبي عُبيدٍ، واحتجَّ بحديثِ النَّهيِ عن حصادِ اللَّيلِ، وحكاهُ ابنُ التِّينِ عن الشَّعبيِّ.
          وحكى الأُدْفُوِيُّ أقوالًا في الآية: منهم مَن قال إِنَّها منسوخةٌ بالزَّكَاةِ المفروضةِ قالهُ سعيدُ بنُ جُبيرٍ وغيرُه.
          ثانيها: أَنَّهُ الزَّكَاةُ المفروضةُ، قالهُ أنسٌ وغيرُه وعُزِيَ إلى الشَّافعيِّ وفيهما نَظَرٌ.
          ومنهم مَن قال إِنَّها على النَّدْبِ، وانْفَرَدَ داود فأوجبَ الزَّكَاةَ في كلِّ الثَّمَرِ وكلِّ ما أنبتت الأرضُ وهو قولُ مجاهدٍ وحمَّادِ بن أبي سُليمانَ وعمرَ بن عبدِ العزيزِ وإبراهيم النَّخَعيِّ، قال ابنُ حَزمٍ: والسَّندُ إِلِيهم في غايةِ الصِّحَّةِ. وقال أبو حنيفةَ: في كلِّ هذا الزَّكَاةُ إلَّا في الحطبِ والقَضْبِ والحشيشِ.
          وقولُه: (تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ) استدلَّ به بعضُهم على الصَّرْفِ لأحَدِ الأصنافِ الثَّمانيةِ خلافًا للشَّافعيِّ، وأنَّ الزَّكَاةَ لا تُنقَلُ عن موضِعِها وبه قال مالكٌ والشَّافعيُّ، وعن مالكٍ الجوازُ وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومنَعَ أحمدُ في مسافةِ القصْرِ، وعن الحَسَنِ والنَّخَعيِّ أَنَّهُما كَرِهَا نقْلَها إِلَّا لِذِي قرابةٍ، وبهِ أخذَ ابنُ حَبيبٍ قال: ويُكرِي على ذلك منها إنْ شحَّ على دوابِّه، فإنْ منعْنَا النَّقْلَ لم تَقَعِ الموقِعَ عندَنا على الأصحِّ، والخلافُ للمالكيَّةِ أيضًا بين سُحْنون المانِعِ وابنِ اللَّبَّادِ المجيزِ، وعليهما ينبني الضَّمانُ إذا تَلِفَ.
          ويدخُلُ في عمومِ ذلكَ الطِّفلُ والمجنونُ، وبه قال مالكٌ والشَّافعيُّ وخالفَ أبو حنيفة، وقال الأوزاعيُّ: في مالِهِ الزَّكَاةُ غيرَ أنَّ الوليَّ يُحصِيه، فإذا بلَغَ أعلَمَه لِيُزكِّي عن نفْسِه، وقال الثَّوريُّ: إن شاءَ اليتيمُ حينئذٍ زكَّاهُ، وقال الحسنُ وابنُ سِيرِين: لا زكاةَ في مالهِ إِلَّا في زرعٍ أو ضرعٍ وقال أهلُ العراقِ: عليهِ في الأرضِ والفِطْرِ. وقد أَفْرَدْتُ المسألةَ بالتَّصنيفِ وذَكَرْتُ فيها مذاهبَ عديدةَ وأَدِلَّتَها.
          وفيه أَنَّ الزَّكَاة تُدفَعُ للمسلمينَ خلافًا لأبي حنيفةَ. وفيه أَنَّ المِدْيانَ لا زكاةَ عليه لأَنَّهُ قسمَهُم قِسمَيْنِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ خلافًا للشَّافعيِّ في أظهَرِ قولَيْهِ. وفيه أَنَّ حدَّ ما بينَ الغنيِّ والفقيرِ ما يجبُ فيه الزَّكَاة، قال بعضُهم: في ألفين، وقال المغيرةُ وأهلُ الكوفةِ: مَن له عشرونَ دينارًا لا يأَخُذُ الزَّكَاةَ، وكذلكَ قال مالكٌ: لا يُعطَى أكثرَ مِن نِصابٍ، وعنهُ: لا حَدَّ في ذلكَ إِنَّمَا هو على اجتهادِ المتَولِّي، والصَّحيحُ جوازُ دفْعِها لِمَن له نِصابٌ لا كفايةَ فيه.
          وقولُه: (أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ) يريدُ ما افتُرِضَ عليه قاله ابنُ التِّين، ويجوزُ أن يكونَ أعمَّ.
          وقولُه: (مَا لَهُ؟ مَا لَهُ؟) كأَنَّهُ استعظَمَ سؤالَهُ لأَنَّ الأعمالَ كثيرةٌ.
          وقولُه: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم: أَرَبٌ مَا لَهُ؟) قال صاحبُ «المطالع»: يُروى <أَرِبٌ مَا لَهُ> على أَنَّهُ اسمُ فاعلٍ مثلُ حَذِر، ورواه بعضُهم بفتْحِ الرَّاء أي وضمِّ الباءِ منوَّنةً، وبعضُهم بفتْحِ الباءِ أيضًا، فمَن كسَرَ الرَّاءَ جعَلَهُ فِعلًا بمعنى احتاجَ فسأَلَ عن حاجتِه، وقد يكونُ بمعنَى يفطَنُ لِمَا سأله عنه فقال: أَرِبَ إذا عَقَلَ، وقيل: معناه رجلٌ حاذقٌ سألَ عمَّا يعنيهِ، وقيل: تعجَّبَ مِن حِرْصِهِ، ومعناهُ للهِ درُّهُ! أي فَعَل فِعْلَ العُقَلاءِ في سؤالِه عمَّا جَهِلَهُ، وقيل: هو دعاءٌ عليه أي سَقَطَتْ آرابُه وهي أعضاؤه، على عادةِ العرَبِ كعَقْرَى حَلْقَى ونحوِه مِن غيرِ قصدٍ لوقوعِه.
          ومَن قال: (أَرَبٌ) فمعناهُ حاجةٌ به وتكونُ (مَا) زائدةً، وفي سائرِ الوجوهِ استفهاميَّةً، ولا وجْهَ لقولِ أبي ذرٍّ: <أَرَبَ>. وفسَّرَ ابن قتيبةَ: <أرِبَ> بكَسْرِ الرَّاءِ وفتْحِ الباءِ بأَنَّهُ مِنَ الآرابِ مأخوذٌ أي الأعضاءِ، واحدُها إِرْبٌ، ومنهُ قيل: قطَّعتُ إِرْبًا إِرْبًا أي عضوًا عضوًا، وجاء في روايةٍ: ((أَرِبَ ما جاء به؟)).
          وإِنَّمَا كرَّرَ قولَه (مَا لَهُ) لحبْسِه زِمامَ ناقَتِه أو غيرِ ذلك ممَّا فَعَلَهُ، وفسَّر الطَّبريُّ قولَه: ((أَرَبٌ ما جاء به؟)) وقال: معناه فحاجةٌ ما جاءتَ به، والأَرَبُ الحاجةُ، و((مَا)) الَّتي في قولِه: ((مَا جَاءَ بِه)) صِلَةٌ في الكلامِ كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] والمعنى أَرَبٌ جاءَ به، قال ابنُ بطَّال: وعلى هذا التَّقريرِ تكونُ (مَا) في الحديثِ زائدةً كأَنَّهُ قالَ: أَرَبٌ له، وهو أحسنُ مِن قولِ ابن قُتَيبةَ، والمرادُ له حاجةٌ مهمَّةٌ مفيدةٌ جاءتْ به، وإِلَّا فسؤالُه دالٌّ أَنَّ له حاجةً.
          وقولُه: (تَعْبُدُ اللهَ...) إلى آخره لم يذكُرِ الحجَّ والصَّومَ، وفيه ما تقدَّمَ في حديثِ معاذٍ، ولم يَذكُرِ الجِهَادَ لأَنَّهُ ليسَ بفرْضٍ على الأعرابِ ذَكَرَهُ الدَّاوُديُّ، ولم يَذْكُرْ لهم التَّطوُّعَ لأَنَّهُم كانوا حديثِي عهدٍ بإسلامٍ فاكتَفَى بالواجِبِ تخفيفًا ولئلَّا يعتقدُوا أَنَّ التَّطوُّعاتِ واجبةٌ، فَتَرَكَهُم إلى أنْ تنشرحَ صدرُوهم لها فيسهُلَ الأمرُ، وذَكَرَ فيه صلةَ الرَّحِمِ لحاجةِ السَّائلِ إِلَيْهِ، وذَكَرَ في حديثِ أبي هريرة زيادةَ الصَّوْمِ، ويجوزُ أنْ يكون السَّائلُ فيه هو السَّائلُ في حديثِ أبي أيُّوب، فإِنْ يكنْهُ فقدْ عرفْتَ اسمَهُ فيما مضَى. وَقيَّد فيه الزَّكَاةَ بالمفروضةِ؛ وقد وَصَفَهَا بذلكَ في قولِه: ((هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ)) كما ستعلمُه [خ¦1454].
          وقولُه: (لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا) أي مِن الفرائضِ أو أكتفي به عن النَّوَافل، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ لا أزيد على ما سمعتُ منكَ في أدائي لقومِي لأَنَّهُ وافِدُهم وهو لائحٌ.
          وقولُه في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: (وَشَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أي وأَنَّ محمَّدًا رسُولُ الله، ولمْ يذكُرْ فيه الصِّيامَ، وفيهِ مَا سَلَفَ، وزاد فيه: (وَأَدَاءُ خُمُسِ المَغْنَمِ).
          وقولُه: / (وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا) قال الدَّاوُديُّ: جَعَلَ ذلكَ مَثَلًا للعَقْدِ والعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ اللهُ على عبادِه في الإسلامِ، وعلى العُروةِ الَّتي لا انفصامَ لها.
          والعَناقُ بفتْحِ العينِ الأنثى مِنْ وَلَدِ المعْزِ ما دونَ الحَوْلِ، وقيل عن أهل اللُّغَة: إِنَّهَا إِذا أَتى عَليها أربعةُ أَشهُرٍ وفُصِلَ عن أُمِّه وقَوي على الرَّعْيِ فهوَ جَدْيٌ والأنثى عَناقٌ، حكاهُ ابن بطَّالٍ وابن التِّين، وقال الدَّاوُديُّ: هي الأنثى مِنَ المَعْز الحديثة قاربت أن تلدَ أو حملَتْ ولم تضَع بعدُ أو عندَ وضْعِها، والمعروفُ أنَّ العَناقَ جَذَعةٌ والجَذَعة لا تحمل إِنَّمَا تحمِلُ الثَّنِيَّةُ فأعلى.
          والعِقالُ: صدَقَةُ عامٍ أو الحبلُ الَّذِي يُعقَل به البعير قولان، وذَكَرَ ذلك على التَّقليلِ لأَنَّ العَناق لا يُؤخَذُ في الصَّدَقَةِ عند أكثَرِ أَهلِ العِلْم ولوْ كانت عَناقًا كلَّهَا، والجديدُ عندَنا أنَّ في الصِّغار صغيرةً وبهِ قال أحمدُ ومالكٌ وأبو يوسُفَ وزُفَرُ، إِلَّا أَنَّ مالكًا وزُفَرَ يقولان: لا يجب فيما كبر مِنْ جنسها. وقال ابن التِّين: بالوجُوبِ قال الفقهاءُ خلا محمَّد بن الحسن فقال: لا شيء فيه، وكان الواقديُّ يزعم أَنَّ التَّأويلَ الثَّانيَ رأيُ مالكٍ وابن أبي ذئبٍ. قال أبو عبيدٍ: والأَوَّلُ أشبهُ عندي.
          وروى ابنُ وهبٍ عن مالكٍ أَنَّ العِقالَ الفريضة مِن الإبل. وقال الخطَّابيُّ: خُولِفَ أبو عبيدٍ في هذا التَّفسير، وذهب غيرُ واحدٍ مِنَ العلماء إلى أنَّهُ ضرْبُ مَثَلٍ بالقِلَّة كقولهِ: لا أعطيكَ ولا درهمًا، وليس بسائغٍ في كلامهم أَنَّهُ صدقةُ عامٍ، وأيضًا فَإِنَّهَا مُنعَتْ مطلقًا. وهم كانوا يتأوَّلُونَ أَنَّهُم كانوا مأمورينَ بدفْعِها إِلَى الشَّارِعِ دونَ القائمِ بعدَه، وقيل: إِنَّهُ كلُّ ما أُخذ مِنَ الأصناف مِن نَعَمٍ وحَبٍّ، وقيل: أَن يأخُذَ عينَ الواجِبِ لا الثَّمَنَ.
          وفي روايةٍ لابن الأعرابيِّ: واللهِ لو منعوني جَدْيًا أَدْوَطَ، قَال: والأَدْوَطُ الصَّغِيرُ الفكِّ والذَّقَنِ.
          وقال الخطَّابيُّ في قصَّة أبي بكرٍ: هذا حديثٌ مشكلٌ لاختصارِه في هذِهِ الرِّوَاية، وقد تعلَّق به الرَّوافضُ وقالوا: فيه تناقضٌ أخبَرَ في أَوَّلِهِ بكفْرِ مَن كفَرَ مِن العربِ وفي أثنائه: (لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) وهذا يوجبُ كونَهم ثابتين على الدِّين، وزعموا أَنَّ عُمَرَ وافقه على الحربِ تقليدًا، وكيف استجازَ قتْلَهم وسبْيَ ذرارِيهِم إِنْ كانوا مسلمين؟ وإِنْ كانوا مرتدِّينَ فكيفَ تعلَّقَ بالفرْقِ بين الصَّلاةِ والزَّكَاةِ؟ ثُمَّ زعموا أَنَّ القومَ تأوَّلوا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] أَنَّهَا خصوصٌ بالشَّارع لم يُؤمَرْ بأخْذِها أحدٌ غيرُه، فَإِنَّ صلاتَه كانتْ سَكَنًا وتطهيرًا، وقال شاعرُهم _وهو الحُطَيئةُ_ فيما ذَكَرَهُ المبرِّدُ مِنْ أبياتٍ وعزاها غيرُه لغيرِه:
أَطَعْنا رَسُولَ اللهِ مَا دَامَ بَيْنَنا                     فيَا عَجَبًا! ما بالُ مُلْكِ أبي بَكْرِ؟
أَيُورِثُها بَكْرًا إذا ماتَ بَعْدَهُ؟                     وَتِلْكَ لَعَمْرُ اللهِ قاصِمَةُ الظَّهْرِ
          ونحن نبيِّنُ ذلك فنقول: رواياتُ أبي هُريرةَ مختصَرةٌ إِلَّا روايةَ سعيدٍ عن أبيه كَثيرٍ عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أُمرتُ أَنْ أقاتِلَ النَّاسَ)) الحديثُ وفيه: ((ثُمَّ حُرِّمت عَلَيَّ دماؤُهُم وأموالُهم)) وكَثيرٌ هذا هو ابنُ عُبيدٍ مولى أبي هُريرةَ، أدخلهُ ابنُ خُزيمة في «صحيحه» ووافقهُ ابنُ عمرَ وأنسٌ مِن طُرقٍ صحاحٍ أَنَّ الزَكَاة كانت شرطًا لحقْنِ الدِّمَاءِ، فثبت أَنَّ أَبَا بكرٍ قاتَلَهم بالنَّصِّ لا بالاجتهادِ الَّذِي جرَى في خَبَرِ عُبيدِ الله في البُخاريِّ عن أبي هُريرة. ويُشبِهُ أن يكون ما ذكرَه على سبيلِ الاستظهارِ في المناظرةِ بالتَّرجيح، وفي هذا سقوطُ جميعِ ما أوردَهُ الرَّوافضُ.
          والمرْتدَّة صِنفانِ: صِنفٌ كفروا وهم أصحابُ مُسَيلِمةَ ومَن نحا نحوَهم مِن إنكارِ نبوَّةِ نبيِّنا، وإيَّاهم عنى بقولِه: (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ).
          وصِنفٌ أنكروا الزَّكَاةَ وقالوا: ما رجعْنا عن دينِنا ولكنْ شَحِحْنا على أموالِنا، وهم في الحقيقةِ أهلُ بغيٍ ودَخَلُوا في غِمارِ الأوَّلِين، فأُضيف الاسمُ في الجمْلَة إلى الرِّدَّةِ إِذْ كانت أعلى الأمرينِ خطْبًا، وصار مبدأُ قتال أهلِ البَغْيِ مؤرَّخًا بأيَّامِ عَلِيٍّ إذْ كانوا منفرِدِينَ في عصْرِه لم يُخْلَطوا بأهل شركٍ.
          ولا شكَّ أَنَّ مَن أنكرَ الزَّكَاةَ الآن فهو كافرٌ بالإجماع، وهذِهِ الفِرقةُ عُذِرُوا لقُرْبِ العهدِ بالزَّمانِ الَّذي غُيِّرت فيه الأحكامُ ووقوعِ الفَتْرَةِ وجَهْلِهِم أيضًا، وما جرى مِن السَّبيِ فهو راجعٌ إلى الاجتهاد، واستولدَ عليٌّ جاريةً مِن سَبْيِ بني حنيفةَ وولدَتْ له محمَّدًا الَّذِي يُدعَى ابنَ الحنفيَّةِ.
          ثُمَّ لم ينقرض العصرُ حَتَّى رأوا خلافَه واتَّفقوا على أَنَّ المرتدَّ لا يُسبى، وهذا مذهبُ أَصبغَ أَنَّ مَن ارتدَّ كمَنْ نقضَ العهدَ وهو تأويلُ الصِّدِّيقِ، وجماعةُ العلماء على ما حكم به عمرُ أَنَّهُم كالمرتدِّين، وذلك أَنَّ عمرَ ردَّ النِّساءَ والصِّغارَ مِن الرِّقِّ إِلَى عشائرِهم كذرِّيَّة مَن ارتدَّ إِلَّا مَ تمادَى بعد بلوغِه، وإِنَّمَا أورَدُوا الخلافَ في أولادِ المرتدِّين، وقد قيل: لم يُسْبَ أحدٌ مِن رجالِهم، وقد جيءَ بالأشعثِ بن قيسٍ وعُيَينةَ بن حِصْنٍ فأطلقَهُما ولم يسترقَّهُما، وقيل: كانت الرِّدَّةُ على ثلاثةِ أنواعٍ وقد سلفَتْ.
          وأوضحَ ذلك الواقديُّ في «الرِّدَّة» تأليفِه فقال: / لَمَّا تُوفِّي رسولُ الله صلعم ارتدَّت العربُ وارتدَّ مِنْ جماعةِ النَّاسِ أسدٌ وغَطَفان إِلَّا بني عبْسٍ، فأمَّا بنو عامرٍ فتربَّصتْ مع قادتها، وكانتْ فَزَارة قد ارتدَّتْ، وبنو حَنِيفَةَ باليمامةِ، وارتدَّ أهلُ البحرينِ وبكرُ بنُ وائلٍ وأهلُ دُبَاء وأَزْدُ عُمَانَ والنَّمِرُ بن قاسِطٍ وكَلْبٌ ومَن قارَبَهم مِن قُضَاعةَ، وارتدَّت عامَّةُ بني تميمٍ، وارتدَّت مِن بني سُليمٍ عُصَيَّةُ وعُمَيْرةُ وخُفافٌ، وبنو عمْرٍو بنِ امرِئِ القيس وذَكْوان وحارثة.
          وثبَتَ على الإسلامِ أَسْلَمُ وغِفارٌ وجُهَيْنةُ ومُزَيْنةُ وأَشْجَعُ، وكعبُ بنُ عمرٍو مِنْ خُزَاعَةَ وثَقيفٌ وهُذيلٌ والدِّيْلُ وكِنانَةُ وأهلُ السَّرَاةِ وبَجِيلَةُ وخَثْعَمٌ وطيِّئٌ، ومَن قاربَ تِهامةَ مِن هَوازِنَ وجُشَمَ وسعدِ بن بكرٍ وعبدِ القيس وتُجِيْبَ ومَذْحِجٍ إِلَّا بنو زُبَيدٍ، وثبتت هَمْدَانُ وأهلُ صَنْعاء.
          ثُمَّ أَسنَدَ مِن حديثِ أبي هُريرة قال: لم يرجع رجلٌ مِن دَوسٍ ولا مِن أهلِ السَّراةِ كلِّها، ومِن حديثِ مروانَ التُّجِيبيِّ قال: لم يرجع رجلٌ واحدٌ مِنْ تُجِيبَ ولا مِن هَمْدان ولا مِن الأبناءِ صَنْعاء، وقال موسى بن عُقبة: لَمَّا ماتَ رسولُ الله صلعم رجَعَ عِلْيَةُ العربِ عن دينِهم أهلُ اليمنِ وعامَّةُ أهلِ المشرقِ وغَطَفان وبنو أسدٍ وبنو عامرٍ وأَشْجَع، ومسَّكتْ طيِّئٌ بالإسلامِ.
          وقال سيفٌ في «الرِّدَّة» عن فَيرُوز الدَّيْلَميِّ: أوَّلُ رِدَّةٍ كانت باليمنِ على عهد رسولِ الله صلعم على يدي ذي الخِمَار عبدِ الله بن كعبٍ وهو الأسْودُ العنسيُّ، وعن عروة: لم يبقَ حيٌّ مِن العرب إِلَّا ارتدَّ ما خلا أهلَ مكَّة والطَّائف والقبائل الَّتي أجابت النَّبِيَّ صلعم عامِ الحُدَيبية ممَّن حولِ مكَّة والقبائل الَّتي عاتب اللهُ عامَ الحُدَيْبية، ورابَ عبدُ القيسِ وحَضْرَمَوت بعضَ الرَّيب وحسُنَ بلاؤُهم واستقامُوا، وقال قتادة فيما رواه الحاكم في الرِّدَّة قالَ: لَمَّا تُوفِّيَ رسُولُ الله صلعم ارتدَّت العربُ كلُّها إِلَّا ثلاثةَ مساجد مكَّة والمدينة والبحرين.
          وأمَّا قولُه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] فلا شكَّ أنَّ الخطابَ على أنحاءٍ: عامٍّ كقولِه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة:6] و{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] وخاصٍّ كقولِه: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] و{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ومواجَهةٍ له صلعم وهو والأُمَّةُ فيه سواءٌ كقولِه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النَّحْل:98] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء:102] و{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103].
          والفائدةُ في مواجهتِه في هذا الخطابِ أَنَّهُ هو الدَّاعي إلى الله والمبيِّنُ عنه معنى ما أراد، فقدَّمَ اسمَهُ في الخِطابِ ليكونَ سلوكُ الأمَّةِ في الشَّرائعِ على حسبِ ما بيَّنهُ لهم، وعلى هذا قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فافتَتحَ الخِطابَ بالنُّبوَّةِ ثُمَّ خاطبَ أمَّتَه بالحكمِ عمومًا، وربَّما كان الخِطابُ له والمرادُ غيرُه.
          وأمَّا التَّطهيرُ والتَّزكية والدُّعاء مِن الإمامِ لِصاحِبِ الصَّدقةِ فباقٍ غيرُ منقطعٍ، يُستحبُّ للإمامِ والعاملِ الدُّعاءُ للمتصدِّقِ بالنَّمَاءِ والبركَةِ في مالِه.
          وقولُه: (مَنْ فَرقَ) هو بتخفيفِ الرَّاءِ وتشديدِها.
          وفيه مِنَ الفِقه غيرَ ما تقدَّمَ أَخْذُ الصَّغائرِ مِن الصَّغائر، وهذا قد سلفَ ونَحا إليه ابنُ عبدِ الحَكَمِ وقال: لولا خلافُ قولِ مالكٍ وأصحابِنا لكان بيِّنًا أن يأخُذَ واحدًا مِن أوساطِها، وقال مالكٌ: فيها ثَنِيَّةٌ، وكذا ذكرهُ الدَّاوُديُّ والخطَّابيُّ عنه، قال ابن التِّين: والمعروفُ عن مالكٍ أنَّ جَذَع المَعز يجزئُ خلافَ الضَّحايا. وإِنَّمَا مَنَعَ مِن ذلكَ ابنُ حَبيبٍ، وأجاب القاضي عبدُ الوهَّاب عن هذا الإلزامِ بأنْ قال: المرادُ به (عَنَاقًا) جَذَعةً.
          وفيه دليلٌ على أَنَّ حَوْلَ النَّتاجِ حولُ الأمَّهاتِ، ولو كان يُفرَدُ لها بِحَولٍ لَمَا يوجد السَّبيلُ إلى أخْذِ العَناقِ وإيجابِ الزَّكَاة فيها مطلقًا، وعندَ أبي حنيفة والشَّافعيِّ بشرْطِ أن تكونَ الأُمَّاتُ نِصابًا. وفيه أنَّ الرِّدَّة لا تُسقِطُ عن المرتدِّ الزَّكَاةَ إذا وجبتْ في مالِه.
          وقولُه: (وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ) أي فيما يُسِرُّه دونَ الظَّاهِرِ مِن أمْرِه. وفيه قَبولُ توبَةِ المرتدِّ وهو قولُ أكثَرِ العلماء، وذُكِرَ عن مالكٍ: لا تُقبل توبة المستسرِّ بكُفْرِه، وذُكِرَ عن أحمدَ نحوُه.
          وقولُه: (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ) دالٌّ على أنَّ عمرَ لم يرجعْ إلى أبي بكرٍ تقليدًا.