التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الهبة

          ♫
          ░░51▒▒ (كِتَابُ الهِبَةِ)
          ░1▒ (بابُ الهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ فِيْهَا)
          2566- ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ).
          2567- وحديثَ عائشةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: (ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلعم نَارٌ، فَقُلْتُ يَا خَالَةُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلعم مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَاهُ).
          الشَّرح: أصل الهِبَة مِنْ هُبوب الرِّيح، أي مُرورِه، وحقيقتُها التَّمليك بلا عِوَضٍ تبرعًا في الحياة.
          وحقيقة ما ذكرَه البخاريُّ أنَّهُ هديَّةٌ، فإنَّها ما نُقِل إلى مكان الموهوب لَه عَلَى وجه الإكرام، فكلُّ هديَّةٍ هِبَةٌ ولا عكس، وحديث أبي هريرة أخرجَه مسلمٌ أيضًا، وللتِّرمِذيِّ في أوَّلِه: ((تَهَادَوْا فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصدورِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ...)) إلى آخرِه، والبخاريُّ ساقَه عن عاصم بن عليٍّ، أخبرنا ابن أبي ذئبٍ عن المَقْبُريِّ، عن أبيْه، عن أبي هريرة، قال الدَّارَقُطْنيُّ: رواه عن ابن أبي ذئبٍ يحيى القَطَّان وابن عَجْلان وأبو مَعْشَرٍ عن سعيد عن أبي هريرة مِنْ غير ذكر أبيْه. وحديث عائشة أخرجَه مسلمٌ أيضًا.
          إذا عرفت ذلك فالكلام عَلَى الحديثين مِنْ أوجهٍ
          أحدُهما في إعراب (يَا نِسَاءَ) أوجهٌ ذكرَها القاضي عِياضٌ، أصحُّها وأشهرُها بنصبِ النِّساء وجرِّ المسلمات عَلَى الإضافة.
          قال الباجيُّ: وبهذا رُوِّيناه عن جميع شيوخِنا بالمشرقِ، وهو مِنْ باب إضافة الشَّيء إلى نفسِه، والموصوف إلى صفتِه، والأعمِّ إلى الأخصِّ، كمسجدِ الجامعِ، وجانبِ الغربيِّ، وهو عند الكوفيِّين جائزٌ عَلَى ظاهرِه، وعند البصريِّين يقدِّرون فيْه محذوفًا أي مسجدِ المكانِ الجامعِ، وجانبِ المكانِ الغربيِّ، ويقدَّر هنا: يا نساءَ الأنفُس المسلماتِ أو الجماعاتِ، وقيل: تقديرُه يا فاضلاتِ المسلمات، كما يُقال: هؤلاء رجالُ القوم أي ساداتُهم وأفاضلُهم.
          ثانيْها رفعَهما عَلَى معنى النِّداء والصِّفة، أي يا أيُّها النِّساء المسلمات، قال الباجيُّ: كذا يرويْه أهل بلدنا.
          ثالثُها رفع النِّساء وكسر التَّاء مِنَ المسلماتِ عَلَى أنَّهُ منصوبٌ عَلَى الصِّفة عَلَى الموضع، كما يُقَال: يا زيدُ العاقلَ برفع زيدٍ ونصب العاقل.
          واقتصر ابن التِّينِ عَلَى أن قال: هو مِنْ باب إضافة الشَّيء إلى نفسِه مثل قولِه: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9].
          وقال ابن بَطَّالٍ: هو عَلَى غير الإضافة، التَّقدير: يا أيُّها النِّساء المسلمات، ومثلُه: يا رجالُ الكرامُ، فالمنادى هنا محذوفٌ وهو أيُّها، والنِّساء في تقدير النَّعت لـ(أيُّها) و(المُسْلِمَاتِ) نعت النِّساء، وحكى سِيبَويْه: يا فاسقُ الخبيثَ، ومذهبه أنَّ فاسق وشبهه يعرَّف بـ(يا) كتعريف زيدٍ في النِّداء، وكذلك (يَا نِسَاءَ) هاهنا، فَيُخَرَّج عَلَى مذهبِه أن يجوز نصب نعتِه، كما جاز يا زيدُ العاقلَ، فيجوز عَلَى هذا يا نساءُ المسلماتِ.
          ومَن رواه بالإضافة ونصب النِّساء فيستحيل أن يكون (المُسْلِمَاتِ) هنا مِنْ صفات النِّساء لأنَّ الشَّيء لا يُضَاف إلى نفسِه وإنَّما يُضَاف إلى غيرِه ممَّا يبيِّنه بِه ويضمُّهُ إليْه، ومحالٌ أن يبيِّنه بنفسِه أو يضمَّه إليْه هذا مذهب البصريِّين.
          وقد أجازَه الكوفيُّون أعني: إضافة الشَّيء إلى نفسِه، واحتجُّوا بآياتٍ مِنَ القرآن تتخرَّج معانيْها عَلَى غيرِ تأويلِهم، منها قولُه تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف:109] و{دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
          وقال الزَّجَّاج وغيرُه: معناه دار الحال الآخرة، أنَّ للناس حالتين حال الدُّنيا وحال الآخرة، ومثلُه صلاة الأولى، والمراد صلاة الفريضة الأولى والسَّاعة الأولى لأنَّها أوَّل ما فُرِض منْها، ومعنى دين القَيِّمَةِ دين الملَّة القيِّمة، ولهذا وقع التَّأنيث، لكنَّهُ يخرِّج يا نساء المسلمات عَلَى تقديرٍ بعيدٍ، وهو أن يُجعل نعتًا لشيءٍ محذوفٍ كما سلف في المسلمات كأنَّهُ قال: يا نساء الأنفُس المسلمات، والمراد بالأنفس الرِّجال، وفيه بُعْدٌ لفساد المعنى، لأنَّهُ ◙ إنَّما خاطب النِّساء بذلك عَلَى وجه الفضيلة لهنَّ والتَّخصيص، وعلى هذا الوجه لا فضيلة لهنَّ في ذلك إلَّا أن يُراد بالأنفُس الرِّجالُ والنِّساء معًا، فيكون تقديرُه يا نساءً مِنَ الأنفس المؤمنات، عَلَى تقدير إضافة البعض إلى الكلِّ، كما تقول: أخذت دراهم مال زيدٍ، ومال زيدٍ واقعٌ عَلَى الدَّراهم وغيرِها.
          الثَّاني: الفِرْسِنُ بفاءٍ مكسورةٍ ثُمَّ راءٍ ساكنةٍ ثُمَّ سينٍ ثُمَّ نون، وأصل الفِرْسن للإبل وهو موضع الحافر مِنَ الفرس، ويُقال لموضع ذلك مِنَ البقر والغنم الظِّلف، قال ابن دُريدٍ: وهو ظاهر الخُفِّ، والجمع فَراسِنُ.
          وقال ابْنُ سِيْدَهْ: هو طرف خُفِّ البعير، أنثى، حكاه سِيبَويْه في الثُّلاثي، ولا يُقال في جمعِه فِرْسِنَاتٌ، كما قالوا: خَناصِر ولم يقولوا: خِنْصِراتٍ.
          وقال في «المخصَّص»: هو عند سِيبَويْه فِعْلِنٌ، ولم يحكِ غيرُه في الأسماء ولا علمه صفة، وقال أبو عبيدِ: السُّلامى: عظام الفِرْسِن كلُّها، وقال في «الجامع»: هو للبعير بمنزلة الظُّفْر مِنَ الإنسان، وقال في «المغيث»: هو عَظْمٌ قليل اللَّحم وهو للشَّاة والبعير بمنزلة الحافر للدَّابة، وقيل: هو خُفُّ البعير، وقال الجوهريُّ: ربما استُعِير للشَّاة، وكذا قال / ابن السِّكِّيت وأنشد:
أَشْكُو إلى مَوْلَايَ مِنْ مَوْلَاتِي                     ترْبُط بالحَبْلِ أَكْرُعاتي
          فاستعار الأَكَارع للإنسان كما استعار الفِرْسِن للشَّاة.
          قال ابن السَّرَّاج: والنُّون زائدةٌ، ووضعها النَّضْر بن شُمَيلٍ في كتاب «الإبل» فأحسن فقال في الفِرْسن: أمُّ القِرْدانِ مِنْ ظاهرٍ وباطنٍ، وفي كلِّ فِرْسنٍ ستُّ سُلَامياتٍ ومَقْسِمَانِ، والأظلُّ والخُفُّ هو الجِلْدة الغليظةُ الَّتي في باطن فِرْسِنِه، وفي الفراسِن ستَّة أشياءَ عَدَّدَها، والفِرْسن أسفلُ الرِّجْل مِنَ البعير ثُمَّ الوَظِيف ثُمَّ الذِّرَاع ثُمَّ العَضُد ثُمَّ الكَتِف، وعبارة الأصمعيِّ الفِرْسِن ما دون الرُّسْغ مِنْ يدي البعير وهي مؤنَّثةٌ والجمع الفَرَاسِن.
          الثَّالثُ فيه الحضُّ عَلَى التَّهادي والمتاحفة ولو باليسير، لِمَا فيْه مِنَ استجلاب المودَّة وإذهاب الشَّحناء واصطفاء الجيرة، ولِمَا فيْه مِنَ التَّعاون عَلَى أمر المعيشة المقيمة للأرماق، وأيضًا فإنَّ الهديَّة إذا كانت يسيرةً فهي أدلُّ عَلَى المودَّة وأسقطُ للمُؤْنة وأسهلُ عَلَى المهدي لاطِّراح التَّكليف.
          وفي حديث عائشة ما كان عليْه ◙ مِنَ الزُّهد في الدُّنيا والصَّبر عَلَى التَّقلُّل وأخذ البُلْغة مِنَ العيش وإيثاره الآخرة عَلَى الدُّنيا، لأنَّهُ قد خُيِّر بين الدُّنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وأن يكون نبيًّا عبدًا ولا يكون ملكًا فهذِه سُنَّتُهُ وطريقتُه.
          وفيْه فضل التَّقلُّل والكَفَاف عَلَى النِّعم والتَّرفُّه. وفيْه حجَّةٌ لِمَنْ آثرَ الفَقْر عَلَى الغنى.
          وفيْه أنَّ مِنَ السُنَّةِ مشاركةَ الواجدِ المعدِمَ، وأن يكون النَّاس يشتركون فيما بأيدِيْهم بالتَّفضُّل مِنَ الواجد.
          قال عِياضٌ: وفيْه الحضُّ عَلَى الصَّدقة، ويحْتَمل أن يكون نهيًا للمعطاة عن الاحتقار، ولا يحقِّر المُهدَى إليْه ولا المُهدِي لأنَّ في احتقارِه انقطاعًا عن المعروف وربَّما لم يكن الكثير كلَّ وقتٍ، فإذا تواصل اليسير كان كثيرًا.
          وفيْه ما كانت الأنصار عليْه مِنَ الكرم والمواساة، وقد آثروا عَلَى أنفسِهم.
          الرَّابعُ قولُها: (الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ) هو مِنْ باب التَّغليب كالأبيضين الماء واللَّبن وغير ذلك.
          وقال ابْنُ سِيْدَهْ: فسَّرَه أهل اللُّغة بالماء والتَّمر وعندي أنَّها إنَّما أرادت الحرَّة واللَّيل، قيل لَهما: الأسودان لاسودادِهما، وذَلِكَ لأنَّ وجود التَّمر والماء عندَهم شِبَعٌ ورِيٌّ وخصبٌ لا شِصْبٌ، وإنَّما أرادت عائشة أن تبالغ في شدَّة الحال، وتنتهيَ في ذلك بألَّا يكون معَها إلَّا اللَّيل والحَرَّة، أذهب في سوء الحال مِنْ وجود التَّمر والماء.
          وضَافَ مُزبِّدًا المدينيَّ قومٌ فقال لَهم: ما لكم عندَنا إلَّا الأسودَين، فقالوا: إنَّ في ذلك لمقْنَعًا التَّمر والماء. فقال: ما ذلك أردت والله، إنَّما أردت الحرَّة واللَّيل.
          وقيل: إنَّ الأسودين الماءُ واللَّبن، وجعلَهما بعضُ الرُّجَّاز الماء والفَثَّ وهو ضَرْبٌ مِنَ البقل يُخْتَبَزُ، فيُؤكل فقال:
الأَسْودانِ أَبْردا عِظَامِي المَاءُ                     والفَثُّ ذوَا أَسْقَامِي
          والمنائح جمع مَنِيحةٍ، قال الفرَّاء: مَنَحْتُهُ أَمْنَحُهُ وأَمْنِحُه: وهي النَّاقة والشَّاة يُعْطيْها الرَّجل لآخر يحلبُها ثُمَّ يردُّها، وزعم بعضُهم أنَّ المنيحة لا تكون إلَّا ناقةً.
          وقال أبو عبيدٍ: المنيحةُ عند العرب عَلَى وجهين أن يُعطيَ الرَّجل صاحبَه صلةً فتكون لَه، وأن يمنحَه ناقةً أو شيئًا هبةً، أو شاةً ينتفع بحلبِها وَوَبَرِها زمنًا ثُمَّ يردُّها.
          وقال الحربيُّ: العرب تقول: منحتُكَ النَّاقة، وأنحلتُكَ الوبرَ، وأعوَمتكَ النَّخلة، وأعمرتُكَ الدَّار، وهذِه كلُّها هبة منافعَ يعود بعدها مثلها.
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: ويُقال لعطيَّة ركوب الدَّواب ولُبس الثِّياب: عاريَّةٌ، مشدَّدةٌ ومخفَّفةٌ.
          قال ابن حَبيبٍ: ويُقال للعبد: أخدمتُك، ومِنَ المنحة قرض الذَّهب والوَرِق، ويُقال لِمَا وقف مؤبَّدًا حَبْسٌ. وأكثر العرب يجعلها للعاريَّة دون الهبة وهو تأويل قولِه: ((المَنِيحةُ مَرْدُودَةٌ)).
          وقال التَّوَّزيُّ في «شرح شعر أبي نُخَيلة»: أصلُها العاريَّة، ثُمَّ استُعملَ حتَّى صارت كلُّ هبةٍ منيحةً.
          وقال اللِّحيانيُّ: لا تكون إلَّا للمعارة اللَّبن خاصَّةً، وقيل: كلُّ شيء يُقْتَصد بِه قصد شيءٍ فقد منحتُه إيَّاه، كما تمنح المرأة وجهَها المرأة.
          وقال القزَّاز: قيل: لا تكون المنيحة إلَّا ناقةً، ولا تكون شاةً، والأوَّل أعرف.