التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حرق الدور والنخيل

          ░154▒ باب: حرق الدُّور والنَّخيل.
          3020- ذكر فيه حديث جَريرٍ: قال لي رسول الله صلعم: (أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟) الحديث، إلى أن قال: (فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا).
          3021- وحديثَ ابْنِ عُمَرَ ☻: (حَرَّقَ النَّبِيُّ صلعم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ).
          الكلام عليهما: أمَّا حديث جريرٍ فمِنْ
          وجوهٍ:
          أحدها: التَّرجمة أعمُّ إذ المحرَّق بيتُ الصَّنم لا بيت السُّكنى، وترجم عليه البُخَاريُّ فيما سيأتي باب: مَنْ لا يثبت على الخيل [خ¦3036]، لأجل قوله فيه: ((اللَّهمَّ ثبِّته واجعله هاديًا مهديًّا)) ووجه دخولها في الأحكام أنَّ الحديث يدلُّ على فضيلة ركوب الخيل والثُّبوت عليها.
          و(هَادِيًا مَهْدِيًّا) مِنْ باب التَّقديم والتَّأخير، لأنَّه لا يكون هاديًا لغيره إلَّا بعد أن يهتدي هو فيكون مَهديًّا، وببركة دعائه صلعم ما سقط بعد ذلك عن فرسٍ.
          ثانيها: معنى (أَلَا تُرِيحُنِي): تريح سرِّي، و(ذو الْخَلَصَةِ): اسمٌ لذلك البيت لقوله: (وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ) يُسمَّى: كعبة اليَمانية، وقيَّده أبو الوليد الوَقَّشيُّ بفتح الخاء وإسكان اللَّام، والَّذي نحفظه بفتحهما، وهو ما ضبطه الدِّمْياطيُّ بخطِّه في الأصل، وستأتي زيادةٌ على ذلك في أثناء الباب، وهو بيتٌ باليمن ببلاد دَوسٍ بنتْهُ خَثْعَم لتحجَّ إليه وتطوف عنده وتنحر، وقيل: الخَلَصة: اسمٌ للبنيَّة، وقيل: اسمٌ للصَّنم، وعُمل موضعَه لمَّا أُخرب مسجدٌ، ويُسمَّى مسجد العَبلا.
          وقوله: (كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ) مِنْ إضافة الموصوف إلى صفته، جوَّزه الكوفيُّون، وقدَّر فيه البصريُّون حذفًا أي: كعبة الجهة اليمانية، لأنَّها باليمن ضاهَوا بها الكعبة، وفي روايةٍ: ((الكعبة اليمانِيَة، والكعبة الشَّاميَّة)) وفي بعض النُّسخ بحذف الواو بينهما، أي: يُقالان لموضعين فاليمانِيَّة لِخَثْعَم والشَّاميَّة الكعبة الحرام المشرَّفة.
          وخَثْعَم قَبِيلٌ مِنْ قحطان وهو أفتل، وقيل: أقبل _بقافٍ ثُمَّ باءٍ موحَّدةٍ_ ابن أَنْمار بن إراش بن عمرو بن الغَوث بن نَبْت.
          ورسول جريرٍ اسمه: حُصَين بن رَبِيعة أبو أرْطأة، كذا جاء مصرَّحًا به في بعض الرِّوايات، ورُوي: حسينٌ، والصَّواب الأوَّل كما قاله عِياضٌ.
          و(أَحْمَسَ) _بالحاء المهملة_ قَبيلٌ مِنَ العرب، وهو ابن الغَوث بن أَنمارِ بن إراش بن عمرو بن الغَوث بن نبت بن مالكِ / بن زيدِ بن كَهْلان بن سَبأ بن يَشْجُبَ بن يَعْرُبَ بن قَحطان.
          وأُرسِل جريرٌ يهدمها ليكون إنكاءً لِمَنْ كان يعبدها؛ لأنَّ هذا القريب ممَّن اتخذها أوَّلًا وَلِيَ هدمها، لما وضَح له وثبت في قلبه مِنْ سفه مَنِ اتَّخذها وفي «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث أبي هريرة ☺ مرفوعًا: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى تضطربَ أَلْياتُ نساءِ دَوْسٍ حول ذي الخَلَصَةِ)) وكانت صنمًا تعبدها دوسٌ في الجاهليَّة، قال ابن دِحْية: قيل: هو بيت أصنامٍ كان لدوسٍ وخَثْعمَ وبَجِيْلة ومَنْ كان ببلادهم، وقيل: هو صنمٌ كان لعمرِو بنِ لُحَيٍّ نصبه بأسفلِ مكَّة حين نصب الأصنام، فكانوا يلبسونه القلائد ويعلِّقون عليه بيضَ النَّعام ويذبحون عنده، وعند أبي حَنيفةَ: الخَلَصة: نبتٌ طيِّب الرِّيح يتعلَّق بالشَّجر له حَبٌّ.
          وجمع الخَلَصة: خلصٌ، قال السُّهَيليُّ: وهو بضمِّ الخاء واللَّام، وفتحهما ابن إسحاق، قال: وبعْثُ جريرٍ كان قبل وفاته صلعم بشهرين، وفي «الزَّاهر»: كان المبرِّد يرويه بضمِّ الخاء، والمعروف فتح اللَّام، قال ابن السَّيِّد في كتاب «الفَرْق»: وسكَّنه امرؤ القَيس في قوله:
لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الخَلْصَةِ المَوْتُورَا
          للضَّرورة، وأنشده ابنُ إسحاق وغيره: الخَلَصِ بغير هاءٍ.
          وضرب الشَّارع صدره لأنَّ فيه القلب.
          و(كَسَرَهَا) أي: هدمها، وفيه: توجيه مَنْ يريح مِنَ النَّوازل، وجواز هتك ما افتُتن النَّاس به مِنْ بناءٍ أو إنسانٍ أو حيوانٍ أو غيره، وقبول خبر الواحد.
          وقوله: (تَرَكْتهَا كَأَنَّها جَمَلٌ أَجْوَفُ، أَوْ أَجْرَبُ) هو عبارة عن خرابها وهدمها، وقال الدَّاوُديُّ: معنى (أَجْوَفُ): أنَّها أُحرقت فسقط السَّقف وبعضُ البناء وما كان فيها مِنْ كسوةٍ، وبقيتْ خاويةً على عروشها.
          ومعنى (أَجْرَبُ): شبَّهها حين ذهب سقفها وكسوتها وأعالي جدرانها بالجمل الَّذي زال شعره ونفض جلده مِنَ الجرب وصار إلى الهزال.
          وفيه الدُّعاء للجيش إذا بُعث، وكونُه وترًا، لقوله: (فَبَارَكَ رَسُولُ اللهِ صلعم في خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ).
          وفيه بركة دعوته صلعم، وفيه البشارة في الفتوح.
          وأمَّا حديث ابن عمرَ فهو دالٌّ على أنَّ للمسلمين أن يكيدوا عدوَّهم مِنَ المشركين بكلِّ ما فيه تضعيف شوكتهم، وتهوين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظَّفر بهم، مِنْ قطع ثمارهم وتغوير مياههم، والحول بينهم وبين ما يتغذَّون به مِنَ الأطعمة والأشربة والتَّضييق عليهم بالحصار، وذلك أنَّه صلعم لمَّا أَمر بتحريق نخل بني النَّضير كان معلومًا أنَّ كلَّ ما كان نظير ذلك مِنْ قطع أسباب معاشهم وتغوير مياههم فجائزٌ فعلُه بهم، وقد رُوي عن عليٍّ أنَّه صلعم أمره أن يغوِّر مياه بدرٍ، قاله الطَّبَريُّ.
          وفيه الدِّلالة الواضحة على إباحة إضرام النِّيران في حصونهم ونصب المناجيق عليهم ورميهم بالحجارة، وذلك في الضَّرر كالنَّار ونحوه.
          وقد اختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب ديارهم، فرخَّصت في ذلك طائفةٌ وكرهته أخرى، فممَّن أجازه مالكٌ والكوفيُّون والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ والثَّوْريُّ وابن القاسم، قال الكوفيُّون: يُحرَّق شجرُهم وتُخرَّب بلادهم وتُذبح الأنعام وتُحرق إذا لم يمكن إخراجها، وقال مالكٌ: يُحرَّق النَّخل ولا تُعَرقَب المواشي، وقال الشَّافعيُّ: يُحرق الشَّجر المثمر والبيوت، وأكره تحريق الزَّرع والكلأ.
          وأمَّا مَنْ كره ذلك فروى الزُّهْريُّ عن سعيد بن المسيِّب أنَّ الصِّدِّيق قال في وصيَّة الجيش الَّذي وجَّهه إلى الشَّام: لا تغرقنَّ نخلًا ولا تُحرقنَّها ولا تعقِروا بهيمةً ولا شجرةً مثمرةً ولا تهدموا بيعةً، وقال اللَّيث: أكره حرق النَّخل والشَّجر المثمر ولا تُعرقب بهيمةٌ، ونحوه قول الأوزاعيُّ في روايةٍ، وبه قال اللَّيث وأبو ثَوْرٍ.
          وحجَّة مَنْ أجاز تحريقها الكتابُ والسُّنَّة، قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية [الحشر:5] قال ابن عبَّاسٍ: اللِّينة: النَّخلة والشَّجرة، ولأبي داود ((أنَّه صلعم عَهِدَ إلى أسامة: أنِ اغزُ على أهل أبنى صباحًا وحرِّق)) وقال ابن إسحاق: التَّحريق سنَّةٌ إذا كان إنكاءً للعدوِّ، وحديث جريرٍ وابن عمرَ يشهد لصحَّة هذا القول.
          وأُجيب عن أثر الصِّدِّيق:
          أوَّلًا: بإرساله _كما قال الطَّحَاويُّ_ لأنَّ سعيد بن المسيِّب لم يولد في أيام الصِّدِّيق.
          وثانيًا: أنَّه إنَّما نهى لأجل أنَّه صلعم أخبر بفتحها، وكان المسلمون أشرفوا على الغلبة ولم يبقَ فيهم كبير منعةٍ.
          وثالثًا: للطَّبَريِّ أنَّ النَّهي عند القصد والتَّعمُّد، فأمَّا إذا أصابه التَّحريق والغرق في خلال الإغارة فلا يدخل في النَّهي كما في قتل النِّساء والصِّبيان، فإنَّه قد نصب المَنْجَنيق على الطَّائف، ولا شكَّ أنَّ حجارته إذا وقعت في الحصن ربَّما أصابت المرأة والطِّفل، فلو كان سبيلُ ما أصابه ذلك سبيلَ ما أصاب الرَّامي بيده متعمِّدًا، كان صلعم لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته مَنْ نهى عن قتله، فلمَّا فعل ذلك وأباحه لأمَّته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد في ذلك.
          واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشيَ الكفَّار ودوابَّهم وخافوا مِنْ كثرة عددهم وأخذها، فقال مالكٌ وأبو حَنيفةَ: تُعرقَب وتُعقر حتَّى لا ينتفعوا بها، وقال الشَّافعيُّ: لا يحلُّ قتلها ولا عقرها ولكن تُخلَّى، واحتجَّ ابن القَصَّار في ذلك فقال: لا خلاف بيننا أنَّ المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نعرقبَ ما تحته ونقتله لنتوصل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعلُ ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلةٍ واحدةٍ ألَا ترى أنَّ قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز، لأنَّ في ذلك ضعفهم وتلفَهم، فكذلك خيلهم ومواشيهم، وقد مدح الله تعالى / مَنْ فعل ذلك فقال: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120] فهو عامٌّ في جميع ما ينالونه، ولمَّا كانت نفوسُهم وأموالهم سواءً في استحلالنا إيَّاهم ثُمَّ جاز قتلهم إذا لم يتمكَّن مِنْ أسرهم، كذلك يجوز إتلاف أموالهم الَّتي يتقوَّون بها.
          والحاصل أنَّ ما كان فيه وهنًا لهم جاز لنا فعلُه، وإن كنَّا نرجو الظَّفر بها بعد طولٍ، لما فيه مِنْ إبطاء الظَّفر بهم، وقد انقطع الحرب عن بني النَّضير وجَلَوا بغير قتالٍ، فقسَم رسول الله صلعم ما سوى الرِّباع مِنْ أموالهم، وبقيت الرِّباع خالصةً لرسول الله صلعم وهي الَّتي وَلِيَ العبَّاسُ وعليٌّ، دفعها إليهما عمرُ.