التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الجاسوس

          ░141▒ باب: الجاسوس. /
          وقول الله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] التَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ.
          3007- ذكر فيه حديثَ حسن بن محمَّدٍ _وهو ابن الحنفيَّة_ قال: أخبرني عُبيد الله بن أبي رافعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا ☺، فذكر حديث روضةِ خاخٍ بطوله، وفي آخره: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) قَالَ سُفْيَانُ: وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا!.
          وذكر البُخَاريُّ في التَّفسير إثر حديث عليٍّ هذا: قال عمرو بن دينارٍ: فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [الممتحنة:1] قال سفيان: فلا أدري أذاك في الحديث أم مِنْ عمرو بن دينارٍ.
          ونقل الواحِديُّ عن جماعةِ المفسِّرين أنَّها نزلت في حاطبِ بن أبي بَلْتَعة، وذلك أنَّ سارةَ مولاة أبي عمرو بن صيفيِّ بن هاشم بن عبد مَنافٍ أتت رسول الله صلعم إلى المدينة مِنْ مكَّة وهو يتجهَّز لفتح مكَّة فقال: ((ما جاء بكِ؟)) فقالت: الحاجة، فقال: ((أين أنتِ عَنْ شباب أهل مكَّة؟)) وكانت مغنِّيةً، قالت: ما طُلب منِّي شيءٌ بعد وقعة بدرٍ، فكساها وحملها وأتاها حاطبٌ، فكتب معها كتابًا إلى أهل مكَّة وأعطاها عشرة دنانيرَ، وكتب في الكتاب: إلى أهل مكة إنَّ رسول الله يريدكم فخذوا حِذركم، فنزل جبريل ◙ بخبرها، فبعث عليًّا وعمَّارًا وعمرَ والزُّبَيرَ وطلحةَ والمِقْدادَ بن الأسود وأبا مَرْثَدٍ، وكانوا كلُّهم فرسانًا، وقال: ((انطلقوا حتَّى تأتوا روضةَ خاخٍ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ إلى المشركين، فخذوه وخلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها...)) الحديث، وعند ابن أبي حاتمٍ مِنْ حديث الحارث عن عليٍّ: لمَّا أراد رسول الله صلعم أن يأتيَ مكَّة أسرَّ إلى أناسٍ مِنْ أصحابه أنَّه يريد مكَّة، منهم حاطبٌ، وأفشى في النَّاس أنَّه يريد خَيبرَ.
          إذا عرفت هذا، فالكلام على الحديث مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: في كتاب الحُمَيديِّ: ذكر البَرْقانيُّ نحو هذا الحديث، رواه سِمَاكٌ عن ابن عبَّاسٍ قال: ((قال عمر: كتب حاطبٌ إلى أهل مكَّة...)) الحديث، وزعم أنَّه في مسلمٍ، قال الحُمَيديُّ: وليس له عند أبي مسعودٍ ولا خلفٍ ذِكرٌ.
          ثانيها: هذه الظَّعينة اسمها سارةُ كما سلف، مولاة أبي عمرو بن صَيفيِّ بن هاشمٍ والد رُقيقَة أمِّ مَخْرَمة بن نوفلٍ، وقيل: أمُّ سارة وقيل: كَنُود مولاةٌ لقريشٍ، وقيل: لعِمران بن أبي صَيفيٍّ، وقيل: كانت مِنْ مُزَينة مِنْ أهل العَرْج. وكان حاطب كتب إلى ثلاثةٍ: صفوان بن أميَّة، وسُهَيل بن عمرٍو، وعِكرمة بن أبي جهلٍ، قال الحاكم في «إكليله»: وكانت مغنِّيةً بوَّاحةً، تغنِّي بهجاء رسول الله صلعم، فأُمر بها يوم الفتح فقُتلت، وأمَّا أبو نُعَيْمٍ وابن مَنْدَهْ فذكراها في الصَّحابيَّات.
          ووقع في «أحكام القرآن» للقاضي إسماعيل في قصَّة حاطبٍ: قال للَّذين أرسلهم لها: ((إنَّ بها امرأةً مِنَ المسلمين معها كتابٌ إلى المشركين)) وأنَّهم لمَّا أرادوا أن يخلعوا ثيابها قالت: أولستم مسلمين؟ ويُشكِل عليه ما أسلفناه عن الحاكم فإنَّها ممَّن استُثنيت يوم الفتح بالقتل، وعبارة أبي عُبيدٍ البَكريِّ: ((فإنَّ بها امرأةً مِنَ المشركين)) بدل ((المسلمين)) وفي «أسباب الواحِديِّ»: لمَّا قدمَتِ المدينةَ قال لها صلعم: ((مسلمةً جئت؟)) قالت: لا. قال: ((فما جاء بك؟)) قالت: احتجتُ، قال: ((فأين أنتِ مِنْ شباب قريشٍ؟)) الحديثَ.
          ثالثها: في الكتاب _كما قال السُّهَيليُّ_: أمَّا بعدُ فإنَّ رسول الله صلعم قد توجَّه إليكم في جيشٍ كاللَّيل يسير كالسَّيل، وأقسم بالله لو لم يَسرْ إليكم إلَّا وحدَه لأظفره اللهُ بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإنَّ الله وليُّه وناصره، وفي «تفسير ابن سلَّام» كان فيه: إنَّ محمَّدًا قد نفر إمَّا لكم وإمَّا إلى غيركم، فعليكم الحذر، وقيل: كان فيه: إنَّه صلعم أذَّن في النَّاس بالغزو، ولا أُراه يريد غيركم، فقد أحببت أن تكون لي عندكم يدٌ بكتابي إليكم، قال القُرْطُبيُّ: ويُحكى أنَّه كان في الكتاب يفخِّم جيش رسول الله صلعم وأنَّهم لا طاقة لهم به.
          رابعها: (خاخ) بخاءين معجمتين، قال السُّهَيليُّ: وكان هُشَيمٌ يصحِّفها فيقول: حاج: بحاءٍ وجيمٍ، وذكر البُخَاريُّ أنَّ أبا عَوانة كان يقولها كما يقوله هُشَيمٌ.
          خامسها: (الظَّعِينَة) المرأة في الهودج، ولا يُقال لها ظَعينةٌ إلَّا وهي كذلك، قال الدَّاوُديُّ: سُمِّيت بذلك لأنَّها تركب الظَّعائن الَّتي تظعن براكبها، وقال ابن فارسٍ: الظَّعينةُ المرأة وهو مِنْ باب الاستعارة، وأمَّا الظَّعائن فالهوادج، كان فيها نساءٌ أو لم يكنَّ، وقال الخَطَّابيُّ: إنَّما قال لها ظَعينةٌ لأنَّها تظعن مع زوجها إذا ظَعن.
          سادسها: قوله: (أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ) قال ابن التِّيْنِ: صوابه في العربيَّة: لنُلقِنَّ الثياب بحذف الياء، لأنَّ النُّون المشدَّدة تجتمع مع الياء السَّاكنة فتُحذف الياء لالْتقاء السَّاكنين.
          وفيه جواز تجريد العورة عن السُّترة عند الحاجة.
          سابعها: العِقاص _بعينٍ مكسورةٍ_: الشَّعر المعقوص، أي: المظفور، جمع عَقِيصةٍ وعِقْصةٍ، والعَقْص: ليٌّ في خُصَلاتِ الشَّعر بعضه على بعضٍ، وعند المُنْذرِيِّ: هو ليُّ الشَّعر على الرَّأس ويدخل أطرافه في أصوله، قال: ويُقال: هي الَّتي تتَّخذ مِنْ شعرها مثل الرُّمَّانة، قال: وقيل: العِقَاص هو الخيط الَّذي يجتمع فيه أطراف الذَّوائب، وبه جزَم ابن التِّيْنِ حيث قال: والعِقَاص: الخيط الَّذي تُعقص به أطراف الذَّوائب، وعَقَص الشَّعرَ: ظفَره، قال: وفي روايةٍ أخرى: ((أخرجتْ مِنْ حُجْزَتها)). وكذا قال ابن بَطَّالٍ: العِقَاص السَّيرُ الَّذي تَجمع به شعرها على رأسها، والعَقْص الظَّفْر، والظَّفْرُ هو الفَتْل.
          ثامنها: قوله: (إِنِّي كُنْتُ مُلْصَقًا فِي قُرَيشٍ) يعني: كنت مضافًا إليهم ولستُ منهم، وأصل ذلك مِنْ لصاقِ الشَّيء بغيره ليس منه، ولذلك قيل للدَّعيِّ في القوم: ملصَقٌ، قاله الطَّبَريُّ.
          وقوله: (وَكَانَ مَنْ مَعَكَ) كذا في الرِّواية، قال القُرْطُبيُّ: هكذا الرِّواية الصَّحيحة، وعند مسلمٍ: ((ممَّن معك)) بزيادة (مِنْ) والصَّواب: إسقاطها لأنَّ (مَنْ) لا تُزاد في الواجب عند البصريِّين، وأجازه بعض الكوفيِّين.
          تاسعها: إنَّما أطلق عمرُ على حاطبٍ اسم النِّفاق لأنَّه والى كفَّار قريشٍ وباطنهم، وإنَّما فعل حاطبٌ ذلك متأوِّلًا في غير ضررٍ لرسول الله صلعم وعلم اللهُ صدقَ نيَّته فنجَّاه مِنْ ذلك، وذكر الجاحظ في «عُمده» فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنقه _يعني حاطبًا_ فقد كفر. قال الباقِلَّانيُّ في نقضه هذا الكتاب: هذه اللَّفظة ليست معروفة.
          قلت: ويحتمل أن يكون المراد بها كُفرَ النِّعمة أو أنَّه تأوَّل قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] أو يكون الرَّاوي روى بالمعنى، فإنَّه لمَّا سمع قولَ عمرَ: نافق، عبَّر عنه؛ / لأنَّه كفرٌ عند جماعةٍ، وقال ابن التِّينِ: يحتمل أن يكون قول عمرَ: (دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ) قبل قوله ◙: (قَدْ صَدَقَكُمْ) أو يريد أنَّه وإن صدَق فلا عذر له، وقد أثبت اللهُ لحاطبٍ الإيمان في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} الآية [الممتحنة:1]، وكانت أمُّه بمكَّة فأراد أن يحفظوه فيها.
          العاشر: قوله (وَمَا يُدْرِيكَ؟) أي: يُعلمك، و(لعلَّ) للتَّرجِّي، وهو هنا محقَّق بدليل ما ذُكر في آل عِمران والأنفال.
          الحادي عشر: قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ظاهره الاستقبال، وقال ابن الجَوزيُّ: ليس هو على الاستقبال، وإنَّما هو للماضي، تقديره: اعملوا ما شئتم أيَّ عمل كان لكم فقد غُفر، ويدلُّ على هذا شيئان:
          أحدهما: أنَّه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر.
          الثَّاني: أنَّه كان يكون إطلاقًا في الذُّنوب ولا وجه لذلك، ويوضِّحه أنَّ القوم خافوا مِنَ العقوبة فيما بعد، فلهذا كان عمرُ يقول: يا حذيفة أنا منهم؟
          قال القُرْطُبِيُّ: وهذا التَّأويل وإن كان حسنًا فإنَّ فيه بُعدًا، لأنَّ (اعْمَلُوا) صيغة أمرٍ، وهي موضوعةٌ للاستقبال، ولم تضع العرب قطُّ صيغة الأمر موضع الماضي لا بقرينةٍ ولا بغير قرينةٍ، كذا نصَّ عليه النَّحويُّون، وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة إنَّما هي بمعنى الإنشاء والابتداء لا بمعنى الماضي، قال: واستدلاله عليه بقوله: (قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) ليس بصحيحٍ لأنَّ (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) يُحمل على طَلب الفعل ولا يصحُّ أن يكون بمعنى الماضي، فيتعيَّن حمله على الإباحة والإطلاق، وحينئذٍ يكون خطابَ إنشاءٍ، فيكون كقول القائل: أنت وكيلي وقد جعلت لك التَّصرُّف كيف شئت، وإنَّما يقتضي إطلاق التَّصرُّف مِنْ وقت التَّوكيل لا قبل ذلك.
          قال: وقد ظهر لي وجهٌ، وهو أنَّ هذا الخطابَ خطابُ إكرامٍ وتشريفٍ يضمن أنَّ هؤلاء القوم حصل لهم حالةٌ غُفرت لهم بها ذنوبهم السَّالفة وتأهَّلوا أن يُغفر لهم ذنوبٌ مستأنفةٌ إن وقعت منهم لا أنَّهم نَجِزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذُّنوب اللَّاحقة، بل لهم صلاحيَّة أن يُغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم مِنْ وجود الصَّلاحيَّة لشيءٍ ما وجود ذلك الشَّيء، إذ لا يلزم مِنْ وجود أهليَّة الخلافة وجودها لكلِّ مَنْ وُجدت له أهليَّتُها، وكذلك القضاء وغيره، وعلى هذا فلا يأمن مَنْ حصلتْ له أهليَّة المغفرة مِنَ المؤاخذة على ما عساه أن يقع منه مِنَ الذُّنوب، ثُمَّ إن الله أظهر صدق رسوله للعِيان في كلِّ ما أخبر عنه بشيءٍ مِنْ ذلك، فإنَّهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنَّة إلى أن تُوفُّوا، ومَنْ وقع منهم في أمرٍ ما أو مخالفةٍ لجأ إلى التَّوبة ولازمها حتَّى لقي الله عليها، يَعلم ذلك قطعًا مِنْ حالهم مَنْ طالع سيرهم وأخبارهم.
          وذكر القاضي عِياضٌ الإجماعَ على أنَّ مَنْ ثبت عليه حدٌّ أنَّه يُقام عليه، وقد ضرب الشَّارع مِسْطَحًا الحدَّ.
          الثَّاني عشرَ: في فوائده الجمَّة:
          وسيأتي بعضها في باب: المتأوِّلين في آخر كتاب الدِّيات [خ¦6939]، وفي كتاب الاستئذان في باب: مَنْ نظر في كتاب مَنْ يُحذَر على المسلمين ليستبين أمره [خ¦6259]، ونذكر هنا جملةً، فنقول:
          فيه هتك ستر الجاسوس رجلًا كان أو امرأةً إذا كان في ذلك مصلحةٌ، أو كان في السَّتر مفسدةٌ.
          وفيه _كما قال ابن الجَوزيِّ_ أنَّ حكم المتأوِّل في استباحة المحظور خلافُ حكم المتعمِّد لاستحلاله مِنْ غير تأويلٍ وأنَّ مَنْ أتى محظورًا أو ادَّعى فيه ما يحتمل التَّأويل قُبل وإن كان غالبُ الظَّنِّ خلافَه.
          وفيه _كما قال القُرْطُبيُّ_ أنَّ ارتكاب الكبيرة لا يكون كفرًا.
          وفيه _كما قال الدَّاوُديُّ_ أنَّ الجاسوس يُقتل وإنَّما نفى القتل عن حاطبٍ بما علمه النَّبيُّ صلعم منه، لكنَّ مذهب الشَّافعيِّ وطائفةٍ أنَّ الجاسوس المسلم يُعزَّر ولا يجوز قتله وإن كان ذا هيئةٍ عُفي عنه لهذا الحديث: ((فلا يحلُّ دم امرئ مسلمٍ إلَّا بكفرٍ بعد إيمانٍ، أو زنًا بعد إحصانٍ، أو قتل نفسٍ بغير حقٍّ)) وعن أبي حَنيفةَ والأوزاعيِّ: يُوجع عقوبةً ويُطال حبسُه.
          وقال بعض المالكيَّة _وهو ابن وَهبٍ_: يُقتل إلَّا أن يتوب، وعن بعضهم أنَّه يُقتل إذا كانت عادتُه ذلك وإن تاب، وهو قول ابن الماجِشُون. وقال ابن القاسم في «العتبيَّة»: تُضرب عنقه، لأنَّه لا تُعرف توبتُه؛ وهو قول سُحْنون. ومَنْ قال بقتله قد خالف الحديث وأقوالَ المتقدِّمين فلا وجه لقوله كما قال ابن بَطَّالٍ، وعن مالكٍ يجتهد فيه الإمام.
          قال الأوزاعيُّ: فإن كان كافرًا يكون ناقضًا للعهد، وإن كان مسلمًا أُوجع عقوبةً، وقال أصبغ: الجاسوس الحربيُّ يُقتل، والمسلم والذِّمِّيُّ يُعاقبان، إلَّا أن يُظاهرا على الإسلام فيُقتلان.
          وفيه _كما قال الطَّبَريُّ_ أنَّ الإمام إذا ظهر مِنْ رجلٍ مِنْ أهل السَّتر على أنَّه قد كاتب عدوًّا مِنَ المشركين ينذرهم ببعض ما أسرَّه المسلمون فيهم مِنْ عزمٍ، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسَّفه والغشِّ للإسلام وأهله وكان ذلك مِنْ فعله هفوةً وزلَّةً مِنْ غير أن يكون لها أخواتٌ فجائزٌ العفو عنه، كما فعل رسول الله بحاطبٍ مِنْ عفوه عن جُرمه بعدما اطَّلع عليه مِنْ فعلِه، وهذا نظير الخبر الَّذي روته عَمْرةُ عن عائشةَ ♦ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتِهم إلَّا حدًّا مِنْ حدود الله)).
          فإنْ ظنَّ ظانٌّ أنَّ صفحَه إنَّما كان لما أعلمه اللهُ مِنْ صدقه ولا يجوز لِمَنْ بعد رسول الله صلعم أن يعلم ذلك فقد ظنَّ خطأً، لأنَّ أحكام الله في عباده إنَّما تجري على ما ظهر منهم وقد أخبر الله سبحانه نبيَّه عن المنافقين الَّذين كانوا بين ظهرانَي أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرَّفه بأعيانهم ثُمَّ لم يُبحْ له قتلهم وسبيَهم إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم في كلِّ أحدٍ مِنْ خلق الله أن يُؤخذ بما ظهر لا بما يُظنُّ، وقد رُوي مثل ذلك عن الأئمَّة، روى اللَّيث بن سعدٍ عن يزيدَ بن أبي منصورٍ قال: بلغ عمرَ بن الخَطَّاب أنَّ عامله على البحرين أُتيَ برَجلٍ قامت عليه بيِّنةٌ أنَّه كاتبَ عدوًّا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه ضرياس، فضرب عنقه وهو يقول: يا عُمَراهْ يا عُمَراهْ، فكتب عمرُ إلى عامله يقدم عليه، فجلس له عمر وبيده حربةٌ، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرياس لبَّيك، أضرياس لبَّيك، فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنَّه كاتَبهم بعورة المسلمين / وهمَّ أن يلحق بهم، فقال له عمر: وقتلته على هذه؟! وأيُّنا لم يهمَّ؟! لولا أن تكون سنَّةً لقتلتك.
          وقول البُخَاريِّ: (التَّجَسُّسُ: التَّبحُّثُ) قد سلف الكلام عليه أوَّل الكتاب [خ¦3].
          وفيه _كما قال الطَّبَريُّ_ أيضًا: البيان عن بعض أعلام النُّبوَّة، وذلك إعلام الله نبيَّه بخبر المرأة الحاملة كتابَ حاطبٍ إلى قريشٍ، ومكانها الَّذي هي به، وحالها الَّذي يُصارُ عليها مِنَ السَّير وكلُّ ذلك لا يُعلم إلَّا بوحيٍ.
          وفيه _كما قال المهلَّب_: هتك سَتر المريب وقد سلف، وكشفُ المرأة العاصية، وأنَّ الجاسوس قد يكون مؤمنًا وليس تجسُّسه ممَّا يخرجه مِنَ الإيمان، وأنَّه لا يُتَسوَّرُ في قتل أحدٍ دون رأي الإمام، وإشارة الوزير بالرَّأي على السُّلطان وإن لم يستشره، والإشداد عند السُّلطان على أهل المعاصي، والاستئذان في قتلهم، وجواز العفو عن الخائن لله ورسوله بتجسُّسٍ أو غيره، ومراعاة فضيلةٍ سلفت ومَشهدٍ شاهدَهُ الجاسوس وغيره مِنَ المُذنبين، والتَّشفُّع بذلك.
          و(أهل بَدْرٍ): قال مالكٌ: كانوا ثلاث مئةٍ وثلاثة عشرَ، وزاد الأوزاعيُّ اثنين على ذلك، وقيل: بزيادة اثنين آخرين أيضًا، قيل: منهم ثلاثةٌ وسبعون مِنَ المهاجرين، وقيل: مئةٌ، ولم يحضره إلَّا قرشيٌّ أو أنصاريٌّ أو حليفُهما أو مولاهما، ذكره ابن التِّينِ.
          وفيه أيضًا الحجَّة لترك إنفاذ الوعيد مِنَ الله لِمَنْ شاء ذلك له، لقوله: ((لَعَلَّ الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)).
          وفيه جواز غفران ما تأخَّر وقوعه مِنَ الذُّنوب قبل وقوعه، كذا في كتاب ابن بَطَّالٍ، وقد سلف ما فيه.
          وقد أسلفنا الخلاف في المُسْتَأمِن وقول أصبغَ والأوزاعيِّ في الكافر، وقال الثَّوْريُّ والكوفيُّون والشَّافعيُّ في الحربيِّ المستأمِن والذِّمِّيِّ يتجسَّس ويدلُّ على العورات: لا يكون ذلك نقضًا للعهد منهما، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه.
          وقال الأوزاعيُّ فيما أسلفناه: قد نقض العهد وخرج عن الذِّمَّة، فإنْ شاء الإمام قتله أو صلبه، وهو قول سُحْنون، وقال مالكٌ في أهل الذِّمَّة: إذا تلصَّصوا أو قطعوا الطَّريق لم يكن ذلك نقضًا للعهد حتَّى يمنعوا الجزية، ويمتنعوا مِنْ أهل الإسلام، فهؤلاء فيءٌ إذا كان الإمام عادلًا، وعند مالكٍ: إذا استكرَه الذِّمِّيُّ المسلمةَ فزنا بها فهو نقضٌ للعهد، وإن طاوعته لم يخرج مِنَ العهد، وعند الشَّافعيِّ: لا تنتقض الذِّمَّة بشيءٍ مِنْ ذلك إلَّا عند الشَّرط، إلَّا الامتناع مِنْ أداء الجزية أو الامتناع مِنَ الحكم، فإذا فعلوا ذلك نُبذ إليهم، وعندنا في الهدنة الانتقاض خلاف الإطلاق السَّالف، وقال الطَّحَاويُّ: لم يختلفوا أنَّ المسلم إذا فعل ذلك لم يُبَح دمُه، فكذلك المستأمِن والذِّمِّيُّ قياسًا عليه، ولم يراعِ الطَّحَاويُّ اختلاف أصحاب مالكٍ في ذلك؛ إذ لم يقلْ بقولهم مالكٌ ولا غيره مِنَ المتقدِّمين مع خلافهم للحديث.