التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه بخير

          ░38▒ (بابُ: فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ) /
          2843- ذكر فيه حديثَ بُسْرِ بنِ سعيدٍ _وهو بالسِّين المهملة وبضمِّ أوَّله_ عن زيدِ بنِ خالدٍ أنَّ النَّبيَّ _صلعم_ قَالَ: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ الله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا).
          2844- ومِنْ حديث أنسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي).
          الشَّرح: حديث بُسْر بن سعيدٍ أخرجه مسلمٌ والأربعة، وفي أفراد مسلمٍ مِنْ حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ مرفوعًا: ((أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْخَارِجِ)) ومِنْ حديث بُرَيْدَةَ بن الحُصَيْب مرفوعًا: ((حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ إِلَّا وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ؟)) وفي لفظٍ له: ((خُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ)) فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ الله _صلعم_ فَقَالَ: ((فَمَا ظَنُّكُمْ؟)).
          ولابن أبي عاصمٍ في كتاب الجهاد مِنْ حديث عمر بن الخطَّاب مرفوعًا: ((مَنْ أَظَلَّ رَأْسَ غَازٍ، أَظَلَّهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ جَهَّزَ غَازِيًا حتَّى يَسْتَقِلَّ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ حتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرْجِعَ)) ومِنْ حديث سَهْلِ بن حُنَيْف مرفوعًا: ((مَنْ أَعَانَ مجاهدًا في غزوةٍ أَظَلَّهُ الله فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ))، ومِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ الله _╡_ بِقَارِعَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وَمِنْ حديث أبي أمامة مثله سواءً، وللحاكم _وقال: صحيح الإسناد_ مِنْ حديث أبي سعيدٍ: ((مَنْ خلَفَ الخارجَ في أهلِهِ ومالِهِ بخيرٍ كانَ لهُ مثلُ نصفِ الخارج)).
          وحديث أنسٍ ذكره هنا لقوله: (قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي) أي في سبيلي لأنَّه قُتل ببئر مَعونة، ولم يشهدها رسول الله _صلعم_: (فَأَنَا أَرْحَمُهَا) وإنَّه نوعٌ مِنْ خلافة الغازي بالخير، ولأنَّها كانت أختُها أمُّ حَرامٍ خالتَه مِنَ الرَّضاعة، وكانت أمُّ حَرامٍ أختُها تسكن قباء، كما قاله ابن أبي صُفْرة، وقال ابن التِّيْنِ: يريد أنَّه كان يكثر ذلك وإلَّا فقد دخل على أختها أمِّ حَرامٍ، ولعلَّها كانت شقيقةً للمقتول أو وجدت عليه أكثر مِنْ أمِّ حَرامٍ.
          وحديثُ أنسٍ هذا أخرجه مسلمٌ في الفضائل، ومعنى (غَزَا) حصل له أجر الغازي، وهو مِنْ باب المجاز والاتِّساع وإن لم يفعله.
          وفيه مِنَ الفقه أنَّ كلَّ مَنْ أعان مؤمنًا على عمل بِرٍّ فَلِلْمُعِين عليه مثل أجر العامل كما فيمَنْ فطَّر صائمًا أو قَوَّاه على صومه، فكلُّ مَنْ أعان حاجًّا أو معتمرًا على حجَّته أو عمرته حتَّى يأتيَ به على تمامه فله مثل أجره، وكذا مَنْ أعان قائمًا بحقٍّ مِنَ الحقوق بنفسه أو بماله حتَّى يعليَه على الباطل بمعونةٍ فله مثل أجر القائم به ثُمَّ كذلك سائر أعمال البرِّ، وإذا كان ذلك حكمَ المعونة على أعمال البرِّ فمثله المعونة على المعاصي ومكروه الرَّبِّ _تعالى_ للمعين عليها مِنَ الوزر والإثم مثل ما لعاملها، ولذلك نهى النَّبيُّ _صلعم_ عن بيع السُّيوف في الفتنة، ولعنَ عاصرَ الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور، وذهب بعض الأئمَّة _فيما حكاه القُرْطُبيُّ_ إلى أنَّ المثَل المذكور في هذا الحديث وشبهه إنَّما هو بغير تضعيفٍ لأنَّه يجتمع في تلك الأشياء أفعالٌ أُخر وأعمالٌ مِنَ البرِّ كثيرةٌ لا يفعلها الدَّالُّ الَّذي ليس عنده إلَّا مجرَّد النِّيَّة الحسنة، وقد قال _◙_: ((أَيُّكُمْ يخلفُ الخارجَ في أهلِهِ ومالِهِ بخيرٍ فَلَهُ مثلُ نصفِ أجرِ الخارجِ)) وقال: ((لينبعث مِنْ كلِّ رجلين أحدهما والأجر بينهما)) ولا حجَّة فيه لأنَّ المطلوب أنَّ النَّاويَ للخير الْمُعَوَّق عنه هل له مثل أجر الفاعل مِنْ غير تضعيفٍ، والحديث إنَّما اقتضى المشاركة والمشاطرة في المضاعف فانفصلا، وأيضًا أنَّ القائم على مال الغازي وأهله نائبٌ عن الغازي في عملٍ لا يتأتَّى للغازي غزوه إلَّا بأن يُكفى ذلك العمل، فصار كأنَّه مباشرٌ معه للغزو، فكذلك كان له مثل أجر الغازي كاملًا مضاعفًا بحيث إذا أُضيف ونُسب إلى أجر الغازي كان نصفًا له، وبهذا يجتمع معنى قوله: (مَنْ خَلَفَ غَازِيًا في أَهْلِه بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) ويَبِيْن معنى قوله في اللَّفظ الأوَّل: (فَلَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الغَازِي) ويبقى للغازي النِّصف، فإنَّ الغازيَ لم يطرأ عليه ما يوجب تنْقِيصًا لثوابه وإنَّما هذا كما قال: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مثلُ أجْرِهِ لا ينقصه مِنْ أجرهِ شيءٌ)) وعلى هذا فقد صارت كلمة: (نِصْفِ) مقحمةً هنا بين (مِثْلُ) و(أَجْرِ)، وكأنَّها زيادةٌ ممَّن تسامح في إيراد اللَّفظ بدليل قوله: (وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا) ويشهد له ما ذكرناه، وأمَّا مَنْ تحقَّق عجزُه وصدقت نيَّته فلا ينبغي أن يُخْتلف أنَّ أجره مضاعفٌ كأجر العامل المباشر لما تقدَّم، ولما سبق فيمن نام عن حزبه [خ¦2831].