التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة

          ♫
          ░░96▒▒ كِتَابُ الاعْتِصَامِ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ
          تقدَّمت غالبُ أحاديثِهِ ولننبِّه عليها، فنقول:
          7268- ذكر في الباب حَديث سُفْيَانَ عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ ☺: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. سَمِعَ سُفْيَانُ مِسْعَرًا، وَمِسْعَرٌ قَيْسًا، وَقَيْسٌ طَارِقًا.
          7269- وحديث أنسِ بن مالكٍ ☺ أنَّه سمع عُمَر ☺ حين بايعَ المسلمون أبا بكْرٍ ☺ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلعم، تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ، فقال: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللهُ لِرَسُولِهِ صلعم الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللهُ بِهِ رَسُولَكُمْ، فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا لِمَا هَدَى اللهُ بِهِ رَسُولَهُ.
          7270- وحديث ابن عبَّاسٍ ☻ قَال: ضمَّني إليه رسول الله صلعم وقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ).
          7271- وحديث أبي بَرْزةَ قَال: إِنَّ اللهَ نَعَشَكُمْ بِالإِسْلاَمِ وَبِمُحَمَّدٍ صلعم.
          7272- وحديث ابن عُمَرَ ☻: أنَّه كَتَبَ إِلَى عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ: وَأُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ.
          الشرح: قيل معنى الآية: اليوم أكملتُ لكم دِينكم بأنْ أهلكتُ عدوَّكم وأظهرتُ دينكم على الدِّين كلِّه، وقيل المعنى: أكملتُ فوق ما تحتاجون إليه مِن الحلال والحرام في أمر دينكم، قَال الدَّاودِيُّ: في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ، رِضاهُ الإسلامَ منذ خلقَ الله تعالى الخَلْق، والواو لا تُوجِب التقديم والتأخير والاشتراك والرُّتبة، فأنزل الله على نبيِّهِ جملًا فسَّر منها ما احتيج إليه، وما تأخَّر بيانُهُ ولم يَنزل في وقتِهِ فسَّره عند نزوله؛ قَال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ}الآية [النساء:84].
          فَصْلٌ: وكان تقديم عُمَر ☺ في الكلام بين يدي الصِّدِّيق الغدَ مِن وفاة رسول الله صلعم؛ ليذكُرَ مِن فَضَائل أبي بكرٍ ☺ ما لم يمكن أن يَذكره أبو بَكْرٍ ☺.
          فَصْلٌ: وقول / ابن عبَّاسٍ ☻: (ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صلعم) فيه قبول الخبر إذا سمعه وهو صغيرٌ.
          وقوله: (يُغْنِيكُمْ _أَوْ نَعَشَكُمْ_) قيل: صوابه: نغشكم، وفي روايةٍ: يُغْنيكم، وهو مطابقٌ للتبويب، وقال الدَّاودِيُّ: ذِكْره لحديث أبي بَرْزةَ إنَّما ذكره لقُبولِ خبر الواحدِ.
          فَصْلٌ: لا عِصمةَ لأحدٍ إلَّا في الكتاب والسُّنَّة والإجماع، والسُّنَّة: الطَّريقة، وقسمها ابن بطَّالٍ إلى واجبٍ وغيره، فالأوَّل: ما كان تفسيرًا مِن رسول الله صلعم لفرضِ الله وكلِّ ما أمرَ به أو نهى عنه أو فعَلَه فهو سنَّةٌ، ما لم يكن خاصًّا له.
          والثاني: ما كان مِن فِعْله تطوُّعًا ولا يُحرج أحدٌ في تركهِ كإجابة المؤذِّن، وكقوله: ((لا تتَّخِذوا الضَّيْعَةَ فترغبُوا في الدُّنيا)).
          وأكثر الصَّحابة كان لهم ضِيَاعٌ، فدلَّ أنَّه أدبٌ منه نستعين به على دفع الرَّغبة في الدُّنيا، ومِثلُ ذلك ممَّا أمر به تأديبًا لأمَّته بأكرم الأخلاق مِن غير أن يُوجِب ذلك عليهم، ومِن ذلك ما فعلَهُ في خاصَّةِ نفسهِ مِن أمر الدُّنيا كاتِّخاذِه لنعله قِبَالين، ولبسِه النِّعَال السِّبْتِيَّةِ، وصبغِهِ إزارَهُ بالوَرْسِ وحبِّه القَرْع، وإعجابِهِ بالطِّيب وحبِّه مِن الشاة الذِّراع، ونومهِ على الشقِّ الأيمن، وسرعتهِ في المشي، وخروجه يوم الخميس في السَّفر وقدومه منه في الضُّحى وشِبه ذلك، فلم يسنَّه لأمَّته ولا دَعَاهم إليه، ومَن تشبَّه به حبًّا له كان أقربَ إلى ربِّه كفعل ابن عُمَر ☻ في ذلك.
          وقال أبو بكرِ بن الطَّيِّبِ: ما كان مِن أفعالهِ بيانًا لِجِبِلَّةٍ فلا خِلاف بين العلماء أنَّها على الجِبِلَّة.
          واختلفوا ما كان منها واقعًا موقع القُرَب لا على وجه البيانِ والامتثالِ لتمثيلِ أمر ربِّه فقال مالكٌ وأكثر أهل العراق: إنَّها على الوجوب إلَّا أن يَمنع مِن ذلك دليلٌ، وهو قول ابن شريحٍ وابن خَيْرَانَ، وقال بعض أصحاب الشَّافعِيِّ: إنَّها على النَّدْب وإنَّ التأسِّي به مندوبٌ إليه إلَّا أن يقوم دليلٌ على [وجوبها، وقال كثيرٌ مِن أهل الحِجَاز والعراق وأصحاب الشَّافعِيِّ: إنَّها على الوقْفِ إلَّا أن يقوم دليلٌ على] كونها نَدْبًا أو مباحةً أو محظورةً. قَال أبو بَكْرٍ: وبهذا أقول.
          وقال ابن حزْمٍ في «إحكامه»: أجمعوا كلُّهم إنسُهم وجنُّهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ على أنَّ السُّنَّة واجبٌ إتِّباعها، وأنَّه ما سنَّه رسول الله صلعم، ومَن اتَّبع ما صحَّ برواية الثِّقات مُسندًا إلى رسول الله صلعم، فقد اتَّبَعَ السُّنَّة يقينًا ولَزِم الجماعة وَهُم أصحابُ رسول الله صلعم، والتابعون لهم بإحسانٍ ومَن أتى بعدهم مِن الأئمَّة، وأنَّ مَن اتَّبع أحدًا غير سيِّدنا رسول الله صلعم، فلم يتَّبِع السُّنَّة ولا الجماعة.