التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشجاعة في الحرب والجبن

          ░24▒ (بابُ: الشَّجَاعَةِ فِي الحَرْبِ وَالجُبْنِ)
          2820- ذكر فيه حديثَ أنسٍ قال: (كَانَ النَّبِيُّ _صلعم_ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ فَكَانَ يَسْبِقُهُمْ عَلَى فَرَسٍ، قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا).
          2821- وحديثَ جُبَير بن مُطْعِمٍ: (بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَتَعَلَّقَتِ الأعرابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى شجرةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ _صلعم_ وقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلا كَذُوبًا، وَلا جَبَانًا).
          الشَّرح: الحديث الأوَّل سلف قريبًا في باب: مَنِ استعار مِنَ النَّاس الفرس [خ¦2627] ويأتي في الأدب [خ¦6212]، وأخرجه مسلمٌ في الفضائل، والتِّرمِذيُّ في الجهاد وقال: صحيحٌ، وكذا النَّسَائيُّ وابن ماجَهْ.
          وحديث جُبيرٍ يأتي في الخمس [خ¦3148]، والفرق بين الجبن والبخل: البخلُ: أن يَضِنَّ الإنسان بماله أن يبذله في المكارم واللَّوازم، والجبن: ضدُّ الشَّجاعة، وإنَّما يكون مِنْ ضعف القلب وخشية النَّفس.
          ثُمَّ الكلام مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: فيه _كما قال المهلَّب_ أنَّ الرَّئيس قد يتشجَّع في بعض الأوقات إذا وجد في نفسه قوَّةً، وإن كان اللَّازم له أن يحوط أمرَ المسلمين بحياطة نفسه، لكنَّه لمَّا رأى الفزع المستوليَ علم أنَّه لم يُكتاد بما أخبره الله به مِنَ العصمة، وأنَّه لا بدَّ أن يتمَّ أمره حتَّى تمرَّ المرأة مِنَ الحيرة حتَّى تطوف بالكعبة لا تخاف إلَّا الله، فلذلك أَمن فزعهم باستبراء الصَّحراء، وكذلك كلُّ رئيسٍ إذا استولى على قومه الفزعُ ووَجد مِنْ نفسه قوَّةً فينبغي له أن يُذهب عنهم الفزعَ باستبرائه بنفسه.
          ثانيها: فيه استعمالُ المجاز في الكلام، لقوله في الفرس: (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) فشبَّهه بذلك لأنَّ الجري منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماءُ البحر، وأوَّل مَنْ تكلَّم بهذا رسولُ الله صلعم، ويأتي له تتمَّةٌ في باب: اسم الفرس والحمار بعدُ إن شاء الله [خ¦2857].
          ثالثها: فيه استعارة الدَّوابِّ للحرب وغيره وقد سلف [خ¦2627]، وركوب الدَّابَّة عُريًا لاستعجال الحركة.
          رابعها: في الحديث الثَّاني أنَّه لا بأس للرَّجل الفاضل أن يخبر عن نفسه فيما فيه مِنَ الخِلال الشَّريفة عندما يخاف مِنْ سوء ظنِّ أهل الجَهالة به.
          خامسها: فيه أنَّ البخل والجبن والكذب مِنَ الخِلال المذمومة الَّتي لا تصلح أن تكون في رؤساء النَّاس، وأنَّ مَنْ كانت فيه خلَّةٌ منها لم يتَّخذه المسلمون إمامًا وَلا خليفةً، وكذلك مَنْ كان كَذوبًا فلا يُتَّخذ إمامًا في دين الله لأنَّ الكذب فجورٌ ويهدي إليه كما نطق الشَّارع به، ولا يُؤمَن على وحي الله وسُنَّة رسوله الفجَّارُ، وإنَّما يؤمن عليه أهلُ العدل، كما قال _◙_: ((يَحملُ هذا العلمَ مِنْ كلِّ خَلَفٍ عُدُولُه)).
          سادسها: أنَّ الإلحاف في المسألة قد يُردُّ بالقول والعِدة كما قال: (لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ) والوعد منه في حكم الإنجاز واجبٌ، لقوله: (ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلا كَذُوبًا) وفيه الصَّبر لجهَلَة النَّاس وجُفاة السُّؤال، وإنْ ناله في ذلك أذًى، وسؤاله رداءَه تأنيسًا لهم مِنَ الأذى بالجفاء عليه والمزاحمة في الطَّريق ثُمَّ ردَّ إلحافهم بأنْ أعلمهم أنَّ ما ملكه مقسومٌ بينهم، وأنَّ وعده منجزٌ لهم، وأنَّ الَّذي يسألونه مِنْ قتالهم وعونهم له ليسوا بالمتقدِّمين عليه فيه، بل هو المقدَّم عليهم في القتال وفي كلِّ حاله لقوله: (وَلا جَبَانًا) ولم ينكر أحدٌ ما وصَف به نفسه لاعترافهم به.
          سابعها: (العِضَاهِ) كما قال أبو عُبيدٍ: مِنَ الشَّجر كلُّ مَا لَه شوكٌ ومِنْ أعرفِ ذلك الطَّلْح والسَّلَم والسَّيَال والعُرْفُط والسَّمُر، وقال غيره: والقَتَاد، قال ابن التِّيْنِ: وتُقرأ بالهاء وقفًا ووصلًا، وهو شجر الشَّوك كالطَّلْح والعَوْسَج والسِّدْر، الواحدة عِضاهةٌ وعِضْهَة، وعِضَةٌ وإنَّما ذلك لأنَّهم حذفوا منها الهاء الأصليَّة كما حُذفت في شَفَةِ، ثُمَّ رُدَّت في عضاهٍ كما رُدَّت في شفاهٍ، وقال ابن فارسٍ: الواحدة عِضهٌ الهاء أصليَّةٌ، قال: وقد يُقال: عِضةٌ مثل عِزَةٍ، وهذا بعيرٌ عَضِهٌ إذا كان يأكل العِضاه.
          ثامنها: قوله: (مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ) أي مَرْجِعه، وذلك سنة ثمانٍ، والسَّمُرَة: واحدة السَّمُر، وهي شجرٌ طوالٌ متفرِّق الرُّؤوس قليل الظِّلِّ صغار الورق قِصار الشَّوك جيِّد الخشب، ولم يواره صفرٌ أو صمغٌ أبيض، قليل المنفعة، ويخرج مِنَ السَّمُرة شيءٌ يشبه الدَّم، يُقال: حاضت السَّمُرة إذا خرج منها ذلك.
          تاسعها: قوله: (نَعَمًا) وفي بعض النُّسخ: <نَعَم> وَهما صحيحان، فــ<نَعَمٌ> اسم (كَانَ) و(عدَدُ) خبرها، ومَنْ رواه (نَعَمًا) فهو خبر كان، قال ابن التِّيْنِ: وهذا أولى، لأنَّ نعمًا نكرةٌ، وهو أولى أن يكون خبرًا، ويصحُّ نصبه على التَّمييز، والنَّعم الإبل خاصَّةً، كذا قال أكثر أهل التَّفسير، وقال أبو جعفرٍ النَّحَّاس: قيل: النَّعَم للإبل والبقر والغنم، / وإن انفردت الإبل قيل لها: نَعَمٌ، وإن انفردت البقر والغنم لم يقل لها نعمٌ، واختُلف في الأنعام فقيل: هي جمع نعمٍ، فيكون للإبل خاصَّةً، وقيل: إذا قلتَ أنعام دخل فيه البقر والغنم، واختُلف في النَّعم هل تُؤنَّث فنقول: هذه نعمٌ؟ فأكثرهم على جوازه، وقال الفرَّاء: لا يُؤنَّث.
          العاشر: قوله: (ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا) قد تقدَّم بيانُه، وقال القزَّاز: البخيل: الشَّحيح، وقال ابن مَسعودٍ: لا يُعطي شيئًا، والشُّحُّ: أخذُك مَالَ أخيك بغير حقٍّ، وقال طاوسٌ: البُخل: أن تبخل بما في يديك، والشُّحُّ: أن تشحَّ بما في أيدي النَّاس، يحب أن يكون له مَا في أيدي النَّاس بالحلال والحرام، وقيل: البخل في اللُّغة دون الشُّحِّ، والشُّحُّ أشدُّ منه، يُقال: جوزةٌ شحيحةٌ إذا كانت صحيحةً، يُقال: بَخِلَ يَبْخَلُ بُخْلًا وبَخَلًا، و(الجَبَان) الَّذي يرع في الحرب ويضعف، وذلك يؤدِّي إلى الفِرار مِنَ الزَّحف وهي كبيرةٌ، يُقال: جَبُنَ يَجْبُن جُبْنًا وجُبُنًا، وجمعُ الجبان جُبنٌ، قال الشَّاعر:
جَهْلًا عَلَيْنَا وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكمُ                     لَبِئْسَتِ الخُلَّتَانِ الجَهْلُ والجُبُنُ