التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب في السهو إذا قام من ركعتي الفرض

          ░22▒ باب في السَّهو إذا قَامَ مِن رَكْعتَي الفَرْضِ.
          1224- 1225- ذَكَر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بنِ بُحَينةَ أنَّه قال: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ...) الحديث.
          وعنه: (قَامَ مِنَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ...) الحديث.
          وقد سلف في باب: مَن لم يرَ التشهُّدَ الأوَّل واجبًا. ويأتي قريبًا، وهذه الصَّلاة هي الظُّهر كما بُيِّنَتْ في الطريق الثاني.
          وهذا الحديث هو أحد أحاديث التي عليها مدار باب سجود السهو، وعليها تشعَّبت مذاهب العلماء.
          ثانيها: حديثُ أبي هُرَيرةَ في قِصَّة ذي اليدين.
          ثالثها: / حديثه: ((إِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى)).
          رابعها: حديث عِمْرَانَ بن حُصَينٍ.
          خامسها: حديث ابن مسعودٍ.
          سادسها: حديث عبد الرَّحمن بن عَوْفٍ.
          وقوله: (ثُمَّ قَامَ، فَلَمْ يَجْلِسْ) هو موضع استدلال البخاريِّ في الترجمة.
          وفيه سجود السهو قبل السلام، وقد اختلف العلماء فيه على ثلاث فرقٍ:
          فِرْقةٌ قالت: إنَّه قبل السلام مطلقًا، زيادةً كان أو نقصانًا، وتعلَّقت بظاهر هذا الحديث، وهو أظهر أقوال الشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ، حكاها أبو الخطَّابِ، وهو مرويٌّ عن أبي هُرَيرةَ ومكحولٍ والزُّهريِّ وربيعةَ والليثِ ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ والأوزاعيِّ. واحتجُّوا أيضًا بحديث ابن عبَّاسٍ عن عبد الرَّحمن بن عَوْفٍ في ذلك، أخرجه التِّرمذيُّ وابنُ ماجه، قال التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال مرَّةً: على شرط مسلمٍ. وقال البيهقيُّ: وصله يحيى بن عبد الله، وهو ضعيفٌ. وطرَّقه الدَّارَقُطْنِيُّ في «علله» ثمَّ قال: فرجع الحديث إلى إسماعيل بن مسلمٍ، وهو ضعيفٌ. واحتجُّوا أيضًا بأحاديث:
          أحدها: حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وفيه: ((يسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ)) أخرجه مسلمُ منفردًا به، ورواه مالكٌ مرسلًا، وقال الدَّارَقُطْنِيُّ: القول لمن وصله. وخالف البيهقيُّ فقال: كان الأصل الإرسال.
          ثانيها: حديث معاويةَ، أخرجه النَّسائيُّ مِن حديث ابن عَجْلانَ، عن محمَّد بن يوسفَ مولى عثمان، عن أبيه، عنه، ثمَّ قال: ويوسف ليس بمشهورٍ. قلتُ: ذكره ابن حِبَّان في «ثقاته»، وقال الدَّارَقُطْنِيُّ: لا بأس به. وأخرجه البيهقيُّ في «المعرفة» وقال: وكذلك فعله عُقْبَةُ بن عامرٍ الجُهَنيُّ وقال: السنَّة الذي صنعتُ. وكذا سجدهما ابن الزُّبير، كما قاله أبو داودَ، وهو قول الزُّهريِّ. قال البيهقيُّ: قد اختُلِف فيه عن عبد الله بن الزُّبير.
          ثالثها: حديث أبي هُرَيرةَ، وسيأتي، وأخرجه مسلمٌ والأربعة.
          رابعها: حديث ابن عبَّاسٍ أخرجه الدَّارَقُطْنِيُّ.
          خامسها: حديث ابن مسعودٍ، وغير ذلك مِن الأحاديث. قال التِّرمذيُّ: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول الشافعيِّ، يرى سجود السهو كلَّه قبل السلام، ويقول: هذا النَّاسخُ لغيره مِن الأحاديث. ويَذكُر أنَّ آخرَ فعل النَّبيِّ صلعم كان على هذا.
          وهو قولُ أكثرِ الفقهاء مِن أهل المدينة مثل يحيى بن سعيدٍ وربيعةَ وغيرهما، وقال الشافعيُّ في القديم: أخبرنا مطرِّف بن مازنٍ عن مَعْمَر، عن الزُّهريِّ قال: ((سجد رسول الله صلعم سجدتَي السهو قبل السَّلام وبعده، وآخرُ الأمرين قبل السلام)). وذَكَر أنَّ صحبة معاويةَ متأخِّرةٌ، وفي «سنن حَرْملةَ»: سأل عمر بن عبد العزيز ابنَ شهابٍ: متى يُسجد سجدتي السهو؟ فقال: قبل السلام لأنَّهما مِن الصَّلاة وما كان مِن الصَّلاة فهو مقدَّمٌ قبل السلام. فأخذ به عمر بن عبد العزيز.
          ثمَّ ذكر حديث أبي هُرَيرةَ الذي فيه: ((قبل أن يسلِّمَ ثمَّ سلَّم)). وقد سلف، وقال: ففي روايته ورواية معاويةَ، وصحبتُه متأخِّرةٌ. وحديثُ ابن بُحَيْنة تأكيدُ هذه الطريقة التي رواها مُطَرِّفٌ.
          قلت: وتحمل الأحاديث التي جاء فيها: بعد السلام، أن يكون المراد: بعد السلام على رسول الله في التشهُّدِ، أو تكون أُخِّرت سهوًا وعلم به بعده.
          وقالت فرقةٌ أخرى أنَّه بعده مطلقًا، وهو قول أبي حنيفةَ والثَّوريِّ والكوفيِّين، وهو مرويٌّ عن عليٍّ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وابن مسعودٍ وعمَّارٍ وابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير وأنسٍ والنَّخَعيِّ وابنِ أبي ليلى والحسنِ البصريِّ، واستدلُّوا بأحاديث:
          أحدها: حديث أبي هُرَيرةَ في قِصَّة ذي اليدين.
          ثانيها: حديث ابن مسعودٍ، وقد سلف الأوَّل في باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ويأتي أيضًا، والثاني في باب: ما جاء في القبلة، ويأتي بعدُ، وخبر الواحد رواه الجماعة كلُّهم، وفيه: ((فسجدَ سجدتين بعد ما سلَّمَ)).
          ثالثها: حديث عِمْرانَ بن حُصَينٍ، أخرجاه والأربعة، ورجَّح ابنُ القطَّان انقطاعه فيما بيَّن ابن سيرينَ وعِمْرانَ.
          رابعها: حديث عبد الله بن جعفرٍ، أخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ، وقال: فيه مصعبُ بن شَيْبةَ، وهو منكر الحديث، وعُتْبَةُ بن الحارث، وليس بمعروفٍ، وقيل: عُقْبة، وقال أحمد: لا يثبت، وقال البيهقيُّ: إسناده لا بأس به. وأخرجه ابن خزيمةَ في «صحيحه»، وقال: الصَّحيح عُتْبَةُ لا عُقْبَةُ.
          خامسها: حديث المغيرة بن شُعْبَةَ، رواه أبو داودَ والتِّرمذيُّوصحَّحه. قال البيهقيُّ في «المعرفة»: وإسناد حديث ابن بُحَيْنَةَ أصحُّ. واحتجُّوا أيضًا بحديث ثَوبان، وفيه مقالٌ، وبحديث ابن عُمَرَ وأنسٍ وسعدٍ. وقالت فرقةٌ ثالثةٌ: كلُّه قبلَه إلَّا في موضعين الذين ورد سجودُهما بعده، وهما: إذا سلَّم في بعضٍ مِن صلاة، أو تحرَّى الإمامَ فبنى على غالب ظنِّه لحديث ذي اليدين: ((سلَّم مِن ركعتين وسجد بعد السَّلام)). وحديث عِمْرَانَ: ((سلَّم مِن ثلاثٍ وسجد بعد السَّلام)). وحديث ابن مسعودٍ في التحرِّي بعد السَّلام، وهو قول أحمدَ بن حنبلٍ، وبه قال سليمانُ بن داودَ الهاشميُّ مِن أصحاب الشافعيِّ، وأبو خَيْثمةَ وابنُ المنذر.
          وذكر التِّرمذيُّ عن أحمدَ قال: ما رُوي عن رسول الله صلعم في سجدتَي السهو فيُستعمَل كلٌّ على جهته، وكلُّ سهوٍ ليس فيه عن النَّبيِّ صلعم ذِكرٌ فقبل السلام.
          وقال إسحاق نحو قول أحمدَ في هذا كلِّه، إلَّا أنَّه قال: كلُّ سهوٍ ليس فيه عن رسول الله صلعم ذِكرٌ فإن كانت زيادةً في الصَّلاة يسجدهما بعد السَّلام وإن كان نقصًا فقبله. وحكى أبو الخطَّابِ عن أحمدَ مثل قول إسحاقَ، وهو قول مالكٍ وأبي ثورٍ، وأحد أقوال الشافعيِّ.
          وعن ابن مسعودٍ: كلُّ شيءٍ شككتَ فيه مِن صلاتك مِن نقصانِ ركوعٍ أو سجودٍ فاستقبل أكبر ظنِّك، واجعل سجدتي السهو مِن هذا النَّحو قبل السلام، أو غير ذلك مِن السهو فاجعله بعد التسليم. وقال علقَمة والأسود: يسجد للنَّقص ولا يسجد للزيادة، حكاه عنهما الشيخ أبو حامدٍ وابن التِّين، وهو عجيبٌ.
          وقالت الظاهريَّةُ: لا يسجد للسهو إلَّا في المواضع الخمسة التي سجد فيها الشارع، وغيرُ ذلك فإن كان فرضًا أتى به، وإن كان ندبًا فليس عليه شيءٌ. قال داود: تُستعمل الأحاديث في مواضعها على ما جاءت، ولا يُقاس عليها، وقال ابن حزمٍ: سجود السهو كلُّه بعد السلام إلَّا في موضعين، فإنَّ السَّاهيَ فيهما مخيَّر بينَ أن يسجدَ سجدتي السهو بعد السلام، وإن شاء قبلَه.
          أحدهما: مَن سها فقام مِن ركعتين ولم يجلس ولم يتشهَّد _فهذه سواء كان إمامًا أو فذًّا_ فإنَّه إذا استوى قائمًا فلا يحلُّ له الرجوع إلى الجلوس، فإنْ رجع وهو عالمٌ بأنَّ ذلك لا يجوز ذاكرٌ لذلك بطلت صلاته، وإن فعل ذلك ساهيًا لم تبطل، وهو سهوٌ يوجب السجود، ولكن يتمادى في صلاته، فإذا أتمَّ التشهُّدَ الأخير فإن شاء سجد للسهو قبل السلام، وإن شاء بعده.
          والثاني: أن لا يدري في كلِّ صلاٍة تكون ركعتين أصلَّى ركعةً أم ركعتين؟ وفي كلِّ صلاةٍ تكون ثلاثًا أصلَّى ركعة أو ركعتين أو ثلاثًا؟ وفي كلِّ صلاة رباعيَّةٍ كذلك، فهذا يبني على الأقلِّ، فإذا تشهَّدَ الأخير فهو مخيَّرٌ كما ذكرنا.
          وللشافعيِّ قولٌ آخر: أنَّه يتخيَّر إنْ شاء قبل السلام وإن شاء بعدَه، والخلافُ عندنا في الإجزاء، وقيل: في الأفضل، وادَّعى الماورديُّ اتِّفاق الفقهاء _يعني: جميع العلماء_ عليه.
          وقال صاحب «الذَّخيرة» الحنفيُّ: لو سجد قبل السَّلام جاز عندنا.
          قال القُدُوريُّ: هذا في رواية «الأصول» قال: ورُوي عنهم أنَّه لا يجوز لأنَّه أدَّاه قبل وقته. ووجه رواية «الأصول» أنَّ فعلَه حصل في فعلٍ مجتهدٍ فيه، فلا يُحكَم بفساده، وهذا لو أمرناه بالإعادة يتكرَّر عليه السجود، ولم يقل به أحدٌ مِن العلماء، وذكر في «الهداية» أنَّ هذا الخلاف في الأولوية.
          وذكر ابن عبد البرِّ كلُّهم يقولون: لو سجد قبل السلام فيما يجب السجودُ بعدَه، أو بعدَه فيما يجب قبلَه لا يضرُّ، وهو موافقٌ لنقل الماورديِّ السَّالف.
          وقال الحازميُّ: طريق الإنصاف أن نقول: أمَّا حديث الزُّهريِّ الذي فيه دلالةٌ على النسخ ففيه انقطاعٌ، فلا يقع معارضًا للأحاديث الثابتة، وأمَّا بقيَّةُ الأحاديث في السجود قبل السلام وبعدَه قولًا وفعلًا، فهي وإن كانت ثابتةً صحيحةً وفيها نوع تعارضٍ، غير أنَّ تقديم بعضِها على بعض غيرُ معلومٍ برواية موصولةٍ صحيحةٍ، والأشبَهُ حَمل الأحاديث على التوسُّع وجواز الأمرين.
          فوائد: الأولى: الحديث دالٌّ على سنِّـيَّة التَّشهُّد الأوَّل والجلوس له، إذْ لو كانا واجبَين لَمَا جُبرا بالسجود كالركوع وغيره، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ، وقال أحمد في طائفةٍ قليلةٍ: هما واجبان، وإذا سها جبرهما بالسجود على مقتضى الحديث.
          الثانية: / التكبير مشروعٌ لسجود السهو بالإجماع، وقد ذُكر في حديث الباب وفي حديث أبي هُرَيرةَ أيضًا، وكان مِن شأنه صلعم أن يكبِّر في كلِّ خفضٍ ورفع، ومذهبُنا تكبيراتُ الصَّلاة كلُّها سنَّةٌ غير تكبيرة الإحرام فرُكْنٌ وهو قول الجمهور، وأبو حنيفةَ يُسمِّي تكبيرة الإحرام واجبةً، وعن أحمد في روايةٍ، والظاهريَّة أنَّها كلَّها واجبةٌ.
          الثالثة: الصحيح عندنا أنَّه لا يتشهَّدُ وكذا في سجود التلاوة وكالجنازة، ومذهب أبي حنيفةَ: يتشهَّدُ. وقال ابن قُدَامةَ: إن كان قبل السلام سلَّم عقِب التكبير، وإن كان بعده تشهَّدَ وسلَّم. قال: وبه قال ابنُ مسعودٍ والنَّخَعيُّ وقَتَادةُ والحكَمُ وحمَّاد والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشافعيُّ وأصحابُ الرأي في التشهُّدِ والتسليم، وعن النَّخَعيِّ أيضًا يتشهَّدُ لها ولا يُسلِّم، وعن أنسٍ والحسنِ والشَّعبيِّ وعطاءٍ ليس فيهما تشهُّدٌ ولا تسليمٌ، وعن سعد بن أبي وقَّاصً وعمَّارٍ وابن أبي ليلى وابنِ سِيرينَ وابن المنذر فيهما تسليمٌ بغير تشهُّدٍ.
          قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابتٌ مِن غير وجهٍ، وفي ثبوت التشهُّدِ عنه نظرٌ، وقال أبو عُمَرَ: لا أحفظه مرفوعًا مِن وجهٍ صحيحٍ، وعن عطاءٍ إن شاء تشهَّد وسلَّم وإن شاء لم يفعل. وفي «شرح الهداية»: يُسلِّم ثِنتين، وبه قال الثَّوريُّ وأحمدُ، ويُسلِّم عن يمينه ويساره، وفي «المحيط»: ينبغي أن يسلِّم واحدةً عن يمينه، وهو قول الكرخيِّ وبه قال النَّخَعيُّ كالجنازة، وفي «البدائع»: يسلِّم تلقاءَ وجهِهِ، وفي صفة السَّلام منهما روايتان عن مالكٍ:
          إحداهما: أنَّه في السِّرِّ والإعلان لسائر الصلوات.
          والثانية: أنَّه يُسِرُّ ولا يَجهَر به، وكذا الخلاف في الجنازة.
          الرابعة: لا يتكرَّرُ السجودُ حقيقةً فإنَّه صلعم لَمَّا تركَ التشهُّد الأوَّل، والجلوس له اكتفى بسجدتين، وهو قول أكثر أهل العلم، وعن الأوزاعيِّ إذا سها سهوَين مختلفين تكرَّرَ ويسجد أربعًا، وقال ابن أبي ليلى: يتكرَّرُ السُّجود بِعدد السهو، وقال ابن أبي حازمٍ وعبدُ العزيز بن أبي سَلَمةَ: إذا كان عليه سهوان في صلاةٍ واحدةٍ، منه ما يسجد له قبل السَّلام، ومنه ما يسجد له بعد السلام، فليفعلهما كذلك.
          الخامسة: جمهور العلماء على أنَّ سجود السهو في التَّطوُّع كالفرض، وقال ابن سيرينَ وقَتَادةُ: لا سجود فيه، وهو قولٌ غريبٌ ضعيفٌ عن الشافعيِّ.
          السَّادسة: متابعة الإمام عند القيام مِن هذا الجلوس واجبٌ، وقد وقع كذلك في الحديث، ويجوز أن يكونوا علموا حكمَ هذه الحادثة أو لم يعلموا فسبَّحوا، فأشار إليهم أن يقوموا. نعم اختلفوا فيمن قام مِن اثنتين ساهيًا هل يرجع إلى الجلوس؟ فقالت طائفةٌ بهذا الحديث، وأنَّ مَن استتم قائمًا، واستقلَّ مِن الأرض فلا يرجع وليمضِ في صلاته، وإن لم يستوِ قائمًا جلس، ورُوي ذلك عن علقمةَ وقَتَادةَ وعبد الرَّحمن بن أبي ليلى، وهو قول الأوزاعيِّ وابن القاسم في «المدوَّنة» والشافعيِّ. وقالت أخرى: إذا فارقت أَلْيَتُه الأرضَ وإن لم يعتدل فلا يرجع ويتمادى ويسجد قبل السلام. رواه ابن القاسم عن مالكٍ في «المجموعة».
          وقالت ثالثةٌ: يقعد وإن كان استتمَّ قائمًا، رُوي ذلك عن النُّعمان بن بَشيرٍ والنَّخَعيِّ والحسنِ البصريِّ إلَّا أنَّ النَّخَعيَّ قال: يجلس ما لم يفتتح القراءة، وقال الحسن: ما لم يركع. وفي «المدوَّنة» لابن القاسم قال: إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السلام. وقال أشهبُ وعليُّ بن زيادٍ: قبل السلام لأنَّه قد وجب عليه السجود في حين قياِمه، ورجوعُه إلى الجلوس زيادةٌ، وقال سُحنُون: تبطل صلاته. قال ابن القاسم: ولا يرجع إذا فارق الأرض ولم يستتمَّ قيامه، وخالفه ابن حبيبٍ.
          وعِلَّةُ الذين قالوا: يقعد وإن استتمَّ قائمًا القياسُ على إجماع الجميع أنَّ المصلِّيَ لو نسي الركوعَ مِن صلاته وسجد ثم ذَكَر وهو ساجدٌ أنَّ عليه أن يقوم حتَّى يركع، فكذلك حكمُه إذا نسي قعودًا في موضع قيامٍ حتَّى قام أنَّ عليه أن يعود له إذا ذكره، والصَّواب _كما قال الطَّبريُّ_ قولُ مَن قال: إذا استوى قائمًا يمضي في صلاته ولا يقعد، فإذا فرغ سجد للسهو لحديث الباب أنَّه صلعم حين اعتدل قائمًا لم يرجع إلى الجلوس بعد قيامه، وقد رُوي عن عُمَرَ وابن مسعودٍ ومعاويةَ وسعيدٍ والمغيرةِ بن شُعبةَ وعُقْبَةَ بن عامرٍ أنَّهم قاموا مِن اثنتين فلمَّا ذكروا بعد القيام لم يجلِسوا وقالوا: ((إنَّ النَّبيَّ صلعم كان يفعل ذلك)).
          وفي قول أكثر العلماء أنَّه مَن رجع إلى الجلوس بعد قيامه مِن ثنتين أنَّه لا تفسد صلاته إلَّا ما ذَكَر ابن أبي زيد عن سُحنُون أنَّه قال: أَفسَدَ الصَّلاة برجوعه. والصواب: قولُ الجماعة لأنَّ الأصلَ ما فَعَلَهُ، وتركُ الرجوع رخصةٌ، ويبيِّنُه أنَّ الجلسة الأولى لم تكن فريضة لأنَّها لو كانت فريضةً لرجع، وقد سجد عنها فلم يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سجودٌ ولا غيره، ولا بُدَّ مِن قضائها في العمد والسهو. وقد شذَّت فِرقةٌ فأوجبت الأولى فرضًا، وقالوا: هي مخصوصةٌ مِن بينِ سائر فروض الصَّلاة أن ينوب عنها سجودُ السهو كالعَرايا مِن المزابنة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمامَ راكعًا، لا يُقاس عليها / شيءٌ مِن أعمال البِرِّ في الصَّلاة.
          ومنهم مَن قال: هي فرضٌ، وأوجب الرُّجوع إليها ما لم يعمل المصلِّي بعدها ما يمنعه مِن الرجوع إليها، وذلك عقد الرَّكعة التي قام إليها برفع رأسه منها، وقولهم مردودٌ بحديث الباب فلا معنى للخوض فيه، وإنَّما ذُكر ليُعرف فساده.
          ونقل ابن بطَّالٍ إجماعَ العلماء على أنَّ مَن ترك الجلسة الأولى عامدًا أنَّ صلاتَه فاسدةٌ، وعليه إعادتُها، قالوا: وهي سنَّةٌ على حالها فحُكمُ تركِها عمدًا حكمُ الفرائض. ولا نُسلِّم له هذا الإجماع، نعم أجمعوا على أنَّ الجلسة الأخيرة فريضةٌ إلَّا ابنَ عُلِيَّة فقال: ليست بفرضٍ قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتجَّ بحديث الباب في القيام مِن ثنتين، والجمهورُ حُجَّةٌ على مَن خالفهم على أنَّه يوجب فسادَ مَن لم يأتِ بأعمال الصَّلاة كلِّها سننِها وفرائضِها، وقوله مردودٌ بقوله، ويردُّه أيضًا قوله صلعم: ((وتحليلها التسليم))، والتسليم لا يكون إلَّا بجلوسٍ فسقط قوله.
          السابعة: قوله: (فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ) أي: قارب قضاءها وأتى بجميعها غيرِ السلام، ولو طال سجود السهو قبل السلام، فهل يُعاد له التَّشهُّد؟ فيه روايتان عن مالكٍ:
          أشهرهما: نعم، وإن انصرف مِن صلاته فذكر سجدتي السَّهو قبل السلام بالقرب، قال محمَّدٌ: يسجدهما في موضعِ ذِكْرِ ذلك إلَّا في الجمعة فيتمُّها في المسجد، وإن أتمَّ ذلك في غير المسجد لم تُجْزِه الجمعةُ. قال الشيخ أبو محمَّدٍ: يريد إذا فاتتا قبل السلام ووجهُهُ أنَّه سجودٌ مِن صلاة الجمعة قبل التحلُّلِ منها، فلا يكون إلَّا في موضع الجمعة كسجود الصَّلاة.
          الثامنة: السجود في الزيادة لأحد معنيين ليشفع ما قد زاد إن كان زيادةً كثيرةً، كما سيأتي الحديث فيه. وإن كانت قليلةً فالسجدتان تُرغِمان أنفَ الشيطان _كما نطق به الحديث أيضًا_ الذي سها واشتغل حتى زاد فأغيظ الشيطان بهما لأنَّ السجود هو الذي استحقَّ إبليسُ بتركه العذابَ في الآخرة والخلودَ في النَّار، فلا أَرغَمَ له منه.
          فرع: سها في سجدتي السهو لا سهو عليه، قاله النَّخَعيُّ والحَكَمُ وحمَّادُ ومغيرةُ وابنُ ليلى والبِتِّيُّ والحسنُّ.